الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَأَمَّا ٱلۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ} (15)

فإن قلت : بم اتصل قوله { فَأَمَّا الإنسان } ؟ قلت : بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } كأنه قيل : إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة ، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي ؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها .

فإن قلت : فكيف توازن قوله ، فأما الإنسان ، { إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ } وقوله : { وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه } وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما ، تقول : أما الإنسان فكفور ، وأما الملك فشكور . أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك ؛ وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك ؟ قلت : هما متوازنان من حيث إنّ التقدير : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه ؛ وذلك أن قوله { فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ } خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في «أما » من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير ، كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء ، فوجب أن يكون { فَيَقُولُ } الثاني خبر لمبتدأ واجب تقديره .

فإن قلت : كيف سمي كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء ؟ قلت : لأنّ كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع ؟ فالحكمة فيهما واحدة . ونحوه قوله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ،

فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه ، كما قال فأكرمه ونعمه ؟ قلت لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة ، وأما التقدير فليس بإهانة له ؛ لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ، ولكن تركا للكرامة ، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له ، وغير مكرم ولا مهين ؛ وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمني بالهدية ، ولا تقول : أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد لك .

فإن قلت : فقد قال : { فَأَكْرَمَهُ } فصحح إكرامه وأثبته ، ثم أنكر قوله : { رَبّى أَكْرَمَنِ } وذمّه عليه ، كما أنكر قوله : { أَهَانَنِ } وذمّه عليه . قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أنه إنما أنكر قوله ربي أكرمن وذمّه عليه ، لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته ، وهو قصده إلى أنّ الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له مستحقاً مستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم ، كقوله : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى } [ القصص : 78 ] ، وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة ما لا يعتدّ الله إلا به ، وهو التقَّوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها . والثاني : أن ينساق الإنكار والذمّ إلى قوله : { رَبّى أَهَانَنِ } يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان ، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله : { فَأَكْرَمَهُ } وقرىء «فقدر » بالتخفيف والتشديد وأكرمن ، وأهانن : بسكون النون في الوقف ، فيمن ترك الياء في الدرج مكتفياً منها بالكسرة .