اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّۚ قُلِ ٱللَّهُ يَهۡدِي لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن يَهۡدِيٓ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّيٓ إِلَّآ أَن يُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ} (35)

قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق } الآية .

وهذه حجَّة ثالثة . واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً ، ثم بالهداية ثانياً ، عادة مُطَّردة في القرآن ، قال - تعالى - حكاية عن الخليل عليه الصلاة والسلام : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] ، وحكى عن موسى - عليه الصلاة والسلام - في جوابه لفرعون : { رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، وأمر محمَّداً - عليه الصلاة والسلام - فقال : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 1-3 ] .

واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد ، هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الرُّوح ، هو الهدايةُ .

والمقصودُ من خلق الجسدِ : حصول الهداية للرُّوح ، كما قال - تعالى - : { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] ، وهذا كالتَّصريح بأنَّه تعالى إنَّما خلق الجسد ، وأعطى الحواسّ ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف ، والعلم .

قوله : { يهدي إِلَى الحق } ، قد تقدَّم في أول الكتاب : أنَّ " هَدَى " يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما : إمَّا باللاَّم أو بإلى ، وقد يحذفُ الحرفُ تخفيفاً [ الفاتحة : 6 ] ، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر ، فعدَّى الأول والثالث ب " إلى " ، والثاني باللاَّم ، وحذف المفعول الأول من الأفعال الثلاثة ، والتقدير : هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق ، قل الله يهدي من يشاء للحقِّ ، أفمنْ يهدي غيره إلى الحقِّ ، وزعم الكسائي ، والفرَّاء ، وتبعهما الزمخشري : أنَّ " يَهْدِي " الأول قاصرٌ ، وأنَّه بمعنى : اهتدى ، وفيه نظر ؛ لأنَّ مقابله ، وهو { قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ } متعدٍّ ، وقد أنكر المبرِّدُ أيضاً مقالة الكسائي ، والفراء ، وقال : لا نَعْرِفُ " هَدَى " بمعنى : " اهتدى " .

قال شهاب الدِّين " الكسائي والفرَّاء أثبتاه بما نقلاه ، ولكن إنَّما ضعف ذلك هنا ؛ لما ذكرتُ لك من مقابلته بالمتعدِّي ، وقد تقدَّم أنَّ التعدية ب " إلى " أو اللاَّم ، من باب التَّمن في البلاغة ، ولذلك قال الزمخشري : " يقال : هداه للحقِّ وإلى الحقِّ ، فجمع بين اللغتين " ، وقال غيره : " إنَّما عدَّى المسند إلى الله باللاَّم ؛ لأنَّها أدلُّ في بابها على المعنى المراد من " إلى " ؛ إذ أصلها لإفادة الملك ، فكأنَّ الهداية مملوكةٌ لله - تعالى - " . وفيه نظر ؛ لأنَّ المراد بقوله : { أَفَمَن يهدي إِلَى الحق } هو الله - تعالى - ، مع تعدِّي الفعل المسند إليه ب " إلى " .

قوله : { أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ } : خبرٌ لقوله : " أَفَنْ يهدي " ، و " أنْ " في موضع نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حذف الخافض ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، وتقدير هذا كلّه : أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يهدي . ذكر ذلك مكِّي بن أبي طالب ، فجعل " أحَقُّ " هنا على بابها من كونها للتفضيل ، وقد منع أبو حيَّان كونها للتَّفضيل ، فقال : و " أحَقُّ " ليست للتفضيل ، بل المعنى : " حَقيقٌ بأن يُتَّبع " ، وجوَّز مكِّي أيضاً في المسألة وجهين آخرين :

أحدهما : أن تكون " مَنْ " مبتدأ أيضاً ، و " أنْ " في محلِّ رفعٍ ، بدلاً منها بدل اشتمال ، و " أحَقُّ " خبرٌ على ما كان .

والثاني : أن يكون " أنْ يُتَّبَع " في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و " أحَقُّ " خبره مقدَّمٌ عليه . وهذه الجملة خبر ل " مَنْ يَهْدِي " ، فتحصَّل في المسألة ثلاثة أوجُه .

قوله : { أَمَّن لاَّ يهدي } : نسقٌ على " أفَمَنْ " ، وجاء هنا على الأفصح ، مِنْ حيث إنَّهُ قد فصل بين " أمْ " وما عُطفتْ عليه بالخبر ، كقولك : أزَيْدٌ قائمٌ أم عمرو ، ومثله : { أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد } [ الفرقان : 15 ] ، وهذا بخلاف قوله - تعالى - : { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 109 ] وسيأتي هذا في موضعه ، وقرأ أبو بكر عن عاصم{[18450]} : بكسر ياء " يهدِّي " وهائه ، وحفص{[18451]} بكسر الهاء دون الياء ، فأما كسر الهاء ؛ فلالتقاء الساكنين ، وذلك أنَّ أصله " يَهْتَدِي " ، فلمَّا قُصِدَ إدغامُه سكنتِ التاء ، والهاءُ قبلها ساكنة ، فكسرت الهاءُ لالتقاء الساكنين ، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر ، وقال أبو حاتم : في قراءة حفصٍ " هي لغة سُفْلَى مُضَرَ " .

ونقل عن سيبويه : أنَّه لا يجيز " يِهْدِي " ، ويجيز " تِهْدِي ، وإهْدِي " ، قال : " لأنَّ الكسرة تثقلُ في الياء " ، يعني : يُجيز كسر حرفِ المضارعة من هذا النَّحو ، نحو : تِهْدِي ونِهْدِي وإِهْدِي ، إذ لا ثقل في ذلك ، ولم يجزهُ في الياء ؛ لثقل الحركة المجانسةِ لها عليها ، وهذا فيه غضٌّ من قراءة أبي بكرٍ ، لكنه قد تواتر قراءة ، فهو مقبولٌ ، وقرأ{[18452]} أبو عمرو وقالون ، عن نافع : بفتح الياء ، واختلاس فتحة الهاء ، وتشديد الدَّال ، وذلك أنَّهُمَا لمَّا ثقَّلا الفتحة للإدغام ، اختلسا الفتحة ؛ تنبيهاً على أنَّ الهاءَ ليس أصلها الحركة ، بل السُّكون ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر{[18453]} ، وورش : بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل ، وقد رُوي عن أبي عمرو ، وقالوا : اختلاسُ كسرةِ الهاءِ ، على أصل التقاء الساكنين ، والاختلاسُ للتنبيه على أنَّ أصل الهاءِ السُّكون كما تقدَّم ، وقرأ أهلُ المدينة{[18454]} - خلا ورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدَّال ، وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمع بين السَّاكنين ، قال المبرد : " مَنْ رَامَ هذا ، لا بد أن يحرك حركة خفيَّة " قال أبو جعفر النَّحاس : لا يقدر أحدٌ أن ينطقَ به . قال شهاب الدِّين{[18455]} : " وقد قال في التيسير : " والنَّصُّ عن قالون بالإسكان " ، قلت : ولا بعد في ذلك ؛ فقد تقدَّم أنَّ بعض القُرَّاء يَقْرَأ { نِعْمَّا } [ النساء : 58 ] و{ لاَ تَعْدُواْ } [ النساء : 154 ] بالجمع بين الساكنين ، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة ، في قوله { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } [ البقرة : 20 ] ، وسيأتي مثل هذا في { يَخِصِّمُونَ } [ يس : 49 ] .

وقرأ الأخوان{[18456]} " يَهْدِي " بفتح الياء ، وسكون الهاء ، وتخفيف الدال ، من هدى يَهْدي ، وفيه قولان :

أحدهما : أنَّ " هَدَى " بمعنى : اهتدى .

والثاني : أنَّه متعدٍّ ، ومفعوله محذوفٌ كما تقدَّم ، وتقدم في قول الكسائي ، والفرَّاء في ذلك ، وردُّ المبرد عليهما .

وقال ابن عطيَّة : " والذي أقول : قراءةُ حمزة ، والكسائيُّ ؛ تحتمل أن يكون المعنى : أمْ مَنْ لا يهدي أحداً ، إلاَّ أنْ يهدي ذلك الأحدُ بهداية الله ، وأمَّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها : أمْ مَنْ لا يهتدي ، إلاَّ أنْ يُهْدَى . فيتجه المعنى على ما تقدَّم " ، ثم قال : " وقيل : تمَّ الكلامُ عند قوله : " أمْ مَنْ لا يَهَدِّي " ، أي : لا يهدِّي غيره " ، ثم قال : " إلاَّ أنَّ يَهْدَى : استثناءٌ منقطع ، أي : لكنه يحتاجُ إلى أن يُهْدَى ، كما تقول : فلانُ لا يسمع غيره ، إلاَّ أنْ يسمع ، أي : لكنَّه يحتاجُ إلى أن يسمع " . انتهى ، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً ؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية ، بخلافِ الأصنام ، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له ، أي : لا يهدي لشيءٍ من الأشياء ، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره .

قوله : " فَمَا لَكُمْ " : مبتدأ وخبر ، ومعنى الاستفهام هنا : الإنكارُ والتعجُّبُ ، أي : أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء ؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم ، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم ؟ وقد تقدَّم : أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب ، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده ، نحو : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] ، { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ } [ المائدة : 84 ] إلى غير ذلك ، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً ؛ لأنَّها استفهاميَّة ، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً .

وقوله : { كَيْفَ تَحْكُمُونَ } : استفهامٌ آخر ، أي : كيْفَ تحكمُونَ بالباطل ، وتجعلُون لله أنْداداً ، وشُركاء ؟ .

فصل

المعنى : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي } : يرشد ، " إِلَى الحق " فإذا قالوا : لا ، ولا بدَّ لهم من ذلك { قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ } أي : إلى الحقِّ { أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى } أي : الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع ، أم الصَّنم الذي لا يهتدي ، إلاَّ أنْ يُهْدَى ؟ فإن قيل : الأصنام جمادات لا تقبل الهداية ، فكيف قال : { إِلاَّ أَن يهدى } ، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي ، ولا أنْ يُهْدَى ؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنَّ المراد من قوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } الأصنام ، والمراد من قوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق } : رؤساء الكفر ، والضلال ، والدعاة إليهما ؛ لقوله - تعالى - : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] إلى قوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] أي : أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين ، بالدَّلائل العقليَّة ، والنقليَّة ، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم ، إلاَّ إذا هداهم الله ، فكان التَّمسك بدين الله ، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال .

وثانيها : أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ : الانتقال ، والهدى : عبارة عن النَّقل والحركة ، يقال : أهديت المرأة إلى زوجها ، إذا انتقلت إليها ، والهَدْيُ : ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم ، وسميت الهديَّةُ هديَّة ؛ لانتقالها من شخص إلى غيره ، وجاء فلان يهادى بين رجلين ، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما ؛ لضعفه وتمايله . وإذا ثبت ذلك فالمرادُ : أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان ، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام .

وثالثها : أنه ذكر الهداية على وجه المجاز ؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً ، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة ، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل ، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل .

ورابعها : أنْ يُحْمل على التقدير ، أي : أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي ، فإنَّها لا تهدي غيرها ، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها ، ثم قال : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي : تَقضُون ، حين زعمتُم : أنَّ للهَ شريكاً .


[18450]:ينظر: السبعة ص (326)، الحجة 4/274-275، حجة القراءات ص (331-332)، إعراب القراءات 1/268، إتحاف 2/109.
[18451]:ينظر: السابق.
[18452]:وقرأ بها شيبة والأعرج وأبو جعفر. ينظر: المحرر الوجيز 3/119، البحر المحيط 5/157، الدر المصون 4/31.
[18453]:ينظر: السبعة ص (326)، الحجة 4/274-275، حجة القراءات ص (331-332)، إعراب القراءات 1/268، إتحاف 2/109-110.
[18454]:ينظر: المحرر الوجيز 3/119، البحر المحيط 5/157، الدر المصون 4/31.
[18455]:ينظر: الدر المصون 4/31.
[18456]:ينظر: السبعة ص (326)، الحجة 4/75، حجة القراءات ص (332)، إعراب القراءات 1/268، إتحاف 2/109-110.