اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (5)

قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور } الآية لما بين أنَّه إنَّما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور ، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرا للرسول -صلوات الله وسلامه عليه- على أذى قومه فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا } قال الأصم : آيات موسى -عليه الصلاة والسلام- وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وفلق البحر ، وانفجار العيون من الحجر ، وإظلال الجبل ، وإنزال المن والسلوى .

وقال الجبائي آياته : دلائله وكتبه المنزلة عليه ، فقال في صفة محمد -عليه الصلاة والسلام- : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } وقال في حق موسى -صلوات الله وسلامه عليه- { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 5 ] والمقصود من بعثة سائر الرسل -عليهم الصلاة والسلام- واحد وهو أن يسعوا في أخراج الخلق من الضَّلالات إلى نور الهدايات .

قوله : " أنْ أخْرِجْ " يجوز أن تكون " أنْ " مصدرية ، أي : بأن أخرج والباء في " بِآيَاتِنا " للحال ، وهذه للتعدية ، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي ، ويكون المعنى : أي : أخرج قومك من الظلمات ، أي : قلنا له : أخرج قومك كقوله { وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا } [ ص : 6 ] . وقيل : بل هي زائدة ، وهو غلط .

قوله : " وذَكِّرْهُمْ " يجوز أن يكون منسوقاً على : " أخْرِجْ " فيكون من التفسير ، ويجوز أن لا يكون منسوقاً ؛ فيكون مستأنفاً .

و " أيَّام " : عبارة عن نعمه -تعالى- ؛ كقوله : [ الوافر ]

وأيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ *** عَصيْنَا المَلْكَ فِيهَا أنْ نَدِينَا{[19133]}

أو نقمه ؛ كقوله : [ الطويل ]

وأيَّامُنَا مَشْهُورَة في عَدُوِّنَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19134]}

ووجهه : أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان ، مجازاً أو تضيفه إليها كقولهم : نَهارٌ صَائمٌ ، ولَيلٌ قَائمٌ ، و{ مَكْرُ الليل } [ سبأ : 33 ] .

قال الواحديُّ : " أيَّام جمع يوم ، واليوم هو مقدار المدَّة من طلوع الشَّمس إلى غروبها ، وكان في الأصل : أيوامٌ ، فاجتمعت الياء ، والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكونِ فقلبت الراء ياء ، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء " .

فصل

قال ابنُ عبَّاسٍ ، وأبيُّ بن كعب ، ومجاهدٌ وقتادة -رضي الله عنهم- وذكرهم بنعم الله{[19135]} . وقال مقاتلٌ : بوقائع الله في الأمم السَّالفة{[19136]} . يقال : فلان عالم بأيَّام العرب ، أي : بوقائعهم ، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة ، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه ؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم ، والمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب ، والوعد ، والوعيد ، فالتّرغيب ، والوعد : أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام ، كعادٍ ، وثمود وغيرهم .

واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى -عليه الصلاة والسلام- منها ما كانت أيام محنة وبلاء ، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون .

ومنها : ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن ، والسلوى ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام .

{ إِنَّ فِي ذلك } التّذكر " لآياتِ " دلائل { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } كثير الصّبر { شَكُورٍ } كثير الشُّكر .

فإن قيل : ذلك التذكر آيات للكلّ ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر ؟ .

فالجواب : أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } .

وقيل : لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور .


[19133]:قدم.
[19134]:البيت لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، وهو صدر بيت عجزه: ولها غرر معلومة وحجول. ينظر: البحر المحيط 5/395، حاشية الشهاب 5/252، روح المعاني 13/188، الدر المصون 4/252.
[19135]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/417، 418) عن مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/132) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر وعبد الرزاق. وذكره الماوردي في "النكت والعيون" (3/122) عن مجاهد وقتادة. وكذا البغوي في "تفسيره" (3/26). وقد ورد هذا المعنى مرفوعا من حديث أبي بن كعب: أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في "زوائد المسند" (5/121) والنسائي في "الكبرى – كتاب التفسير" (6/371). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/132) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان" . قال ابن كثير في "تفسيره" (2/523): ورواه عبد الله أيضا موقوفا وهو أشبه.
[19136]:كره البغوي في "تفسيره" (3/26).