اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن كَادُواْ لَيَفۡتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ لِتَفۡتَرِيَ عَلَيۡنَا غَيۡرَهُۥۖ وَإِذٗا لَّٱتَّخَذُوكَ خَلِيلٗا} (73)

لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه ، وأتبعها بذكر درجاتِ الخلق في الآخرة ، أردفه بما يجري مجرى تحذير الناس عن الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكرِ والتَّلبِيس ، فقال عزَّ وجلَّ : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } .

روى عطاءٌ عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في وفد ثقيفٍ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصالٍ ، قال : وما هُنَّ ؟ قالوا : ألاَّ نَحني في الصَّلاة أيْ لا نَنْحَنِي ولا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وأن تُمتِّعنا باللاَّت سنة ، من غير أن نعبدها ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لا خَيْرَ في دينِ لا رُكوعَ فيه ولا سُجودَ ، وأمّا أن تَكسِرُوا أصْنامَكُم بأيْدِيكُمْ فذلك لَكُم ، وأمَّا الطَّاغيةُ يعني اللاَّت فإنَّني غير ممتِّعكُمْ بها " {[20598]} وفي رواية : " وحرِّم وادينا ، كما حرَّمت مكَّة شَجرهَا ، وطَيْرهَا ، ووَحْشهَا ، فأبى ذلكَ رَسُول الله{[20599]} صلى الله عليه وسلم ولَمْ يُجبْهُم ، فقالوا : يا رسول الله إنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمعَ العربُ أنَّك أعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرنَا ، وإنّي خَشِيتُ أن تقُول العربُ : أعْطَيتَهُم ما لَمْ تُعْطِنا ، فقل : الله أمَرنِي بذلكَ ، فَسكتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فطمع القومُ في سُكوتهِ أنْ يُعْطِيَهُمْ ، فَصاحَ عليهم عليٌّ وعمرُ - رضي الله عنهما - وقالوا : أما تَروْنَ أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ أمْسَكَ عَنِ الكلامِ ؛ كَراهِيَةً لما تَذْكرُونَه ، فأنْزلَ الله تعالى هذه الآية " .

وقال سعيد بن جبيرٍ : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود ، فمنعته قريشٌ ، وقالوا : لا نَدعُكَ ، حتَّى تلم بآلهتنا وتمسَّها ، فحدَّث نفسه ؛ ما عليَّ إذا فعلتُ ذلك ، والله يعلم أنِّي لها كارهٌ ، بعد أن يدعوني ، حتَّى أستلمَ الحجر ، فأنزل الله هذه{[20600]} .

وروى الزمخشريُّ أنَّهم جاءُوا بكتابهم ، فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كِتَابٌ مِنْ محمَّد رسول الله إلى ثقيفٍ : لا يعشرون ، ولا يحشرون ، فسكت رسُول الله ، ثم قالوا للكاتب : اكْتُبْ ولا يُجْبَون والكَاتبُ ينظرُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامَ عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - وسلَّ سيفه ، وقال : أسعرتم قَلْبَ نَبيِّنا يا ثقيفُ ، أسْعَر الله قُلوبَكُمْ ناراً ، فقالوا : لَسْنَا نُكلِّمُك ، إنَّما نكلِّم محمداً ، فنزلت الآية ، وهذه القصَّة إنما وقعت بالمدينة ؛ فلهذا قيل : إنَّ هذه الآيات مدنيةٌ .

وروي أنَّ قريشاً قالت : اجْعَلْ آية رحمةٍ آية عذابٍ ، وآية عذابٍ آية رحمة ؛ حتَّى نُؤمِنَ بك ، فنزلت الآية .

قال القفال : ويمكن تأويل الآية من غير تقييد بسبب يضاف إلى نزولها فيه ؛ لأنَّ من المعلوم أنَّ المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر الرسول- صلوات الله وسلامه عليه - بأقصى ما يقدرون عليه ، فتارة كانوا يقولون : إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك ، فأنزل الله تعالى :

{ قُلْ يا أيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الكافرون : 1 ، 2 ] . { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] .

وعرضوا عليه الأموال الكثيرة ، والنِّسوان الجميلة ؛ ليترك ادِّعاء النبوة ، فأنزل الله - تعالى - : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ } [ طه : 131 ] .

ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] .

ودعوه إلى طرد الذين يدعون ربَّهم ، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب ، وذلك أنَّهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه ، وأن يزيلوه عن منهجه ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه يثبته على الدِّين القويمِ ، والمنهج المستقيم ، وعلى هذا الطريق ، فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيءٍ من تلك الرِّوايات .

قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } : " إنْ " هذه فيها المذهبان المشهوران : مذهب البصريين : أنها مخففة ، واللام فارقة بينها وبين " إن " النافية ، ولهذا دخلت على فعلٍ ناسخٍ ، ومذهب الكوفيين أنها بمعنى " ما " النافية ، واللام بمعنى " إلاَّ " وضمِّن " يَفْتِنُونَكَ " معنى " يَصْرفُونكَ " فلهذا عدِّي ب " عَنْ " تقديره : ليصرفونك بفتنتهم ، و " لِتَفْترِي " متعلق بالفتنة .

قوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ } " إذَنْ " حرف جواب وجزاء ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرط موقعها ، و " لاتَّخذُوكَ " جواب قسمٍ محذوفٍ ، تقديره : إذن ، والله لاتخذوك ، وهو مستقبل في المعنى ؛ لأنَّ " إذَنْ " تقتضي الاستقبال ؛ إذ معناها المجازاة ، وهو كقوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } [ الروم : 51 ] أي : ليظلنَّ ، وقول الزمخشريِّ : " أي : ولو اتَّبعتَ مرادهم ، لاتَّخذوكَ " تفسير معنى ، لا إعرابٍ ، لا يريد بذلك أنَّ " لاتَّخَذُوك " جوابٌ ل " لو " محذوفة ؛ إذ لا حاجة إليه .

فصل في معنى الآية

قال الزجاج : معنى الكلام : كادوا يفتنونك ، ودخلت " إنْ " و " اللام " للتأكيد ، و " إنْ " مخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية .

والمعنى : الشَّأن أنَّهم قاربوا أن يفتنوك ، أي : يخدعوك فاتنين ، وأصل الفتنة : الاختبار .

يقال : فتن الصَّائغُ الذَّهب ، إذا أدخلهُ النَّار ، وأذابهُ ؛ ليميِّز جيِّده من رديِّه ، ثم استعمل في كلِّ من أزال الشيء عن حدِّه وجهته ، فقالوا : فتنة ، فقوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } . أي : يزيلونك ، ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك ، وهو القرآن ، أي : عن حكمه ؛ وذلك لأنَّ في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن .

وقوله : { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } أي غير ما أوحينا إليك ، وقوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي لو فعلت ذلك ما أرادوا لاتخذوك خليلا ، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراضٍ بشركهم ،


[20598]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/119) وذكره البغوي في "تفسيره " (3/126 ـ 127).
[20599]:ينظر: الفخر الرازي 21/17.
[20600]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/118 ـ 119) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/352) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.