الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

{ ولقد آتينا داود منا فضلا } ثم بين ذلك فقال { يا جبال } أي قلنا يا جبال { أوبي معه } سبحي معه { والطير } كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح وعكفت عليه الطير من فوقه تسعده على ذلك { وألنا له الحديد } جعلناه لينا في يده كالطين المبلول والعجين وقلنا له

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

قوله تعالى : " ولقد آتينا داود منا فضلا " بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا ، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات ، وأحللنا بمن خالفهم العقاب . " آتينا " أعطينا . " فضلا " أي أمرا فضلناه به على غيره . واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال : الأول : النبوة . الثاني : الزبور . الثالث : العلم ، قال الله تعالى : " ولقد آتينا داود وسليمان علما " {[12960]} [ النمل : 15 ] . الرابع - القوة ، قال الله تعالى : " واذكر عبدنا داود ذا الأيد " {[12961]} [ ص : 17 ] . الخامس : تسخير الجبال والناس ، قال الله تعالى : " يا جبال أوبي معه " {[12962]} . السادس : التروية ، قال الله تعالى : " فغفرنا له ذلك " {[12963]} [ ص : 25 ] . السابع : الحكم بالعدل ، قال الله تعالى : " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض " {[12964]} [ ص : 26 ] الآية . الثامن : إلانة الحديد ، قال تعالى : " وألنا له الحديد " {[12965]} . التاسع : حسن الصوت ، وكان داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن . وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه ، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى : " يزيد في الخلق ما يشاء " {[12966]} [ فاطر : 1 ] على ما يأتي إن شاء الله تعالى . وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : ( لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ) . قال العلماء : المزمار والمزمور الصوت الحسن ، وبه سميت آلة الزمر مزمارا . وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع . وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب{[12967]} والحمد لله .

قوله تعالى : " ياجبال أوبي معه " أي وقلنا يا جبال أوبي معه ، أي سبحي معه ، لأنه قال تبارك وتعالى : " إنا سخرنا الجبال معه " يسبحن بالعشي والإشراق " [ ص : 18 ] . قال أبو ميسرة : هو التسبيح بلسان الحبشة ، ومعنى تسبيح الجبال : هو أن الله تعالى خلق ، فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة ، فسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام . وقيل : المعنى سيري معه حيث شاء ، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع ومنزل الليل . قال ابن مقبل :

لحقنا بحي أوَّبُوا السير بعدما *** دفعنا شُعاع الشمس والطرف يجنح

وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما : " أوبي معه " أي رجعي معه ، من آب يؤوب إذا رجع ، أوبا وأوبة وإيابا . وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار ، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه ، وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل . وقال وهب بن منبه : المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك ، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه . فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم إلى هذه الساعة ، فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة{[12968]} ، فإذا دخلت الفترة اهتاج ، أي ثار وتحرك ، وقوي بمساعدة الجبال والطير . وكان قد أعطي من الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته ، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا لصوته . " والطير " بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز ومسلمة بن عبد الملك ، عطفا على لفظ الجبال ، أو على المضمر في " أوبي " وحسنه الفصل بمع . الباقون بالنصب عطفا على موضع " يا جبال " أي نادينا الجبال والطير ، قال سيبويه . وعند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا له الطير . وقال الكسائي : هو معطوف ، أي وآتيناه الطير ، حملا على " ولقد آتينا داود ما فضلا " . النحاس : ويجوز أن يكون مفعولا معه ، كما تقول : استوى الماء والخشبة . وسمعت الزجاج يجيز : قمت وزيدا ، فالمعنى أوبي معه ومع الطير .

قوله تعالى : " وألنا له الحديد " قال ابن عباس : صار عنده كالشمع . وقال الحسن : كالعجين ، فكان يعمله من غير نار . وقال السدي : كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه كيف شاء ، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة . وقاله مقاتل . وكان يفرغ من الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل ، ثمنها ألف درهم . وقيل : أعطي قوة يثني بها الحديد ، وسبب ذلك أن داود عليه السلام ، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا ، وداود متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء ، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له :( ما قولك في هذا الملك داود ) ؟ فقال له الملك ( نعم العبد لولا خلة فيه ) قال داود : ( وما هي ) ؟ قال :( يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله ) . فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه ، فعلمه صنعة لبوس كما قال جل وعز في سورة الأنبياء{[12969]} ، فألان له الحديد فصنع الدروع ، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم ، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله ، وتصدق على الفقراء والمساكين ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين ، وهو أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح . ويقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف . والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب . ودرع المرأة مذكر .

مسألة : في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع ، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم ، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم ؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخلي عن الامتنان . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) . وقد مضى هذا في " الأنبياء " مجودا والحمد لله .


[12960]:راجع ج 13 ص 163 فما بعد.
[12961]:راجع ج 15 ص 158.
[12962]:راجع ج 15 ص 184 و ص 188 و 159.
[12963]:راجع ج 15 ص 184 و ص 188 و 159.
[12964]:راجع ج 15 ص 184 و ص 188 و 159.
[12965]:راجع ج 15 ص 184 و ص 188 و 159.
[12966]:راجع ص 318 فما بعد من هذا الجزء.
[12967]:راجع ج 1 ص 11 فما بعد.
[12968]:الفترة: الضعف.
[12969]:راجع ج 11 ص 320.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

ولما أشار سبحانه بهذا الكلام الذي دل فيه على نفوذ الأمر إلى أنه تارة يعدل وتارة يفضل ، وكان الفضل أكثر استجلاباً لذوي الهمم العلية والأنفس الأبية ، بدأ به في عبد من رؤوس المنيبين على وجه دال على البعث بكمال التصرف في الخافقين وما فيهما بأمور شوهدت لبعض عبيده تارة بالعيان وتارة بالآذان ، أما عند أهل الكتاب فواضح ، وأما عند العرب فبتمكينهم{[56443]} من سؤالهم فقد كانوا يسألونهم عنه صلى الله عليه وسلم وقال أبو حيان{[56444]} : إن بعض ذلك طفحت به أخبارهم ونطقت به أشعارهم{[56445]} ، فقال تعالى مقسماً تنبيهاً على أن إنكارهم للبعث إنكار لما يخبر به من المعجزات ، عاطفاً على ما تقديره : فلقد آتينا هذا الرجل الذي نسبتموه إلى الكذب أو الجنون منا فضلاً بهذه الأخبار المدلول عليها بمعجز القرآن فيا بعد ما بينه وبين{[56446]} ما نسبتموه إليه : { ولقد } أي{[56447]} وعزتنا وما ثبت لنا من الإحاطة بصفات الكمال بالاتصاف بالحمد لقد{[56448]} { آتينا } أي أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية{[56449]} المكنة بما لنا من العظمة { داود } .

ولما كان المؤتى قد تكون واسطة لمن منه الإيتاء ، بين أن الأمر ليس إلا منه فقال : { منا فضلاً } ودل على أن التنوين للتعظيم{[56450]} وأنه لا يتوقف تكوين{[56451]} شيء على غير إرادته بقوله ، منزلاً الجبال منزلة العقلاء الذين يبادرون إلى{[56452]} امتثال أوامره ، تنبيهاً على كمال قدرته وبديع تصرفه في الأشياء كلها{[56453]} جواباً لمن كأنه قال : ما ذلك الفضل ؟ مبدلاً من { أتينا } { يا } أي قلنا لأشد الأرض : يا { جبال أوبي } {[56454]}أي رجعي{[56455]} التسبيح وقراءة الزبور وغيرهما من ذكر الله { معه } أي كلما سبح ، فهذه آية أرضية مما هو{[56456]} أشد الأرض بما هو وظيفة العقلاء ، ولذلك عبر فيه بالأمر دلالة على عظيم القدرة .

ولما كانت الجبال أغلظ الأرض وأثقلها ، وكان المعنى : دعونا الجبال للتأويب معه ، فبادرت الإجابة لدعائنا ، لما تقدم من أنها من جملة من أبى أن يحمل الأمانة ، عطف على ذلك أخف الحيوان وألطفه ، ليكون آية سماوية ، على أنه يفعل في السماء ما يشاء ، فإنه لو أمات الطائر في جو السماء لسقط ، ولا فرق في ذلك بين عال وعال ، فقال : { والطير } أي دعوناها أيضاً ، فكانت ترجع معه الذكر فدل{[56457]} قرانها بالطير على ذكرها حقيقة كذكر الطير دفعاً لتوهم من يظنه{[56458]} رجع الصدا ، وقراءة يعقوب بالرفع عطف{[56459]} على لفظ " جبال " وقراءة غيره عطف{[56460]} على موضعه ، أو تكون الواو بمعنى مع أو بتقدير فعل من معنى ما مضى كسخرنا ، قال وهب بن منبه : كان يقول للجبال : سبحي ، وللطير : أجيبي ، ثم يأخذ وهو في تلاوة الزبور بين ذلك بصوته الحسن ، فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيب{[56461]} منه ، وذلك كما كان الحصى يسبح في كف النبي صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكما كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل{[56462]} ، وكما كان الحجر يسلم عليه ، وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه ، وحنين الجذع مشهور ، و {[56463]}كما كان الضب{[56464]} يشهد له والجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه ونحو ذلك ، وكما جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برده رحمة لها .

ولما ذكر طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله منها . ذكر ما أنشأه سبحانه من ذلك الأكثف ، وهو أصلب الأشياء فقال : { وألنا له الحديد } أي الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع يعمل منه ما يريد بلا نار ولا مطرقة ،


[56443]:في ظ وم ومد: فبتمكنهم.
[56444]:راجع النهر من البحر المحيط 7/261.
[56445]:في النهر: شعراؤهم.
[56446]:زيد من ظ وم ومد.
[56447]:زيد من ظ وم ومد.
[56448]:سقط من ظ.
[56449]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: غاية.
[56450]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: للعظمة.
[56451]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: تنوين.
[56452]:زيد من ظ وم ومد.
[56453]:في ظ: كله.
[56454]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: ارجعي.
[56455]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: ارجعي.
[56456]:سقط من ظ.
[56457]:زيد في ظ: فعل.
[56458]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يظن.
[56459]:زيد من ظ وم ومد.
[56460]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: عطفا.
[56461]:زيد من ظ وم ومد.
[56462]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: يأكل.
[56463]:سقط من ظ.
[56464]:من م ومد، وفي الأصل وظ: العنب.