قوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله } الآية .
لمَّا تقدَّم قول القوم : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [ يونس : 20 ] ، وذكروا ذلك ؛ لاعتقادهم ؛ أنَّ القرآن ليس بمعجز ، وأنَّ محمداً أنَّما أتَى به من عند نفسه ؛ افتعالاً ، واختلاقاً ، وذكر - تعالى – أجوبة كثيرة عن هذا الكلام ، وامتدت تلك البيانات إلى هذا الموضع ، بين –تعالى- هنا : أنَّ إتيان محمَّد - عليه الصلاة والسلام - بهذا القرآن ، ليس هو افتراءٌ على الله - تعالى - ، وإنَّما هو وحي نازل عليه من عند الله ، وأنَّه مُبَرَّأ عن الافتعال ، والافتراء ، ثم احتجَّ على صحَّة هذا الكلام ، بقوله : { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [ يونس : 38 ] .
قوله : " أن يفترى " : فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه خبرُ " كان " ، تقديره : وما كان هذا القرآن افتراء ، أي : ذا افتراء ، إذ جعل نفس المصدر مبالغةً ، أو يكون بمعنى : مُفْتَرى .
والثاني : زعم بعضهم : أنَّ " أنْ " هذه هي المضمرة بعد لام الجُحُودِ ، والأصل : وما كان هذا القرآنُ ليفترى ، فلمَّا حذفتْ لامُ الجحود ، ظهرت " أنْ " ، وزعم : أنَّ اللاَّم ، و " أنْ " يتعاقبان ، فتحذف هذه تارة ، وتَثْبُت الأخرى ، وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه ، وعلى هذا القول ، يكون خبر " كان " محذُوفاً ، و " أنْ " وما في حيِّزها ، متعلقةٌ بذلك الخبر ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك [ البقرة143 ] ، و " مِن دُون اللهِ " متعلِّق ب " يُفْتَرَى " والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائدٌ على القرآن .
قوله : { ولكن تَصْدِيقَ } : عطف على خبر " كانَ " ووقعت " لكن " هنا أحسن موقع ؛ إذ هي بين نقيضين : وهُما التكذيبُ ، والتَّصْديقُ المتضِّمن للصدق . وقرأ الجمهور : " تَصْدِيقَ " و " تَفْصِيلَ " بالنصب ، وفيه أوجهٌ :
أحدها : العطفُ على خبر " كَانَ " كما تقدَّم ، ومثله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله } [ الأحزاب : 40 ] .
والثاني : أنَّه خبر " كَانَ مضمرةٌ ، تقديره : ولكن كان تصديقَ ، وإليه ذهب الكسائيُّ ، والفرَّاء ، وابن سعدان ، والزجاج ، وهذا كالذي قبله في المعنى .
والثالث : أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدَّر ، أي : وما كان هذا القرآنُ أن يفترى ، ولكن أُنزل للتَّصديق .
والرابع : أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر أيضاً ، والتقدير : ولكن يُصدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب .
وقرأ عيسى{[18458]} بن عمر " تَصْدِيقُ " بالرفع ، وكذلك التي في يوسف ، ووجه الرَّفْعُ على خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : ولكن هو تصديقُ ؛ ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]
ولَسْتُ الشَّاعِرَ السَّفْسَافَ فِيهِمْ *** ولكِنْ مِدْرَهُ الحَرْبِ العَوانِ{[18459]}
برفع " مِدْرَهُ " ، على تقدير : أنَا مِدْرَهُ .
وقال مكي{[18460]} : " ويجوز عندهما - أي الكسائي والفرَّاء - . الرَّفعُ على تقدير : ولكن هو تصديقُ " ، وكأنَّه لم يطَّلِعْ على أنَّها قراءةٌ ، وقد ورد في قراءات السَّبعة : التَّخفيفُ ، والتَّشديدُ في " لكن " ، نحو : { ولكن الشياطين } [ البقرة : 102 ] ، { ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] .
قوله : " لاَ رَيْبَ فِيهِ " : فيه أوجه :
أحدها : أن يكون حالاً من " الكتاب " وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه ؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى ، والمعنى : وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب .
والثاني : أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب .
والثالث : أنَّه معترضٌ بين " تَصْديقَ " ، وبين " من ربِّ العالمينَ " .
قال الزمخشري{[18461]} : " فإن قلت : بِمَ اتَّصلَ قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } ؟ .
قلت : هو داخلٌ في حيِّز الاستدراك ، كأنَّه قيل : ولكن تصديقاً ، وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ ، كائناً من ربِّ العالمينَ ، ويجُوزُ أن يراد به : ولكن كان تصديقاً من ربِّ العالمين ، وتفصيلاً منه ، لا ريب في ذلك ، فيكون " من ربِّ العالمينَ " : متعلِّقاً ب " تَصْديقَ " ، و " تَفْصِيلَ " ، ويكون " لا رَيْبَ فيهِ " : اعتراضاً ، كما تقول : زيدٌ - لا شكَّ فيه - كريمٌ " . انتهى .
قوله : " مِن ربِّ " : يجوز فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكن متعلِّقاً ب " تَصْدِيقَ " أو ب " تَفْصِيلَ " وتكون المسألة من باب التنازع ، إذ يصحُّ أن يتعلَّق بكلِّ من العاملين ، من جهة المعنى ، وهذا هو الذي أراد الزمخشري ، بقوله : فيكون " من ربِّ " : متعلقاً ب " تَصْدِيقَ " ، و " تَفْصِيلَ " ، يعني : أنه متعلِّقٌ بكلٍ منهما ، من حيث المعنى ، وأمَّا من حيث الإعرابُ ، فلا يتعلَّق إلاَّ بأحدهما ، وأمَّا الآخرُ فيعملُ في ضميره ، كما تقدَّم تحريره ، والإعمالُ هنا حينئذٍ إنَّما هو للثَّاني ، بدليل الحذف من الأول .
والوجه الثاني : أنَّ " مِن ربِّ " حال ثانية .
والثالث : أنَّه متعلِّقٌ بذلك الفعل المقدَّر ، أي : أنزل للتَّصديق من ربِّ العالمين .
المعنى : وما ينبغي لمثل هذا القرآن ، أن يُفْتَرَى من دون الله ، كقوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] ، وقيل : " أنْ " بمعنى : اللاَّم ، أي : وما كان هذا القرآنُ ليُفْتَرَى ، كقوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] ، و{ مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين } [ آل عمران : 179 ] ، و{ وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } [ آل عمران : 179 ] أي : ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله ، والافتراءُ : الافتعال ، من أفريتُ الأديم : إذا قدَّرته للقطع ، ثم استعمل في الكذب ، كما استعمل قولهم : اختلق فلان الحديث في الكذب ، ثم إنَّهُ - تعالى - احتجَّ على صحَّةِ الدَّعوى بأمور :
الأول : قوله : { ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : إنَّ محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - كان رجُلاً أمِّيًّا ، لم يتعلَّم العِلْمَ ، وما كانت مكَّةُ بلدة العلماء ، وليس فيها شيء من كتب العلم ، ثم إنَّه - عليه الصلاة والسلام - أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين ، والقومُ كانوا في غاية العداوة لهُ ، فلوْ لمْ تكُن ههذ الأقاصيص موافقة لما في التَّوراة ، والإنجيل ، لقدحوا فيه وبالغُوا في الطَّعن ، فلمَّا لم يقُل أحدٌ ذلك ، مع شدَّة حرصهم على الطَّعن فيه ، علمنا أنَّه أتى بتلك الأقاصيص ، مطابقة للتوراة والإنجيل ، مع أنَّه ما طالعهما ، ولا تتلمذ لأحدٍ فيهما ، فدلَّ ذلك : على أنَّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي .
الحجة الثانية : أنَّ كتب الله المنزَّلة ، دلَّت على مقدم محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم في تفسير قوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] فكان مجيءُ محمَّد صلى الله عليه وسلم موافقاً لهما في تلك الكتب ، ومصدقاً لما فيها من البشارة بمجيئه ، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه .
والدليل الثاني : قوله تعالى : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } [ يوسف : 111 ] واعلم : أنَّ العُلُوم : إمَّا أن تكون دينيَّة ، أو ليست دينيَّة .
والقسم الأول أرفع حالاً ، وأعظم شأناً من القسم الثاني ، والدينيَّة : إمَّا أن تكون علم العقائد والأديان ، أو علم الأعمال .
فأما علم العقائد والأديان : فهو عبارةٌ عن معرفة ذاته ، ومعرفة صفات جلاله ، وصفات أفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل ، وتفاريعها ، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيءٌ من الكتب ، ولا يقرب منه .
وأمَّا علم الأعمال فهو : إمَّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة ، وهو علم الفقه ، ومعلوم أنَّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن .
وإمَّا عبارةٌ عن علم الباطن ورياضة القلوب ، ففي القرآن من مباحث هذا العلم ، ما لا يكادُ يوجدُ في غيره ، كقوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] ، وقوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] الآية ، إلى غير ذلك .
فثبت أنَّ القرآن مشتملٌ على تفاصيل جميع العُلُوم الشريفة ؛ فكان ذلك مُعْجِزاً .
ثم قال : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } وذلك لأنَّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة ؛ لا بُدَّ وأن يقع فيه نوع من التناقض ، وحيثُ خلا هذا الكتاب عنه ، علمنا أنَّه من عند الله ، قال - تعالى - : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.