اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعٗا} (4)

قوله : { فَأَثَرْنَ } . عطف الفعل على الاسم ، لأن الاسم في تأويل الفعل لوقوعه صلة ل «أل » .

قال الزمخشريُّ{[60691]} : «معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، يعني في الأصل ؛ إذ الأصل : واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن » .

قوله : { بِهِ } . في الهاء أوجه :

أحدها : أنه ضمير الصبح ، أي : فأثرن في وقت الصبح غباراً . وهذا حسن ؛ لأنه مذكور بالتصريح .

الثاني : أنه عائد على المكان ، وإن لم يجر له ذكر ؛ لأن الإشارة لا بد لها من مكان ، والسياق والعقل لا يدلان عليه ، وإذا علم بالمعنى جاز أن يكون عما لم يجر له ذكر بالصريح ، كقوله تعالى : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] . وفي عبارة الزمخشري : «وقيل : الضمير لمكان الغارةِ » ، وهذا على تلك اللغيَّة ، وإلا فالفصيح أن تقول : الإغارة .

الثالث : أنه ضمير العدو الذي دل عليه «والعَادِيَاتِ » .

وقرأ العامة : بتخفيف الثاء ، أثار كذا إذا نشره وفرقه مع ارتفاع .

وقرأ أبو حيوة ، وابن{[60692]} أبي عبلة : بتشديدها .

وخرجه الزمخشري{[60693]} على وجهين :

الأول : بمعنى فأظهرن به غباراً ؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار .

الثاني : قلب «ثورن » إلى «وثَرْنَ » ، وقلب الواو همزة انتهى .

يعني : الأصل «ثَوّرنَ » من ثور يثور - بالتشديد - عداه بالتضعيف كما يعدى بالهمزة في قولك : أثاره ، ثم قلب الكلمة بأن جعل العين -وهي الواو - موضع الفاء -وهي الثاء- ، ووزنها حينئذ «عفلن » ، ثم قلب الواو همزة ، فصار : «أثَرْنَ » ، وهذا بعيد جداً ، وعلى تقدير التسليم ، فقلب الواو المفتوحة همزة لا ينقاس ، إنما جاءت منه ألفاظ ك «أحد وأناة » . والنقع : الغبار .

وأنشد : [ البسيط ]

5274- يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطَارِ النقع دَائمَةً *** كَأنَّ آذَانهَا أطْرافُ أقْلامِ{[60694]}

وقال ابن رواحة : [ الوافر ]

5275- عَدِمتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَروْهَا *** تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنفَيْ كَدَاءِ{[60695]}

وقال أبو عبيدة : النقع ، رفع الصوت ؛ قال لبيدٌ : [ الرمل ]

5276- فَمتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صَادِقٌ *** يُحْلبُوهَا ذَاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ{[60696]}

يروى : «يجلبوها » أيضاً ، يقول : متى سمعوا صراخاً أجلبوا الحرب ، أي : جمعوا لها ، وقوله : «ينقع صراخ » يعني رفع الصوت .

قال الزمخشري{[60697]} : ويجوز أن يراد بالنَّقع : الصياح ، من قوله عليه الصلاة والسلام : «لَمْ يكُنْ نَقعٌ ولا لَقلَقةٌ »{[60698]} .

وقول لبيد : [ الرمل ]

5277- *** فَمتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ***{[60699]}

أي : فهيجن في المغار عليهم صياحاً وجلبة .

وقال أبو عبيد : وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم ، انتهى . فعلى هذا تكون الباء بمعنى «في » ، ويعود الضمير على المكان الذي فيه الإغارة ، كما تقدم .

وقال الكسائيُّ : قوله : «نقْعٌ ولا لقْلقَةٌ » النّقع : صنعة الطعام ، يعني في المأتم ، يقال منه : نقعت أنقع نقعاً . قال أبو عبيد : ذهب بالنقع إلى النقيعة ، وإنما النقيعة عند غيره من العلماء : صنعة الطعام عند القدوم من سفر ، لا في المأتم .

وقال بعضهم : يريد عمرو بالنقع وضع التراب على الرأس ، فذهب إلى أن النقع هو التراب .

قال القرطبي{[60700]} : ولا أحسب عمراً ذهب إلى هذا ، ولا خافه منهن ، وكيف يبلغ خوفه ذا ، وهو يكره لهن القيام ، فقال : يسفكن من دموعهن وهن جلوس .

قال بعضهم : النقع : شق الجيوب ، قال : وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه ، وليس النقع عندي في هذا الحديث إلا الصوت الشديد ، وأما اللَّقلقة : فشدة الصوت ، ولم أسمع فيه اختلافاً .

[ قال محمد بن كعب القرظي : النقع بين «مزدلفة » إلى «منى »{[60701]} .

وقيل : إنه طريق الوادي ، ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع .

وفي «الصحاح »{[60702]} النقع الغبار ، والجمع : النقاع ، والنقع محبس الماء ، وكذلك ما اجتمع في البئر منه .

وفي الحديث : أنه نهى أن يمنع نقع{[60703]} البئر .

والنقع : الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء ، والجمع : نقاع وأنقع ، مثل : بحار وبحر وأبحر ]{[60704]} .


[60691]:الكشاف 4/788.
[60692]:ينظر: المحرر الوجيز 5/514، والبحر المحيط 8//501، والدر المصون 6/559.
[60693]:ينظر: الكشاف 4/787.
[60694]:قائله هو عدي بن الرقاع العاملي ينظر سمط اللآلىء 2/276، والاقتضاب ص 322، والأمالي 2/274، والبحر 8/499، والدر المصون 6/559.
[60695]:ينظر القرطبي 2/108، والبحر 8/499، والدر المصون 6/559، وفتح القدير 5/482.
[60696]:ينظر ديوان لبيد ص 146، والكامل 1/331، والكشاف 4/787، والاقتضاب ص 419، والأضداد للأصمعي ص 54، والبحر 8/500، واللسان (نقع)، والدر المصون 6/559.
[60697]:ينظر: الكشاف 4/787.
[60698]:ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج الكشاف" (4/787)، وقال: لم أجده مرفوعا، وإنما ذكره البخاري في الجنائز تعليقا عن عمر قال: "دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة"، قال: والنقع التراب على الرأس واللقلقة الصوت. ووصله عبد الرزاق والحاكم وابن سعد وأبو عبيد الحربي في الغريب كلهم من طريق الأعمش عن أبي وائل قال: "وقيل لعمر: إن نسوة من بني المغيرة قد اجتعمن في دار خالد بن الوليد يبكين عليه وإنا نكره أن يؤذينك فلو نهيتهن فقال: ما عليهن أن يهرقن من دموعهن على أبي سليمان سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع أو لقلقة" وفي رواية ابن سعد قال وكيع: النقع الشق، واللقلقة الصوت. وقال بعضهم: رفع التراب على الرأس وشق الجيوب. وأما اللقلقة فهي شدة الصوت ولم أسمع فيه خلافا وقال الحربي عن الأصمعي النقع الصياح. وعن أبي سلمة هو وضع التراب على الرأس.
[60699]:تقدم.
[60700]:الجامع لأحكام القرآن 20/108.
[60701]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/108)، عن محمد بن كعب القرطبي.
[60702]:ينظر الصحاح 3/1292.
[60703]:أخرجه ابن ماجه (2/828)، كتاب: الرهون، باب: النهي عن منع فضل الماء ليمنع به الكلآ حديث (2479)، من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمنع فضل الماء ولا يمنع نقع البئر.
[60704]:سقط من: ب.