اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحٗا} (3)

وقوله تعالى : { فالمغيرات صُبْحاً } ، والإغارة : سرعة السير ، وهم يدفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى «منى » .

{ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } يعني «مزدلفة » ، لأنها تسمى بجمع ، لاجتماع الحاجِّ بها ، وعلى هذا التقدير ، فوجه القسم بها ما تقدم ذكره من المنافع الكثيرة في قوله تعالى : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ } [ الغاشية : 17 ] .

وأيضاً : الغرض بذكر إبل الحج : الترغيب في الحج ، فإن الكنود : هو الكفور ، والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك ، كما في قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } [ آل عمران : 97 ] .

ومن قال : هي الخيل ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء ، وأكثر المحققين ، قال : إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بني كنانة ، فأبطأ عليه خبرها ، وكان استعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري ، وكان أحد النقباء ، فقال المنافقون : إنهم قُتلوا ، فنزلت هذه السورة إخباراً للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها ، وبشارة له بإغارتها على القوم ، فالمراد : الخيل التي يغزوا{[60679]} عليها المؤمنون .

وفي الخبر : «مَنْ لمْ يَعرفْ حُرمَةَ فرسِ الغَازي ، ففيهِ شُعبةٌ مِنَ النِّفاقِ » ، وعلى هذا القول ، فالسورة مدنية ؛ لأن الإذن في القتال إنما كان ب «المدينة » .

قوله : { فالموريات قَدْحاً } ، قال عكرمة وعطاء والضحاك : هي الخيلُ حين توري النار بحوافرها وهي سنابكها{[60680]} .

و «قَدْحاً » يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً ؛ لأن الإيراء من القدح ، يقال : قدح فأورى ، وقدح فأصلد .

ويجوز أن يكون حالاً ، فالمعنى : «قادحات » ، أي : ضابحات بحوافرها ما توري النار ، ويقال : قدحت الحجر بالحجر ، أي : صككته به .

وقال الزمخشريُّ{[60681]} : انتصب «قدحاً » بما انتصب به «ضبحاً » ، وكأنه جوّز في نصبه ثلاثة أوجه : النصب بإضمار فعله ، والنصب باسم الفاعل قبله لأنه ملازمه ، والنصب على الحال ، وتسمى تلك النار التي تخرج من الحوافر : نار الحباحب .

قال : [ الطويل ]

5271- تَقُدُّ السَّلوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجهُ *** وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ{[60682]}

فصل في معنى الموريات

روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أورت بحوافرها غباراً{[60683]} ، وهذا يخالف سائر ما روي عنه في قدحِ النارِ ، وإنما هذا في الإبل ، [ وروى ابن نجيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : { فالموريات قَدْحاً } قال : هي في القتال . وهو في الحج ، قاله ابن مسعود ، هي الإبل تطأ الحصى فيخرج منه النار{[60684]} ]{[60685]} .

وأصل القدح : الاستخراج ، ومنه قدحت العين : إذا أخرجت منها الماء الفاسد ، واقتدحت بالزّند ، واقتدحت المرق : غرفته . ورَكيٌّ قدوح : يغرف باليد .

والقديح : ما يبقى في أسفل القدر ، فيغرف بجهد ، والمقدحة : ما تقدح به النار .

والقداحة والقداح : الحجر الذي يُورِي النار .

يقال : وَرَى الزند - بالفتح - يري ورْياً : إذا خرجت ناره ، وفيه لغة أخرى ، ورِي الزند - بالكسر - يرى فيهما ، وقد مضى في سورة «الواقعة » .

وقيل : هذه الآيات في الخيل ، ولكن إيراءها : أن تهيج الحرب بين أصحابها ، وبين عدوهم . ويقال للحرب إذا التحمت : حَمِيَ الوطيس ، ومنه قوله تعالى : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } [ المائدة : 64 ] .

قال ابن عباس : المراد ب { فالموريات قَدْحاً } مكر الرجال في الحرب{[60686]} ، وقاله مجاهد وزيد بن أسلم : والعربُ يقولون إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه : والله لأمكرن بك ، ثم لأورين لك .

وعن ابن عباس أيضاً : هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل ، لحاجتهم وطعامهم{[60687]} .

وعنه أيضاً أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهاباً ، ليظنها العدو كثيراً .

وقيل : هي أفكار الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ، ويظهر بها من إقامة الحججِ ، وإقامةِ الدَّلائلِ ، وإيضاح الحق ، وإبطال الباطلِ .

قال القرطبي{[60688]} : هذه الأقوال مجاز ، ومنه قولهم : فلان يُوري زناد الضلالة ، والأول : الحقيقة ، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النَّار بحوافرها .

قال مقاتل : العرب تسمي تلك النَّار نار أبي حُبَاحب ، وكان أبو حباحب شيخاً من مضر في الجاهلية ، من أبخل الناس ، وكان لا يُوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون ، فيوقد نُويْرَة تقد مرة ، وتخمد أخرى ، فإن استيقظ لها أحد أطفأها ، كراهية أن ينتفع بها أحدٌ ، فشبهت هذه النار بناره ؛ لأنه لا ينتفع بها .

وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت ناراً فكذلك يسمونها .

قال النابغة : [ الطويل ]

5272- ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ *** بِهِنَّ فُلولٌ من قِرَاعِ الكَتائبِ

تَقُدُّ السَّلوقِيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ *** وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُبَاحِبِ{[60689]}

قوله : { فالمغيرات صُبْحاً } ظرف ؛ أي : التي تغير وقت الصبح ، يقال : أغار يغير إغارة وغارةً : إذا باغت عدواً نهباً وقتلاً وأسراً ؛ قال : [ البسيط ]

5273- فَليْتَ لِي بِهمُ قَوماً إذَا رَكِبُوا *** شَنُّوا الإغَارَة فُرْسَاناً ورُكْبَانَا{[60690]}

وأغار وغار أيضاً : نزل الغور ، وهو المنهبط من الأرض .


[60679]:في ب: يعدو.
[60680]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/667 -668)، عن عكرمة وعطاء والضحاك وقتادة.
[60681]:ينظر: الكشاف 4/787.
[60682]:البيت للنابغة ينظر ديوانه (11)، وابن الشجري 2/58، والإيضاح الشعري ص 574، ومجمع البيان 10/802، والمعاني الكبير ص 1080، واللسان (سلق)، (حبحب). والدر المصون 6/558.
[60683]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/107).
[60684]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/666)، عن ابن مسعود.
[60685]:سقط من: ب.
[60686]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/668)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/652)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[60687]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/668)، عن ابن عباس.
[60688]:الجامع لأحكام القرآن 20/107.
[60689]:تقدم.
[60690]:تقدم.