اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا} (75)

ثم توعد في ذلك أشد التوعد ، فقال : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة } أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات ، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف حقيقة هذا الكلام ؟ قلت : أصله لأذقناك عذاب الحياة ، وعذاب الممات ، لأن العذاب عذابان عذاب في الممات ، وهو عذاب القبر وعذاب في الحياة الآخرة ، وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] يعني عذاباً مضاعفاً ، فكان أصل الكلام : لأذقناك عذاباً ضعفاً عذاباً ضعفاً في الحياة ، وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف ، فأثبت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف ، فقيل : ضعف الحياة ، وضعف الممات ، لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله : { مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار } [ ص : 61 ] وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك ، وعقدت على الركون إليه لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا وفي الآخرة ، وصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة ، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم ، وكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ، ونظيره قوله تعالى : { يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] .

فإن قيل : قال عليه السلام : " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو عمل بما قالوه ، لكان وزره مثل وزر كل واحد من أولئك الكفار ، وعلى هذا التقدير فكان عقابه زائداً على الضعف .

فالجواب : إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب ، وهو دليل ضعيف ، ثم قال تعالى : { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } يعني : إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا .

فإن قيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً ، فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه ، وما طلبوه كفر ؟ .

قيل : كان ذلك خاطر قلب لم يكن عزماً ، وقد عفا الله عز وجل عن حديث النفس .

والجواب الصحيح هو أن الله تعالى قال : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } .

وقد ثبته الله ، فلم يركن إليهم ، وهذا مثل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } [ النساء : 83 ] وقد تفضل فلم يتبعوا .

فصل

احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية ، فقالوا : هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم منهم من وجوه :

الأول : أن الآية دلت على أنه - عليه السلام - قرب من أن يفتري على الله الكذب ، وذلك من أعظم الذنوب .

الثاني : تدلُّ على أنَّه لولا أنَّ الله - تعالى - ثبَّته وعصمه ؛ لقرب من أن يركن إلى دينهم .

الثالث : لولا أنَّه سبق جرمٍ وجناية ، وإلاَّ فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشَّديد .

والجواب عن الأوَّل : أنَّ " كاد " معناه المقاربة ، أي : أنه قرب وقوعه في الفتنة ، وهذا لا يدلُّ على الوقوع في تلك الفتنة ، بل يدلُّ على عدم الوقوع ؛ كقولك : " كادَ الأميرُ أن يَضْربَ فُلاناً " لا يدلُّ على أنَّه ضربه .

والجواب عن الثاني : أنَّ " لَوْلاَ " تفيد انتفاء الشيء ؛ لثبوت غيره ؛ تقول : لولا عليٌّ ، لهلك عمرٌو ؛ إذ وجود عليٍّ منع من حصول الهلاك لعمرو ، فكذلك ها هنا .

فقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } .

معناه : أنَّه لولا حصل تثبيتُ الله لمحمد صلى الله عليه وسلم فكان حصول ذلك التَّثْبِيت مانعاً من حصول ذلك الرُّكون .

والجواب عن الثالث : أنَّ التهديد على المعصية لا يدلُّ على الإقدام عليها ؛ لقوله - تعالى - { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44-46 ] .

وقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .

وقوله : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] .

فصل في ألا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى

احتجَّ أهلُ السنة على أنه لا عصمة من المعاصي إلاَّ بتوفيقِ الله تعالى ؛ بقوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } الآية ، فبيَّن أنَّه لولا تثبيت الله تعالى له ، لمال إلى طريقةِ الكفَّار ، ولا شكَّ أنَّ محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كان أقوى من غيره في قوة الدِّين ، وصفاء القلب واليقين ، فلما بيَّن الله تعالى له أنَّ بقاءهُ معصوماً عن الكفر والضلال ، لم يحصل إلاَّ بإعانة الله تعالى وتوفيقه ، كان حصول هذا المعنى في حقِّ غيره أولى .

قالت المعتزلة : المراد بهذا التَّثبيتِ : الألطاف الصَّارفة عن ذلك ، وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده ، ومن ذكر أنَّ كونه نبيًّا من عند الله يمنع من ذلك .

والجواب : لا شكَّ أنَّ التثبيت عبارة عن فعل فعلهُ الله تعالى ، يمنع الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك الوقوع في ذلك المحذور ، فنقول : لم يوجد المقتضي للإقدام على ذلك العمل المحذور في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - لما كان لإيجاد هذا المنع حاجةٌ ، وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أنَّ ذلك المقتضي قد حصل في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وأنَّ هذا المانع الذي فعله الله تعالى لمنع ذلك المقتضي من العمل ، وهذا لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا : إنَّ القدرة مع الدَّاعي توجب الفعل ، فإذا حصلت داعية أخرى معارضةٌ للداعي الأوَّل ، اختلَّ المؤثِّر ، فامتنع الفعل ، ونحن لا نريدُ إلاَّ إثبات هذا المعنى .