اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ أَن يُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (37)

قوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله } الآية .

لمَّا تقدَّم قول القوم : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [ يونس : 20 ] ، وذكروا ذلك ؛ لاعتقادهم ؛ أنَّ القرآن ليس بمعجز ، وأنَّ محمداً أنَّما أتَى به من عند نفسه ؛ افتعالاً ، واختلاقاً ، وذكر - تعالى – أجوبة كثيرة عن هذا الكلام ، وامتدت تلك البيانات إلى هذا الموضع ، بين –تعالى- هنا : أنَّ إتيان محمَّد - عليه الصلاة والسلام - بهذا القرآن ، ليس هو افتراءٌ على الله - تعالى - ، وإنَّما هو وحي نازل عليه من عند الله ، وأنَّه مُبَرَّأ عن الافتعال ، والافتراء ، ثم احتجَّ على صحَّة هذا الكلام ، بقوله : { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] .

قوله : " أن يفترى " : فيه وجهان :

أحدهما : أنَّه خبرُ " كان " ، تقديره : وما كان هذا القرآن افتراء ، أي : ذا افتراء ، إذ جعل نفس المصدر مبالغةً ، أو يكون بمعنى : مُفْتَرى .

والثاني : زعم بعضهم : أنَّ " أنْ " هذه هي المضمرة بعد لام الجُحُودِ ، والأصل : وما كان هذا القرآنُ ليفترى ، فلمَّا حذفتْ لامُ الجحود ، ظهرت " أنْ " ، وزعم : أنَّ اللاَّم ، و " أنْ " يتعاقبان ، فتحذف هذه تارة ، وتَثْبُت الأخرى ، وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه ، وعلى هذا القول ، يكون خبر " كان " محذُوفاً ، و " أنْ " وما في حيِّزها ، متعلقةٌ بذلك الخبر ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك [ البقرة143 ] ، و " مِن دُون اللهِ " متعلِّق ب " يُفْتَرَى " والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائدٌ على القرآن .

قوله : { ولكن تَصْدِيقَ } : عطف على خبر " كانَ " ووقعت " لكن " هنا أحسن موقع ؛ إذ هي بين نقيضين : وهُما التكذيبُ ، والتَّصْديقُ المتضِّمن للصدق . وقرأ الجمهور : " تَصْدِيقَ " و " تَفْصِيلَ " بالنصب ، وفيه أوجهٌ :

أحدها : العطفُ على خبر " كَانَ " كما تقدَّم ، ومثله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله } [ الأحزاب : 40 ] .

والثاني : أنَّه خبر " كَانَ مضمرةٌ ، تقديره : ولكن كان تصديقَ ، وإليه ذهب الكسائيُّ ، والفرَّاء ، وابن سعدان ، والزجاج ، وهذا كالذي قبله في المعنى .

والثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدَّر ، أي : وما كان هذا القرآنُ أن يفترى ، ولكن أُنزل للتَّصديق .

والرابع : أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر أيضاً ، والتقدير : ولكن يُصدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب .

وقرأ عيسى{[18458]} بن عمر " تَصْدِيقُ " بالرفع ، وكذلك التي في يوسف ، ووجه الرَّفْعُ على خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : ولكن هو تصديقُ ؛ ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]

ولَسْتُ الشَّاعِرَ السَّفْسَافَ فِيهِمْ *** ولكِنْ مِدْرَهُ الحَرْبِ العَوانِ{[18459]}

برفع " مِدْرَهُ " ، على تقدير : أنَا مِدْرَهُ .

وقال مكي{[18460]} : " ويجوز عندهما - أي الكسائي والفرَّاء - . الرَّفعُ على تقدير : ولكن هو تصديقُ " ، وكأنَّه لم يطَّلِعْ على أنَّها قراءةٌ ، وقد ورد في قراءات السَّبعة : التَّخفيفُ ، والتَّشديدُ في " لكن " ، نحو : { ولكن الشياطين } [ البقرة : 102 ] ، { ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] .

قوله : " لاَ رَيْبَ فِيهِ " : فيه أوجه :

أحدها : أن يكون حالاً من " الكتاب " وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه ؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى ، والمعنى : وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب .

والثاني : أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب .

والثالث : أنَّه معترضٌ بين " تَصْديقَ " ، وبين " من ربِّ العالمينَ " .

قال الزمخشري{[18461]} : " فإن قلت : بِمَ اتَّصلَ قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } ؟ .

قلت : هو داخلٌ في حيِّز الاستدراك ، كأنَّه قيل : ولكن تصديقاً ، وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ ، كائناً من ربِّ العالمينَ ، ويجُوزُ أن يراد به : ولكن كان تصديقاً من ربِّ العالمين ، وتفصيلاً منه ، لا ريب في ذلك ، فيكون " من ربِّ العالمينَ " : متعلِّقاً ب " تَصْديقَ " ، و " تَفْصِيلَ " ، ويكون " لا رَيْبَ فيهِ " : اعتراضاً ، كما تقول : زيدٌ - لا شكَّ فيه - كريمٌ " . انتهى .

قوله : " مِن ربِّ " : يجوز فيه أوجهٌ :

أحدها : أن يكن متعلِّقاً ب " تَصْدِيقَ " أو ب " تَفْصِيلَ " وتكون المسألة من باب التنازع ، إذ يصحُّ أن يتعلَّق بكلِّ من العاملين ، من جهة المعنى ، وهذا هو الذي أراد الزمخشري ، بقوله : فيكون " من ربِّ " : متعلقاً ب " تَصْدِيقَ " ، و " تَفْصِيلَ " ، يعني : أنه متعلِّقٌ بكلٍ منهما ، من حيث المعنى ، وأمَّا من حيث الإعرابُ ، فلا يتعلَّق إلاَّ بأحدهما ، وأمَّا الآخرُ فيعملُ في ضميره ، كما تقدَّم تحريره ، والإعمالُ هنا حينئذٍ إنَّما هو للثَّاني ، بدليل الحذف من الأول .

والوجه الثاني : أنَّ " مِن ربِّ " حال ثانية .

والثالث : أنَّه متعلِّقٌ بذلك الفعل المقدَّر ، أي : أنزل للتَّصديق من ربِّ العالمين .

فصل

المعنى : وما ينبغي لمثل هذا القرآن ، أن يُفْتَرَى من دون الله ، كقوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] ، وقيل : " أنْ " بمعنى : اللاَّم ، أي : وما كان هذا القرآنُ ليُفْتَرَى ، كقوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] ، و{ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } [ آل عمران : 179 ] ، و{ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } [ آل عمران : 179 ] أي : ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله ، والافتراءُ : الافتعال ، من أفريتُ الأديم : إذا قدَّرته للقطع ، ثم استعمل في الكذب ، كما استعمل قولهم : اختلق فلان الحديث في الكذب ، ثم إنَّهُ - تعالى - احتجَّ على صحَّةِ الدَّعوى بأمور :

الأول : قوله : { ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : إنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - كان رجُلاً أمِّيًّا ، لم يتعلَّم العِلْمَ ، وما كانت مكَّةُ بلدة العلماء ، وليس فيها شيء من كتب العلم ، ثم إنَّه - عليه الصلاة والسلام - أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين ، والقومُ كانوا في غاية العداوة لهُ ، فلوْ لمْ تكُن ههذ الأقاصيص موافقة لما في التَّوراة ، والإنجيل ، لقدحوا فيه وبالغُوا في الطَّعن ، فلمَّا لم يقُل أحدٌ ذلك ، مع شدَّة حرصهم على الطَّعن فيه ، علمنا أنَّه أتى بتلك الأقاصيص ، مطابقة للتوراة والإنجيل ، مع أنَّه ما طالعهما ، ولا تتلمذ لأحدٍ فيهما ، فدلَّ ذلك : على أنَّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي .

الحجة الثانية : أنَّ كتب الله المنزَّلة ، دلَّت على مقدم محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم في تفسير قوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] فكان مجيءُ محمَّد صلى الله عليه وسلم موافقاً لهما في تلك الكتب ، ومصدقاً لما فيها من البشارة بمجيئه ، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه .

والدليل الثاني : قوله تعالى : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } [ يوسف : 111 ] واعلم : أنَّ العُلُوم : إمَّا أن تكون دينيَّة ، أو ليست دينيَّة .

والقسم الأول أرفع حالاً ، وأعظم شأناً من القسم الثاني ، والدينيَّة : إمَّا أن تكون علم العقائد والأديان ، أو علم الأعمال .

فأما علم العقائد والأديان : فهو عبارةٌ عن معرفة ذاته ، ومعرفة صفات جلاله ، وصفات أفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل ، وتفاريعها ، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيءٌ من الكتب ، ولا يقرب منه .

وأمَّا علم الأعمال فهو : إمَّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة ، وهو علم الفقه ، ومعلوم أنَّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن .

وإمَّا عبارةٌ عن علم الباطن ورياضة القلوب ، ففي القرآن من مباحث هذا العلم ، ما لا يكادُ يوجدُ في غيره ، كقوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] ، وقوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] الآية ، إلى غير ذلك .

فثبت أنَّ القرآن مشتملٌ على تفاصيل جميع العُلُوم الشريفة ؛ فكان ذلك مُعْجِزاً .

ثم قال : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } وذلك لأنَّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة ؛ لا بُدَّ وأن يقع فيه نوع من التناقض ، وحيثُ خلا هذا الكتاب عنه ، علمنا أنَّه من عند الله ، قال - تعالى - : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .


[18458]:ينظر: إتحاف 2/111، الكشاف 2/347، البحر المحيط 5/159، الدر المصون 4/33.
[18459]:ينظر: البيت في البحر المحيط 5/159 والدر المصون 4/33.
[18460]:ينظر: المشكل 1/382.
[18461]:ينظر: الكشاف 2/347.