اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحٗا} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول ابن مسعود ، وجابر ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، ومدنية في قول ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وقتادة ، وهي إحدى عشرة آية ، وأربعون كلمة ، ومائة وثلاثة وستون حرفا .

قوله تعالى : { والعاديات } ، جمع عادية ، وهي الجارية بسرعة من العدو ، وهو المشي بسرعةٍ ، والياء منقلبة عن واو لكسر ما قبلها ، نحو : الغازيات ، من الغزو ، ويقال : عَدا يَعْدُو عَدْواً ، فهو عادٍ ، وهي عادية . وقد تقدم هذا في سورة «المؤمنين » .

قال عامة المفسرين : يريد الأفراس تعدو في سبيل الله تعالى .

قوله : { ضَبْحاً } ، فيه أوجه :

أحدها : أنه مصدر مؤكد لاسم الفاعل ، فإن الضبح نوعٌ من السير والعدو كالضبع ، يقال : ضبح وضبع ، إذا عدا بشدة ، أخذاً من الضبع وهو الذراع ؛ لأنه يمده عند العدو ، وكأن الحاء بدل من العين ، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة والمبردُ .

قال عنترةُ : [ مجزوء الكامل ]

5268- والخَيْلُ تَعْلَمُ حِينَ تَضْ *** بَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ ضَبْحَا{[60668]}

الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : ضابحات وذوي ضبح ، والضبح : صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ، وليس بصهيل .

وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه حكاه ، فقال : أحٍ أحٍ{[60669]} .

وقال قتادة : تضبح إذا عدت ، أي : تحمحم .

وقال الفراء : والضبح : أصوات أنفاسها إذا عدون . وقيل : كانت تكمكم لئلا تصهل ، فيعلم العدو بهم ، فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة .

ونقل عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : أنه لم يضبح من الحيوان غير الخيل والكلب والثعلب{[60670]} ، وهذا ينبغي أن يصحَّ عنه ؛ لأنه روي عنه أنه قال : سُئلتُ عنها ، ففسرتها بالخيل ؛ وكان علي - رضي الله عنه - تحت سقاية زمزم ، فسأله ، فذكر ما قلت ؛ فدعاني ، فلما وقفت على رأسه ، قال : تفتي الناس بغير علمٍ ، والله إنها لأولُ غزوةٍ في الإسلامِ ، وهي بدر ، ولم يكن معنا إلا فرسان : فرسٌ للمقدادِ ، وفرس للزبير ، فكيف تكون العاديات ضبحاً ؟ إنما العاديات الإبل من «عرفة » إلى «المزدلفة » ، ومن «المزدلفة » إلى «منى » يعني إبل الحاج .

قال ابن عباسٍ : فرجعت إلى قول علي - رضي الله عنه - وبه قال ابن مسعود ، وعبيد بن عمير ، ومحمد بن كعب ، والسديُّ رضي الله عنهم .

ومنه قول صفية بنت عبد المطلب : [ الوافر ]

5269- فَلاَ والعَاديَاتِ غَداةَ جَمْعٍ *** بأيْديهَا إذا سَطعَ الغُبَارُ{[60671]}

إلا أن الزمخشري ، قال بعد ذلك{[60672]} : «فإن صحت الروايةُ ، فقد استعير الضبحُ للإبل ، كما استعير المشافر والحافر للإنسان ، والشفتان للمُهْرِ » .

ونقل غيره أن الضبح يكون في الإبل ، والأسود من الحيَّات ، والبُوم ، والصدى ، والأرنب ، والثعلب ، والفرس .

وأنشد أبو حنيفة رضي الله عنه : [ الرجز ]

5270- حنَّانةٌ من نشَمٍ أو تَألَبِ*** تَضْبَحُ في الكفِّ ضُباحَ الثَّعْلبِ{[60673]}

قال شهاب الدين{[60674]} : وهذا عندي من الاستعارة ، ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح في الثعلب فاستعير للخيل ، وهو ضبحته النار ، إذا غيرت لونه ولم تبالغ ، وانضبح لونه تغير لسواد قليل ، والضبح أيضاً الرماد .

الثالث من أوجه النصب : أن يكون منصوباً بفعل مقدر ، أي : يضبح ضبحاً ، وهذا الفعل حال من «العَاديَاتِ » .

الرابع : أنه منصوب ب «العَادِياتَ » ، وإن كان المراد به الصوت .

قال الزمخشري{[60675]} : «كأنه قيل : والضابحات ؛ لأن الضبح يكون مع العدو » .

قال أبو حيَّان{[60676]} : «وإذا كان الضَّبح مع العدو ، فلا يكونُ معنى والعاديات معنى الضابحات فلا ينبغي أن يفسر به » انتهى .

قال شهاب الدين{[60677]} : لم يقل الزمخشري إنه بمعناه ، إنما جعله منصوباً ، لأنه لازم لا يفارقه ، فكأنه ملفوظ به . وقوله : كأنه قيل ؛ تفسير التلازم لا أنه هو هو .

فصل في هذا القسم

قال ابن العربي : أقسم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : { يس والقرآن الحكيم } [ يس : 1 ، 2 ] ، وأقسم بحياته فقال : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها ، وقدح حوافرها النار من الحجر ، فقال : { والعاديات ضَبْحاً } .

وقال الشعبيُّ : تمارى عليٌّ وابن عباس في «العَادِياتَ » فقال علي : هي الإبل تعدو في الحج .

وقال ابن عباس : هي الخيلُ ، ألا تراه يقولُ : «فأثَرْنَ بِهِ نَقْعاً » فهل تثير إلا بحوافرها وهل تضبح الإبل ؟

فقال علي رضي الله عنه : ليس كما قلتَ ، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد{[60678]} .

وعلى هذا فالقول : { فالموريات قَدْحاً } أي : الحافر يرمي بالحجر من شدة العدو ، فيضرب به حجارة أخرى فتوري النار ، أو يكون المعنى : الذين يركبون الإبل ، وهم الحجيج إذا أوقدوا نيرانهم ب «المزدلفة » .


[60668]:ينظر الكشاف 4/786، والقرطبي 20/15، والبحر 8/500، والدر المصون 6/557.
[60669]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/666)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/652)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
[60670]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/66)، عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/652)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[60671]:ينظر القرطبي 20/106، والبحر 8/500، ومجمع البيان 10/803، والدر المصون 6/558، وفتح القدير 5/482.
[60672]:ينظر: الكشاف 4/788.
[60673]:ينظر اللسان (صبح)، والبحر 8/499، والدر المصون 6/557.
[60674]:الدر المصون 6/558.
[60675]:الكشاف 4/786.
[60676]:البحر المحيط 8/500.
[60677]:الدر المصون (6/558).
[60678]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/652)، وعزاه إلى عبد بن حميد عن عامر الشعبي.