اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [ الآية : 24 ] جواب " لولاَ ما تقدَّم عليها ، وقوله : " وهَمَّ بِهَا " عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها ، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك ، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً ، كقولهم : " أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ " ، أي : فعلت ، فأنت ظالزٌ ، ولا تقول : إن " أنت ظَالمٌ " هو الجوابُ ، بل دلَّ عليه دليلٌ ، وعلى هذا فالوقف عند قوله : " بُرْهَانَ ربِّه " والمعنى : لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها ، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه ، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة ، كقولك : لولا زيدٌ لأكرمتك ، فالمعنى : إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد ، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد ، وهو : كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة .

قال الزمخشري : " فإن قلت : قوله " وهمَّ بِهَا " داخل تحت القسم في قوله : " وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ " أم خارج عنه ؟ . قلت : الأمران جائزان ، و من حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم ، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله : " ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ " يبتدىء قوله : { وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ .

فإن قلت : لِمَ جعلت جواب " لَوْلاَ " محذوفاً يدلٌّ عليه : " هَمَّ بِهَا " ، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً ؟ .

قلت : لأن " لوْلاً " لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ ، وللشَّرطِ صدر الكلام ، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين ، مثل كلمة واحدة ، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ ؛ فهو جاءزٌ " .

فقوله : " وأما حذف بعضها . . . . إلخ " جواب عن سؤال مقدرٍ ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء ؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء .

فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك ، وهو كما قال ، ثم قال : فإن قلتَ لمَ جعلتَ " لَوْلاَ " متعلقة ب " هَمَّ بِهَا " وحدة ، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر ، ولكن بالمعاني ، ولا بد من تقدير المخالطةِ ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً ، فكأنه قيل : همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما ؟

قلتُ : نعم ما قلت : ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } اه .

والزجاج لم يرتض هذه المقالة ، أي : كون قوله : " لَوْلاَ " متعلقة ب " هَمَّ بِهَا " فإنه قال : ولو كان الكلام " لَهمَّ بِهَا " لكان بعيداً ، فيكف مع سُقوطِ الكلام ؟ [ يعني ] الزجاج أنه : لا جائز أن يكون " هَمَّ بِهَا " جواباً ل : " لَوْلاَ " ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ ؛ لأنه مُثبتٌ ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى ، وهي تقديمُ الجواب عليها .

وجواب ما قاله الزجاجُ : ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم .

وأما قوله : [ ولو كان ] الكلام : " ولهمَّ بِهَا " فغيرُ لازم ؛ لأنَّه متى كان جواب " لَوْ " ، و " لَوْلاَ " مثبتاً جاز فيه الأمران : اللام وعدمها ، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر .

وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال : " قول من قال : إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله : " ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ " ، وأن جواب " لَوْلاَ " في قوله : " وهَمَّ بَهَا " ؛ وأنَّ المعنى : لولا أن رأى البرهان لهم بها ، فلم يهمَّ يوسف عليه الصلاة والسلام قال : وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب ، وأقوال السَّلف " .

فقوله : " يردُّه لسانُ العرب " فليس كذلك ؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] فقوله : { إِن كَادَتْ } أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك ، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب ، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان .

وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه ، والغرض أن اللاَّم لم توجد .

فصل

الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه ، فهَمُّهَا : عزمُها على المعصية ، وأما همُّه : فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه حلَّ الهميان ، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ .

وعن مجاهد رحمه الله أنَّه حلّ سراويله ، وجعل يعالجُ ثيابه ، وهذا قولُ سعيد بن جبير ، والحسن ، وأكثر المتقدمين رضي الله عنهم .

وقيل غير ذلك .

وقال أكثرُ المتأخِّرين : إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عليه الصلاة والسلام وقالوا : تم الكلام عند قوله : " ولقد همَّتْ بِهِ " ، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال : { وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } على التَّقديمِ ، والتأخير ، أي : لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها ، لكنه رأى البُرهان ، فلم يهمّ .

قال البغويُّ : " وأنكره النُّحاة ، وقالوا : إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ " لَوْلاَ " عن الفعلِ فلا يقولون : قُمْتُ لولا زيدٌ ، وهي تريدُ : لولا زيدٌ لقُمْتُ " .

وذكر ابنُ الخطيبِ : عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ : " قال المفسِّرُون : هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً ، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه ؛ زالت كلُّ شهوة عنه .

قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال : طمعت فيه ، وطمع فيها " .

ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب ، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة ، ورُويَ أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام لمَّا قال : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] قال له جبريل عليه السلام : ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك : " ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي " .

وقال بعضُ العلماءِ رضي الله عنهم : الهمُّ همَّان :

همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل .

وهمٌّ يخطرُ بالبالِ ، ويبرز إلى الفعل ، فالأوَّلُ مغفورٌ ، والثاني : غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ، فهمُّه عليه الصلاة والسلام كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها { وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } [ يوسف : 25 ] .

ويشهد للثاني قوله عليه الصلاة والسلام " إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ والمقْتولُ في النَّار ، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ ؟ قال : لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ " .

قال ابن الخطيب : وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين ، والمتكلِّمين : إنَّ يُوسفَ عليه الصلاة والسلام ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ ، والهَمّ المُحرَّم ، وبه نقولُ ، وعنه نذبُّ ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً :

الأول : أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً : الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان ، وبقي مكفيَّ المؤنةِ ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه ، وكما قوَّته ، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال ، وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بجميع الجهالات ، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله ، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ ، لا ستنكف منه ، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء } وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء ، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه ، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء ، والفحشاء ، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية ، ثم يمدحه ، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم ، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب ، وأفحش الأعمال ، ثم يذكره بالمدح العظيم ، والثناءِ البالغ عقيبه ، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا ، فكذا هاهنا .

وأيضاًَ : فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ ، أو هفوةٌ ؛ استعظموا ذلك ، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ ، والتوبة ، والتَّواضع ، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة ، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ ، والاستغفار ، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع ، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ، ولا معصية .

وأيضاً : فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة ، فقد شهد ببراءة يوسف عليه الصلاة والسلام عن المعصية ، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة : يوسف والمرأة وزوجها ، والنسوة الشهود ، ورب العالم ، وإبليس .

فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] و { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [ يوسف : 33 ] وأما المرأة ، فاعترفت بذلك ، وقالت للنسوة : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ } [ يوسف : 32 ] وقالت : { الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [ يوسف : 51 ] وأمَّا زوج المرأة فقوله : { إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ } [ يوسف : 28 29 ] .

وأمَّا الشهود فقوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [ يوسف : 26 ] .

وأمَّا شهادة الله تعالى : فقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } [ يوسف : 24 ] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات .

أولها : قوله : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء } .

وثانيها : قوله : { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء } .

والثالث : قوله : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا } مع أنه تعالى قال : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } [ الفرقان : 63 ] .

والرابع : قوله : " المُخْلصِينَ " ، وفيه قراءتا ، تارة باسم الفاعل ، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه ، وأصطفاه لحضرته ، وعلى كل [ وجه ] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه .

وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 8283 ] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ ، وما أضله عن طريف الهدى ، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء .

وإذا عرفت هذا فنقول : الكلام على ظاهر هذه الآية [ يقع ] في مقامين :

المقام الأول : أن نقول : إنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام ما همَّ بها ، لوقله تعالى : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، وجواب " لَوْلاَ " ههنا مقدمٌ ، وهو كما يقالُ : قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك ، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين :

الأول : أن تقديم جواب " لَوْلاَ : شاذٌّ ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ .

الثاني : [ أنَّ ] " لَوْلاَ " يجابُ جوابها باللاَّمِ ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال : ولقد همَّت به ، ولهم بها لوْلاَ .

وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً ، وهو : أنَّهُ لو لم يوجد الهمُّ لما كان لقوله : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة .

واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ ؛ لأنَّا [ لا ] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب " لَوْلاَ " حسنٌ جائزٌ ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب ، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال : " إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ " ، والذي همَّ بشأنه أعنى ؛ فكان الأمر في جواز التقديم ، والتَّأخير مربوطاًً ذكرُ بشدَّة الاهتمام ، فأمَّا تعينُ بعض الألفافظِ بالمنع ، فذلك ممَّا لا يلييقٌ بالحكمةِ ، وأيضاً ذكر جوابِ " لَوْلاَ " باللاَّم جائزٌ ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] .

وأما قوله : لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة .

فنقولُ : بل فيه أعظم الفوائدِ : وهو بيان أنَّ ترك الهمَّ بها ما كان لعدم رغبته في النسِّاءِ ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، ثم نقول : الذي يدلُّ على أنَّ جواب : " لَوْلاَ " ما ذكرناه أن " لَوْلاَ " تستدعي جواباً ، وهذا المذكور يصلح جواباً له ؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال : أنَّ نضمر له جواباً ، وهذا المذكور يصلح جواباً له ؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال : إنَّا نضمر له جواباً ، وتركُ الجواب ذكر في القرآن ، فنقول : لا نزاع أنه ذكر في القرآن ، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً .

وأيضاً : فالجواب إنَّما يحسن تركه ، وحذفه ، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه ، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً ؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب ، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات ، يحسن إضمار كل واحد منها ، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ .

المقام الثاني : سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول : إن قوله : " وهمَّ بِهَا " لا يمكنُ حمله على ظاهره ؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد ، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات ؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور ، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه :

الاول : المراد أنه عليه الصلاة والسلام همَّ بدفعها عن نفسه ، ومنعها من ذلك القبيح ؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ ، وفجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به ، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة ، والتَّمتُّع ، وأليق بالرسُولِ المعبوث غلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته ، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر ،

يقال : هَمَمْتُ بفلان ، أي : قصدته ودفعته .

فإن قيل : فعلى هذا التدقير لا يبقى لقوله : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فائدة قلنا : بل فيه أعظمُ الفوائد ، وبيانه من وجهين :

الأول : أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته ، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله ، فأعلمه الله تعالى أنَّ الامتناع من ضربها أولى ، لصون النَّفس عن الهلاك .

الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لو اشتغل بدفعها عن نفسه ، فرُبَّما تعلقت به ، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام ، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام ، لكان يوسف هو الخائنُ ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة ، والله تعالى أعلمه بهذا المعنى ، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه ، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية .

الوجه الثاني في الجواب : أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة ، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه : لا يهمُّنِي هذا ، وفيما يشتهيه : هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا .

والمعنى : لقد اشتهته ، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود .

الثالث : أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس ؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال ، إذا تزينت ، ونهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي ، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة ، وبين النفس ، والعقل محادثات ، ومنازعات ، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة ، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة ، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرها عبارة عن جواذب العبودية ، ومثاله : أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم ف يالصيف الصَّائف ، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج ، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه ، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب ، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل ، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه ، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف ، وتعديد أسماءِ المفسرين ، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شهبة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين .

واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم : " ما كّذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ " فقلت : الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [ طريق ] الاستنكار : إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ ، فقلت له : يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ، ولا شك أن صون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب .

إذا عرفت هذا الأصل ، فنقولُ للواحدي : ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقولا هذه القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين ، أو كاذبين . والله أعلم .

فصل

اختلوفوا في البرهان ما هو ؟ .

فقال المحققون المثبتون للعصمة : رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ :

الاول : أنه حجَّة الله تعالى في تحريم الزِّنا ، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب .

الثاني : أن الله تعالى طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة ، بل نقول : إنه تعالى ، طهر نفوس المتصلين بهم عنها ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] والمراد برؤية البرهان : هو حصولُ ذلك الإخلاص ، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات .

الثالث : أنه رأى مكتوباً في سقف البيت : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] .

الرابع : أنًَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكاب الفواحشِ ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح ، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها ، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] وايضاً : فإن الله تعالى عيَّر اليهود بقوله { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] ما كان عيباً في حق اليهود ، كيف ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات .

وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً :

الأول : أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ ، والياقوت في زاوية البيت ، فسترته بثوبٍ ، فقال يوسف عليه الصلاة والسلام ، [ ولم ؟ قالت : أستحي من إلهي أن يراني على المعصية ، فقال يوسف : ] أتستحين من صنم لايسمعُ ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت ، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً ، قال هذا هو البُرهَانُ .

الثاني : نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّهُ تمثَّل له يعقوب ، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له : لا تعمل عمل الفُجَّار ، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فاستحى منه . قالوا : وهو قول عكرمة ، ومجاهدٍ ، الحسن ، وسعيد بن جبير .

وروى سعيد بن جبير رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما تمثَّل له يعقوب ، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله .

الثالث : قالوا : إنَّه سمع في الهواء قائلاً : يا بْنَ يعقوب ، لا تكن كالطَّير له ريش ، فإذا زنا ذهب ريشه .

الرابع : نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عليه الصلاة والسلام لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج .

قال ابنُ الخطيب : " ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال : هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له : إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها ، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه ، وأيضاً : فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية ، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً .

وأيضاً : روي أن جبريل عليه الصلاة والسلام امتنع من دخول حجرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه بسبب وقع هناك بغير علمه ؛ قالوا : فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [ عليه ] أربعين يوماً ، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل ، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ، ولو أنَّ أفسق الخلق ، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة ، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه ؛ وترك [ ذلك ] العمل وهاهنا يعقوب عليه الصلاة والسلام عضّ على أنامله ، فلم يلتفت ، ثمَّ إنَّ جبريل عليه الصلاة والسلام على جلالة قدره دخل عليه ، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره " .

فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين ، الخذلان في طلب اليقين .

فصل

والفرق بين السوء ، والفحشاء من وجهين :

الأول : أنَّ السوء : جناية اليد ، والفحشاء : الزِّنا .

الثاني : السُّوء : مقدمات الفاحشة من القُبلةِ ، والنَّظر بالشَّهوة . والفحشاءُ : هو الزنا .

قوله : " وكَذلِكَ " في هذه الكاف أوجه :

أحدها : أنَّها في محل نصبٍ ، وقدَّره الزمشخريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه .

وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك ، وقدَّره ا بنُ عطيَّة : جرت أفعالنا ، وأقدارنا كذلك ، وقدره أبو البقاء : نراعيه كذلك .

الثاني : أن الكاف في محل رفع ، فقدَّره الزمخشريًّ ، وأبو البقاء : الأمر مثل ذلك ، وقدَّره أبنُ عيطةك عصمته كذلك . وقال الحوفيُّ : أمر البراهين بذلك ثمَّ قال : والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها .

الثالث : أنَّ في الكلام تقديماً ، وتأخيراً ، وتقديره : همَّت به ، وهمَّ بها كذلك ثم قال : لولا أن رأى برهان ربه ، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة .

وليس بشيءٍ ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم ، والتَّأخير لا معنى لما ذكره .

قال أبو حيَّان : وأقولُ : إنَّ التقديرك مثل تِلْك الرُّؤية ، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا ، لنصرف عنه ، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي ، أو الرُّؤيةِ ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله : { لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ، و " لِنَْرفَ " متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف ، ومصدر " رَأى " " رُؤيةٌ ورأيٌ " ؛ قال : [ الرجز ]

3067 ورَأيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أبَاكَا *** [ يُعْطِي الجَزيلَ فعَليْكَ ذَاكَا ]

وقرأ الاعمش " ليَصْرِفَ " بياء الغيبةِ ، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى ، قوله تعالى : { المخلصين } قرأ هذه اللفظة [ حيث وردت ] إذا كانت معرفة بأل مكسورة اللام : ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر أي : الذين أخلصوا دينهم لله على اسم الفاعلِ ، والمفعول محذوفٌ ، والباقون بفتحها على أنَّه اسم مفعولٍ من أخصلهم الله ، أي : اجتباهم ، واختارهم ، وأخلصهم من كلِّ سوءٍ ، ويحتمل أن يكون لكونه من ذرية إبراهيم قال فيهم : { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار } [ ص : 46 ] .

وقرأ الكوفيُّون في مريم { إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } [ مريم : 51 ] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المقتدِمِ والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم .