اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَرَٰوَدَتۡهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيۡتِهَا عَن نَّفۡسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلۡأَبۡوَٰبَ وَقَالَتۡ هَيۡتَ لَكَۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَۖ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} (23)

قوله تعالى : { وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } [ الآية : 23 ] أعلم أنَّ يوسف عليه الصلاةوالسلام كان في غاية الجمال ، فملا رأته المرأةُ ؛ طمعت فيه .

" وَرَاوَدتْهُ " ، أي طالبته برفقٍ ولين قول ، والمُاردودَةُ : المصدرُ ، والرِّيادةُ : طلب النِّكاح ، يقال : وَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها ، وراودته عن نفسه ، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء ، ومشى رويداً ، أي : برفقٍ في مِشْيتهِ ، والرَّودُ : الرِّفقُ في الأمورِ ، والتَّأنِّي فيها ، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك .

والمِرْودةٌ هذه الآية منه ، والإرادة منقوله من رَادَ يَرُودُ إذا سعى في طلب حاجة ، وتقدَّم ذلك في البقرة : [ 26 ] .

وتعدى هنا ب " عَنْ " لأنه ضمن معنى خادعتهُ ، أي : خادعته عن نفسه ، والمفاعلة هنا من الواحدِ ، نحو : داويت المريض ، ويحتملُ أن تكون على بابها ، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق ، هي تطلبُ منه الفعل ، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ .

والتشديدُ في " غَلّقتْ " للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ ، اي : أغلقت الأبواب وكانت سبعةً .

قال الواحدي : " وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق ، يقال : غلق في الباطل ، وغلق في غضبه ، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف ، فيقال : أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه ، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [ هذا الفعل ] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً ، ومع الخوف الشديد " .

قوله : " هَيْتَ لَكَ " اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة ، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ ؟ .

فقيل : معربةٌ من القبطيَّة بمعنى : هلمَّ لك ، قاله السديُّ . وقيل : من السِّريانيَّة ، قاله ابن عبَّاس ، والحسن . وقيل : من العبرانية ، وأصلها : هَيْتَلخَ أي : تعاله فعربه القرآن ، قاله أبو زيدٍ الأنصاري . وقيل : هي لغة حورانيَّة وقعت [ إلى أهل ] الحجاز ، فتكلموا بها ، معناها : تعالى ، قاله الكسائي والفراء ، وهو منقولٌ عن عكرمة . والجمهور على أنَّها عربيةٌ .

قال مجاهدٌ : هي كلمةٌ حثِّ ، وإقبال . ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعلتيها وفي بعضها اسميتها ، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها .

فقرأ نافع ، وابن ذكوان : " هِيْتَ " بكسر الهاءِ ، وسكون الياءِ ، وفتح التَّاء .

وقرأ ابن كثير " هَيْتَ " بفتح الهاء ، وسكون الياء ، وتاء مضمومة . وقرأ هشام " هِئْتُ " بكسر الهاء ، وهمزة ساكنة ، وتاء مفتوحة ، أو مضمومة . وقرأ الباقون : " هَيْتَ " بفتح الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مفتوحة . فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ .

وقرأ ابن عباسٍ ، وأبو الأسود ، والحسنُ ، وابن محيصن بفتح الهاء ، وياء ساكنة وتاء مكسورة . وحكى النحاس : أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة .

وقرأ ابن عباس رضي الله عنه أيضاً : " هُيِيْتُ " بضمِّ الهاءٍ ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة " حُيِيْتُ " .

وقرأ زيد بن علي ، وابن إبي إسحاق : بكسر الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مضمومة ، فهذه أربع قراءات في الشاذ ، فصارت تسع قراءات .

وقرأ السلمي ، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً ، يعنى تهيأت لك ، انكره أبو عمرو ، والكسائي ، ولم يحك هذا عن العرب ، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاس " هُيِيْتُ " بزنة ، " حُيِيْتُ " وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء ، أم بالهمز ، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً ، نحنو : أين ، وكيف ، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها ب " حَيْثُ " ، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك : " جَيْر " ، وفتح الهاء ، وكسرها لغتان ، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس " هُيِيْتُ " بزنة : " حُيِيْتُ " فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من " هَيَّاتُ الشَّيءَ " .

ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء ، وضمَّ التاء ، فتحتمل أن تكون فيه أسم فعل [ بنيت على ] الضم ، ك " حَيْثُ " ، وأن تكون فعلاً مسنداً لضمير المتكلم ، من : هاء الرَّجل يَهيءُ ، ك " جَاء يَجِيءُ " ، وله حينئذ معنيان :

أحدهما : أن يكون بمعنى : حسنت هيئته .

والثاني : أن يكون بمعنى تَهَيَّأ ، يقال : " هَيُئْتُ ، أي : حَسُنَتْ هَيْئتي ، أوْ تَهَيَّأتُ .

وجواز أبو البقاءِ : أن تكون " هِئْتَ " هذه من : " هَاءَ يَهَاءُ " ك " شَاءَ يَشَاءُ " .

وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز ، وفتح التَّاء ، فقال الفارسي : يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي ؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف ، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله : " وَرَاودَتْهُ " ، و " أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ " ، وتابعه على ذلك جماعة . وقال مكي بنُ أبي طالب : " يجبُ أن يكون اللفظ " هِئْتَ لي " أي : تهَيَّأتْ لِي ، ولم يقرأ بذلك أحدٌ ، وأيضاً : فإنَّ المعنى على خلافه ؛ لأنَّه [ لم يزل ] يفرُّ منها ، وتباعد عنها ، وهي تراوده ، وتطلبه ، وتقدُّ قميصهن فكيف تخبر أنه تهيأ لها ؟ " .

وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى : تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حَسُنَتْ هَيْأتُكَ . أو " لَكَ " متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ ، كأنها قالت : القول لك ، أو الخطاب لك ، كهي في " سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ " .

قال شهابُ الدِّين : " واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً ، فإنَّها حينئذ تتعلق بالفعل ، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر " .

وقال أبو البقاءِ : " والأضبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلاً ، لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عليه الصلاة والسلام " . وهو فاسدٌ لوجهين :

أحدهما : أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها ، وإنَّما تَهيَّأت لهُ .

الثاني : أنه قال : " لَكَ ، ولو أراد الخطاب لقال : " هِئْتَ لي " ، وتقدم جوابه وقوله : " إنَّ الهمزة بدلٌ من الياء " . هذا عكس لغة العرب ، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها ، نحو : " بِير " و " ذِيب " ولا يقبلون الياء المكسور ما قبلها همزة ، نحو : مِيل ، ودِيك ، وأيضاً : فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع ، وابن ذكوان محتملة ؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة ، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها ، كالكلام في قراءة هشامٍ .

واعلم أنَّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشامٍ ، وأمَّا ضمُّ التاء فغير مشهورٍ عنه .

ثمَّ إنَّهُ تعالى أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام ، قال يوسف عليه الصلاة والسلام { مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } " مَعاذَ اللهِ " منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ ، أي : أعوذُ بالله معاذاً ، يقالُ : عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [ وعِيَاذةً ] ، ومعاذاً ، وعوْذاً ؛ قال : [ الطويل ]

3075 مَعاذَ الإلهِ أن تكُونَ كَظبْيةٍ *** ولا دُمْيةٍ ولا عَقِيلةِ ربْرَبِ

قوله " إنَّهُ " يجوز أن تكون الهاء ضمير الشَّأن ، ما بعده جملة خبرية له ، ومراده بربه : سيِّده ، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى ، و " ربِّي " يحتمل أن يكون خبرها ، و " أحسنَ " جملةٌ حاليةٌ لا زمةٌ ، وأن تكون مبتدأ ، " وأحْسنَ " جملة خبرية له ، والجلمة خبر ل " أنَّ " وقرأ الجحدريُّ ، وأبو الطفيل الغنوي " مَثْويَّ " بقلب الألف ياء ، وإدغامها ك " بُشْرَيَّ " و " هُدَيَّ " .

و : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ } هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ ؛ " فعلى قولنا : إنَّ الضمير في قوله : { إِنَّهُ ربي } يعود إلى زوجها قطفير ، أي : إنه ربِّي سيِّدي ، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها : { أَحْسَنَ مَثْوَايَ } ، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل : إنها راجعةٌ إلى الله تبارك وتعالى أي : أنَّ الله ربي أحسن مثواي ، أي : تولاَّنِي ، ومن بلاء الجبّ عافاني : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } يعني : إن فعلتْ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي ، فأنا ظالمٌ ، ولا يفلحُ الظالمُونَ .

وقيل : أراد الزناةح لانهم ظالمون لأنفسهم ؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه .

فصل

ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات :

الأول : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان حراً ، وما كان عبداً ، فقوله : { إِنَّهُ ربي } يكون كذباً ، وذلك ذنبٌ وكبيرة .

والجواب : أنه عليه الصلاة والسلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً .

وأيضاً : إنَّه ربه ، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة ، فعنى بقوله : { إِنَّهُ ربي } كونه مربياً وهو من باب المعاريض الحسنةٍ ، فإنَّ الظَّاهرِ يحملونه على كونه ربًّا ، وهو كأنه يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه .

السؤال الثاني : ذكر يوسف عليه الصلاة والسلام في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء :

أحدها : قوله : " مَعَاذ اللهِ " .

والثاني : قوله : { إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } .

والثالث : قوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض " .

والجواب : هذا الترتيب في غاية الحسنح لأن الأنقياد لأمر الله تعالى وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه ، ألطافه في حق العبدِ ، فقوله : { مَعَاذَ الله } إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ .

وأيضاً : حقوق الخلق واجبة الرعاية ، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي ، فيثبحُ معاملة [ إنعامه ] بالإساءة .

وأيضاً : صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب ، وهذه اللذَّة قليلة ، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة ، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها ، لقوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه : التريب .

السؤال الثالث : هل يدلُّ قوله عليه الصلاة والسلام " مَعاذَ اللهِ " على صحَّةِ القضاء والقدر ؟ .

والجوةابُ : أنه يدل دلالة ظاهرة ؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل ، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل ، والقدرة وإزاحة الأعذار ، وإزالة الموانع وفعل الألطاف ؛ لأن كل هذا قد فعله الله تعالى ، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل ، أو طلباً لتحصيل الممتنع ، وأنَّه محالٌ ، فلعمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة ، وأن ينزل عن قلبه داعية المعصية ، وهو المطلوبُ .

ويدلُّ على ذلك : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقع بصره على زينب قال : " يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك " وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة ، وإزالة داعية المعصية ، فكذا وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " قَلْبُ المُؤمنِ بَيْنَ أصْبُعيْنِ من أصَابع الرَّحْمنِ " قال : والمراد من الأصعبين : داعية الفعل وداعية التَّركِ ، وهَاتَانِ الدَّاعيتانِ لاَ يَحْصُلانِ إلا بِخلْقِ الله تعالى وإلا لافْتقرَتْ إلى داعيةٍ أخرى ، ولزم التَّسلسلُ ؛ فثبت أن قول يوسف عليه الصلاة والسلام : " مَعَاذَ اللهِ " من أدل الدَّلائلِ على صحَّة القول بالقضاءِ ، والقدرِ .