اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ} (88)

قوله : " أَرَأَيْتُمْ " قد تقدَّم مراراً [ يونس : 50 ] . وقال الزمخشريُّ هنا : فإنْ قلت : أين جوابُ " أرأيْتُم " وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح ، وصالح ؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ ، وإنَّما لم يثبتْ ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه ، معنى الكلام ينادي عليه ، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة ، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي ، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك ؟ .

قال أبُو حيَّان{[18950]} : وتسميةُ هذا جواباً ل " أرَأيتُمْ " ليس بالمصطلح ، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّاني ل " أرَأَيْتُم " لأنَّ " أرَأَيْتُمْ " إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين ، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها ، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ : " أرأيتك زيداً ما صنع " وقال الحوفيُّ : " وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره : أأعدلُ عمَّا أنا عليه " .

وقال ابنُ عطيَّة{[18951]} : " وجوابُ الشَّرط الذي في قوله : " إنْ كُنتُ " محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ ، أو أترك تبليغ الرسالة ، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة " .

قال أبُو حيان : وليس قوله : " أضَلَّ " جواباً للشَّرط ؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط ، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني ل " أرأيْتُمْ " وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها .

فصل

المعنى { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } بصيرة وبيان من ربِّي { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } حلالاً .

قيل : كان شعيب كثير المالِ الحلال .

وقيل : الرزق الحسنُ : العلم والمعرفة أي : لما أتاني جميع هذه السَّعادات ، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه ، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه ، وإذا كان العزّ من الله ، والإذلال من الله ، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم ، ولا أفرحُ بموافقتكم ، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه .

قوله : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ } قال الزمخشريُّ : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مُولِّ عنه ، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده ، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ : " خالفَنِي إلى الماءِ " ، يريد أنه ذاهب إليه وارداً ، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً ، ومنه قوله تعالى : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم .

وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف ، ولم يتعرَّض لإعراب مفراداته ؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب .

فيجوزُ أن يكون قوله : " أنْ أخَالِفَكُمْ " في موضع مفعول ب " أُرِيدُ " ، أي : وما أريد مُخالفتكُم ، ويكون " فاعل " بمعنى " فعل " نحو : جاوزتُ الشَّيء وجُزْته ، أي : وما أريد أن أخالفكم ، أي : أكون خلفاً منكم .

وقوله : { إلى مَآ أَنْهَاكُمْ } يتعلَّق ب " أخَالِفَكُمْ " ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال ، أي : مائلاً إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره : وأميل إلى أن أخالفكم ، ويجُوزُ أن يكون " أنْ أخالِفكمُ " مفعولاً من أجله ، وتتعلق " إلى " بقوله " أريدُ " بمعنى : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه .

ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه .

ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ ، وتكون في موضع المفعول به ب " أُرِيد " ، ويقدَّر مائلاً إلى .

والمعنى : وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه : { إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت } .

قوله : { مَا استطعت } يجوزُ ما " مَا " هذه الوجوه :

أحدهما : أن تكون مصدرية ظرفية أي : مدة استطاعتي .

والثاني : أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي " بدلاً من " الإصلاح " والتقديرُ : إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح .

الثالث : أن يكون على حذفِ مضاف ، أي : إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ ، وهو أيضاً بدلٌ .

الرابع : أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف ، أي : إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه ؛ كقوله : [ المتقارب ]

ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ *** يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ{[18952]}

ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين ، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين ، وتقدَّم الجارَّان في " عليهِ " و " إليهِ " للاختصاص أي : عليه لا على غيره ، وإليه لا إلى غيره .

فصل

اعمل أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس ؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة ، وإثارة الفتنةِ ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي ، وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه ، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله : { وَمَا توفيقيا إِلاَّ بالله } والتوفيق تسيهل سبيل الخير " عليْهِ توكَّلْتُ " اعتدمت " وإلَيْهِ أنيبُ " أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ ، وقيل : في المَعَادِ .


[18950]:ينظر: البحر المحيط 5/254.
[18951]:ينظر: المحرر الوجيز3/201.
[18952]:ينظر البيت في الكتاب 1/199 وأوضح المسالك 2/423 وشرح المفصل لابن يعيش 5/59 والتصريح 2/63 والمنصف 3/71 والهمع 2/93 والدرر 2/52 والأشموني 2/284 والخزانة 8/127 وروح المعاني 12/120 والبحر 5/255 والمقرب لابن عصفور 144 وشذور الذهب 384 والدر المصون 4/123.