اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا} (5)

قوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ } متعلق ب «تُحدِّثُ » ، أي : تحدث الأرض بما أوحى إليها ، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها .

وقيل : الباء زائدة ، و«أنَّ » وما في حيزها بدل من أخبارها .

وقيل : الباء سببية ، أي : بسبب إيحاء الله إليها .

وقال الزمخشريُّ : «فإن قلت{[60643]} : أين مفعولاً «تُحدِّثُ » ؟ . قلت : حذف أولهما ، والثاني : أخبارها ، أي : تحدث الخلق أخبارها ، إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً لليوم .

فإن قلت : بم تعلقت الباء ، في قوله «بأنَّ ربَّك » ؟ . قلتُ : ب «تحدث » ومعناه : تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها ، وأمره إياها بالتحديث ، ويجوز أن يكون المعنى : يومئذٍ تحدثُ بتحديث أن ربَّك أوحى لها أخبارها ، على أن تحديثها بأن ربِّك أوحى لها تحديث بأخبارها ، كما تقول : نصحتني كُلَّ نصيحة بأن نصحتني في الدين » .

قال أبو حيان{[60644]} : وهو كلام فيه عفش ، ينزه القرآن عنه .

قال شهاب الدين{[60645]} : وأي عفش فيه ، فصحته وفصاحته ، ولكنه لما طال تقديره من جهة إفادة هذا المعنى الحسن جعله عفشاً ، وحاشاه .

ثم قال الزمخشري{[60646]} : «ويجوز أن يكون «بأنَّ ربَّك » بدلاً من «أخبارها » ، كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربَّك أوحى لها ، لأنك تقول : حدثته كذا ، وحدثته بكذا » .

قال أبو حيَّان{[60647]} : «وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر ، وتارة يتعدى بنفسه ، وحرف الجر ليس بزائد ، فلا يجوز في تابعه إلاَّ الموافقة في الإعراب ، فلا يجوز : «استغفرتُ الذنب العظيم » «بنصب «الذنب » وجر «العظيم » لجواز أنك تقول : «من الذنب » ، ولا «اخترتُ زيداً الرجال الكرام » بنصب «الرجال » وخفض «الكرام » ، وكذلك لا يجوز : «استغفرتُ من الذنب العظيم » بجر «الذنب » ونصب «العظيم » ، وكذلك في «اخترتُ » ، فلو كان حرف الجر زائداً جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو ، تقول : ما رأيت من رجل عاقلاً ، لأن «من » زائدة ، ومن رجل عاقل على اللفظ ، ولا يجوز نصب «رجل » وجر «عاقل » على مراعاة جواز دخول «من » ، وإن ورد شيء من ذلك ، فبابه الشعر » . انتهى .

قال شهاب الدين{[60648]} : ولا أدري كيف يلزم الزمخشري ما ألزمه به من جميع المسائلِ التي ذكرها ، فإن الزمخشري يقول : إن هذا بدل مما قبله ، ثم ذكر مسوغ دخول الباءِ في البدل ، وهو أن المبدل منه يجوز دخول الباء عليه ، فلو حل البدل محل المبدل منه ومعه الباء لكان جائزاً ؛ لأن العامل يتعدى به ، وذكر مسوغاً لخلو المبدل منه من الباء ، فقال : «لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا » ، وأما كونه يمتنع أن يقول : «استغفرتُ الذنب العظيم » بنصب «الذنب » وجرّ «العظيمِ » إلى آخره ، فليس في كلام الزمخشري شيء منه ألبتة ، ونظير ما قاله الزمخشري في باب «استغفر » أن تقول : استغفرت الله ذنباً من شتمي زيداً ، فقولك «من شتمي » بدل من «الذنب » ، وهذا جائزٌ لا محالة .

قوله : { أوحى لَهَا } في هذه اللام أوجه :

أحدها : أنها بمعنى «إلى » ، وإنما أوثرت على «إلى » لمراعاة الفواصل ، والمعنى : أوحى لها تحدث أخبارها بوحي الله تعالى لها ، أي إليها ، والعرب تضع لام الصفة موضع «إلى » ، قال العجَّاجُ يصفُ الأرض : [ الرجز ]

5265- أوْحَى لهَا القَرار فاسْتقرَّتِ *** وشدَّهَا بالرَّاسياتِ الثُّبَّتِ{[60649]}

قاله أبو عبيدة .

الثاني : على أصلها ، «أوحَى » يتعدى باللام تارة ، وب «إلى » أخرى ، ومنه البيت .

الثالث : اللام على بابها من العلة ، والموحى إليه محذوف ، وهو الملائكة ، تقديره : أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض ، أي : لأجل ما يفعلون فيها .

قال الثوريُّ : تحدث أخبارها مما كان عليها من الطَّاعات والمعاصي ، وما كان{[60650]} على ظهرها من خير وشر .


[60643]:ينظر: الكشاف 4/784.
[60644]:البحر المحيط 8/497.
[60645]:الدر المصون 6/555.
[60646]:الكشاف 4/784.
[60647]:البحر المحيط 8/497.
[60648]:ينظر: الدر المصون 6/555.
[60649]:ينظر ديوان العجاج ص 266، واللسان (وحى) والمحتسب 2/331، والبحر 8/497، والدر المصون 6/555.
[60650]:في أ: عمل.