اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ} (3)

الأول : قوله : { الذين يَسْتَحِبُّونَ } يجوز أن يكون مبتدأ ، خبره : " أوْلئِكَ " وما بعده .

وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي هم الَّذينَ .

وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [ المدح ]{[19113]} فيهما .

وأن يكون مجروراً على البدل ، أو البيان ، أو النعت ، قاله الزمخشريُّ{[19114]} ، وأبو البقاء{[19115]} والحوفي وغيرهم .

ورده أبو حيان{[19116]} : بأن فيه الفصل بأجنبيّ ، وهو قوله -جل ذكره- { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال : " ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز ، لأنك فصلت بين " زَيْدٍ " وصفته بأجنبي منهما ، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز ، والتركيب الصحيح أن تقول : الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ " .

و " يَسْتحِبُّونَ " استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ ، أو يكون على بابه ، وضمن معنى الإيثار ، ولذلك تعدّى ب " عَلَى " .

وقرأ الحسن{[19117]} : " يُصدُّونَ " بضم الياء من " أصَدَّ " ، و " أصَدَّ " منقولٌ من " صَدَّ " اللازم ، والمفعول محذوف ، أي : غيرهم أو أنفسهم ، ومنه قوله : [ الطويل ]

أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[19118]}

{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } تقدم مثله [ آل عمران : 99 ] .

قوله تعالى : { الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة } فيه إضمار تقديره : يستحبّون الحياة الدنيا ، ويؤثرونها على الآخرة ؛ فجمع -تعالى- بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة ، [ وأما ]{[19119]} من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة ؛ فذلك لا يكونُ مذموماً .

والنوع الثاني من أوصاف الكفار : قوله -عزَّ وجلَّ- { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي : يمنعوا النَّاس من قبول دين الله .

والنوع الثالث من تلك الصفات قوله : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } . واعلم أنَّ الإضلال على مرتبتين .

الأولى : أن يسعى في صدّ الغير .

والثانية : أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ ، والشبهات في المذهب الحق ، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ ، وهذا هو النهاية في الضلال ، والإضلال ، وإليه أشار بقوله : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } .

قال الزمخشريُّ{[19120]} : " الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجاً ؛ فحذف الجار وأوصل الفعل " .

وقيل : الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه : يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق ، أي : بجهة الحرام .

ولما ذكر الله -تعالى- هذه المراتب قال في وصفهم : { أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } وإنَّما وصف الله -تعالى- هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ :

الأول : أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد ، والبياض .

الثاني : أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى .

الثالث : أن المراد بالضَّلال : الهلاك ، والتقدير : أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع ، وأراد بالبعد : امتداده وزوال انقطاعه .


[19113]:في ب: الذم.
[19114]:ينظر: الكشاف 2/537.
[19115]:ينظر الإملاء 2/65.
[19116]:ينظر: البحر المحيط 5/393 – 394.
[19117]:ينظر: الكشاف 2/538، والبحر المحيط 5/394، والدر المصون 4/251.
[19118]:تقدم.
[19119]:في ب: ولذا.
[19120]:ينظر: الكشاف 2/538.