لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه ، وأتبعها بذكر درجاتِ الخلق في الآخرة ، أردفه بما يجري مجرى تحذير الناس عن الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكرِ والتَّلبِيس ، فقال عزَّ وجلَّ : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } .
روى عطاءٌ عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد ثقيفٍ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصالٍ ، قال : وما هُنَّ ؟ قالوا : ألاَّ نَحني في الصَّلاة أيْ لا نَنْحَنِي ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تُمتِّعنا باللاَّت سنة ، من غير أن نعبدها ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لا خَيْرَ في دينِ لا رُكوعَ فيه ولا سُجودَ ، وأمّا أن تَكسِرُوا أصْنامَكُم بأيْدِيكُمْ فذلك لَكُم ، وأمَّا الطَّاغيةُ يعني اللاَّت فإنَّني غير ممتِّعكُمْ بها " {[20598]} وفي رواية : " وحرِّم وادينا ، كما حرَّمت مكَّة شَجرهَا ، وطَيْرهَا ، ووَحْشهَا ، فأبى ذلكَ رَسُول الله{[20599]} صلى الله عليه وسلم ولَمْ يُجبْهُم ، فقالوا : يا رسول الله إنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمعَ العربُ أنَّك أعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرنَا ، وإنّي خَشِيتُ أن تقُول العربُ : أعْطَيتَهُم ما لَمْ تُعْطِنا ، فقل : الله أمَرنِي بذلكَ ، فَسكتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فطمع القومُ في سُكوتهِ أنْ يُعْطِيَهُمْ ، فَصاحَ عليهم عليٌّ وعمرُ - رضي الله عنهما - وقالوا : أما تَروْنَ أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أمْسَكَ عَنِ الكلامِ ؛ كَراهِيَةً لما تَذْكرُونَه ، فأنْزلَ الله تعالى هذه الآية " .
وقال سعيد بن جبيرٍ : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريشٌ ، وقالوا : لا نَدعُكَ ، حتَّى تلم بآلهتنا وتمسَّها ، فحدَّث نفسه ؛ ما عليَّ إذا فعلتُ ذلك ، والله يعلم أنِّي لها كارهٌ ، بعد أن يدعوني ، حتَّى أستلمَ الحجر ، فأنزل الله هذه{[20600]} .
وروى الزمخشريُّ أنَّهم جاءُوا بكتابهم ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كِتَابٌ مِنْ محمَّد رسول الله إلى ثقيفٍ : لا يعشرون ، ولا يحشرون ، فسكت رسُول الله ، ثم قالوا للكاتب : اكْتُبْ ولا يُجْبَون والكَاتبُ ينظرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامَ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وسلَّ سيفه ، وقال : أسعرتم قَلْبَ نَبيِّنا يا ثقيفُ ، أسْعَر الله قُلوبَكُمْ ناراً ، فقالوا : لَسْنَا نُكلِّمُك ، إنَّما نكلِّم محمداً ، فنزلت الآية ، وهذه القصَّة إنما وقعت بالمدينة ؛ فلهذا قيل : إنَّ هذه الآيات مدنيةٌ .
وروي أنَّ قريشاً قالت : اجْعَلْ آية رحمةٍ آية عذابٍ ، وآية عذابٍ آية رحمة ؛ حتَّى نُؤمِنَ بك ، فنزلت الآية .
قال القفال : ويمكن تأويل الآية من غير تقييد بسبب يضاف إلى نزولها فيه ؛ لأنَّ من المعلوم أنَّ المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر الرسول- صلوات الله وسلامه عليه - بأقصى ما يقدرون عليه ، فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى :
{ قُلْ يا أيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافرون : 1 ، 2 ] . { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] .
وعرضوا عليه الأموال الكثيرة ، والنِّسوان الجميلة ؛ ليترك ادِّعاء النبوة ، فأنزل الله - تعالى - : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ } [ طه : 131 ] .
ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] .
ودعوه إلى طرد الذين يدعون ربَّهم ، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب ، وذلك أنَّهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه يثبته على الدِّين القويمِ ، والمنهج المستقيم ، وعلى هذا الطريق ، فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيءٍ من تلك الرِّوايات .
قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } : " إنْ " هذه فيها المذهبان المشهوران : مذهب البصريين : أنها مخففة ، واللام فارقة بينها وبين " إن " النافية ، ولهذا دخلت على فعلٍ ناسخٍ ، ومذهب الكوفيين أنها بمعنى " ما " النافية ، واللام بمعنى " إلاَّ " وضمِّن " يَفْتِنُونَكَ " معنى " يَصْرفُونكَ " فلهذا عدِّي ب " عَنْ " تقديره : ليصرفونك بفتنتهم ، و " لِتَفْترِي " متعلق بالفتنة .
قوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ } " إذَنْ " حرف جواب وجزاء ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرط موقعها ، و " لاتَّخذُوكَ " جواب قسمٍ محذوفٍ ، تقديره : إذن ، والله لاتخذوك ، وهو مستقبل في المعنى ؛ لأنَّ " إذَنْ " تقتضي الاستقبال ؛ إذ معناها المجازاة ، وهو كقوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } [ الروم : 51 ] أي : ليظلنَّ ، وقول الزمخشريِّ : " أي : ولو اتَّبعتَ مرادهم ، لاتَّخذوكَ " تفسير معنى ، لا إعرابٍ ، لا يريد بذلك أنَّ " لاتَّخَذُوك " جوابٌ ل " لو " محذوفة ؛ إذ لا حاجة إليه .
قال الزجاج : معنى الكلام : كادوا يفتنونك ، ودخلت " إنْ " و " اللام " للتأكيد ، و " إنْ " مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية .
والمعنى : الشَّأن أنَّهم قاربوا أن يفتنوك ، أي : يخدعوك فاتنين ، وأصل الفتنة : الاختبار .
يقال : فتن الصَّائغُ الذَّهب ، إذا أدخلهُ النَّار ، وأذابهُ ؛ ليميِّز جيِّده من رديِّه ، ثم استعمل في كلِّ من أزال الشيء عن حدِّه وجهته ، فقالوا : فتنة ، فقوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } . أي : يزيلونك ، ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك ، وهو القرآن ، أي : عن حكمه ؛ وذلك لأنَّ في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن .
وقوله : { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } أي غير ما أوحينا إليك ، وقوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي لو فعلت ذلك ما أرادوا لاتخذوك خليلا ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراضٍ بشركهم ،
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.