اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن كَادُواْ لَيَسۡتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلۡأَرۡضِ لِيُخۡرِجُوكَ مِنۡهَاۖ وَإِذٗا لَّا يَلۡبَثُونَ خِلَٰفَكَ إِلَّا قَلِيلٗا} (76)

قال مجاهد ، وقتادة : الأرض : أرض مكة{[20602]} ، والآية مكيَّةٌ . هَمَّ المشركون في أن يخرجوه منها ، فكفَّهم الله عنه ؛ حتَّى أمره بالهجرة ، فخرج بنفسه ، وهذا أليق بالآية ؛ لأنَّ ما قبلها خبر عن أهل مكَّة ، وهذا اختيار الزجاج .

وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : لمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حسدته اليهود ، وكرهوا قربه منهم ، ومقامه بالمدينة ، فأتوهُ ، وقالوا : يا أبا القاسم ، لقد علمت ما هذه بدارِ الأنبياءِ ، وأنَّ أرض الأنبياء بالشَّام ، وهي الأرض المقدسة ، وبها كان إبراهيم والأنبياء - صلوات الله عليهم - فإن كنت نبيًّا مثلهم ، فأت الشَّام ، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم ، وإنَّ الله يمنعك من الرُّوم ، إن كنت نبيًّا ، فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميالٍ من المدينة ، وقيل : بذي الحليفة ؛ حتَّى يجتمع إليه أصحابه ، ويراه النَّاس عازماً على الخُروج إلى الشَّام ، فيدخلون في دين الله - سبحانه وتعالى - فأنزلت هذه الآية ، وهذا قول الكلبيِّ{[20603]} ، وعلى هذا ، فالآية مدنية ، والمراد بالأرض : أرض المدينة ، وكثر في التنزيل ذكر الأرض ، والمراد منها مكانٌ مخصوصٌ ؛ كقوله تعالى : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } [ المائدة : 33 ] أي : من مواضعهم .

وقوله تعالى : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } [ يوسف : 80 ] .

يعني : التي كان يقصدها ؛ لطلب الميرة .

فإن قيل : قال الله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] . يعني : " مكَّة " ؟ ! .

فالجواب : أنَّهم همُّوا بإخراجه ، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما خرج بسبب إخراجهم ، وإنَّما خرج بأمر الله تعالى ؛ فزال التَّناقضُ ، والاستفزازُ : هو الإزعاج بسرعة .

{ وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ } : قرأ العامة برفع{[20604]} الفعل بعد " إذَنْ " ثابت النون ، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامة ، ورفعه وعدم إعمال " إذن " فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها توسَّطت بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : ما وجهُ القراءتين ؟ قلت : أمَّا الشائعة - يعني برفع الفعل - فقد عطف فيها الفعل على الفعل ، وهو مرفوع لوقوعه خبر " كاد " وخبر " كاد " واقعٌ موقع الاسم " قلت : فيكون " لا يَلْبَثُونَ " عطفاً على قوله " ليسْتَفِزُّونكَ " .

الثاني : أنها متوسطة بين قسم محذوف وجوابه ، فألغيت لذلك ، والتقدير : وواللهِ ، إذن لا يلبثون .

الثالث : أنها متوسطة بين مبتدأ محذوف وخبره ، فألغيت لذلك ، والتقدير : وهم إذن لا يلبثون .

وقرأ أبيٌّ بحذف{[20605]} النون ، فنصبه ب " إذَنْ " عند الجمهور ، وب " أنْ " مضمرة بعدها عند غيرهم ، وفي مصحف عبد الله " لا يَلبَثُوا " بحذفها ، ووجه النصب : أنه لم يجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم ، ولا جواباً ، ولا خبراً ، قال الزمخشريُّ : وأمَّا قراءة أبيِّ ، ففيها الجملة برأسها التي هي : إذن لا يلبثوا ، عطف على جملة قوله " وإنْ كادُوا ليَسْتفزُّونكَ " .

وقرأ عطاء " لا يُلبَّثُونَ " بضمِّ الياء ، وفتح اللام والباء ، مشددة مبنيًّا للمفعول ، من " لبَّثَهُ " بالتشديد ، وقرأها يعقوب كذلك ، إلا أنه كسر الباء ، جعله مبنياً للفاعل .

قوله تعالى : " خِلافَكَ " قرأ{[20606]} الأخوان ، وابن عامرٍ ، وحفص : " خِلافكَ " بكسر الخاء ، وألف بعد اللام ، والباقون بفتح الخاءِ ، وسكون اللام ، والقراءتان بمعنى واحدٍ .

قال الأخفش : خلافك : بمعنى : خلفك .

وروى ذلك يونس عن عيسى ، وهذا كقوله : { بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله } [ التوبة : 81 ] .

وأنشدوا في ذلك : [ الكامل ]

عَفتِ الدِّيارُ خِلافَهُم فكأنَّما *** بَسطَ الشَّواطِبُ بَينهُنَّ حَصِيرا{[20607]}

والمعنى : بعد خروجك ، وكثر إضافة " قَبْل " و " بَعْدُ " ونحوهما إلى أسماء الأعيان ؛ على حذف مضاف ، فيقدَّرُ من قولك : جاء زيدٌ قبل عمرو ، أي : قبل مجيئه .

قوله تعالى : { إِلاَّ قَلِيلاً } يجوز أن تكون صفة لمصدر ، أو لزمانٍ محذوف ، أي : إلا لبثاً قليلاً ، أو إلاَّ زماناً قليلاً ؛ أي : حتَّى يهلكوا ، فالمراد بالقليل : إمَّا مدَّة حياتهم ، وإما ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إلى حين قتلهم ببدرٍ .


[20602]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/121) عن مجاهد وقتادة.
[20603]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/20) عن ابن عباس.
[20604]:ينظر في قراءتها: الشواذ 77، والإتحاف 202، والبحر 6/63 والدر المصون 4/411.
[20605]:ينظر: السبعة 383، والنشر 2/308، والتيسير 141، والإتحاف 2/202، والحجة للقراء السبعة 5/113، والحجة 408، والقرطبي 10/195، والبحر 6/63، والدر المصون 4/410.
[20606]:ينظر: السبعة 383، النشر 2/308، التيسير 141، والقرطبي 10/195.
[20607]:البيت لجرير ينظر: تفسير الطبري 15/90، القرطبي 10/195، مجاز القرآن 1/263، الكشاف 2/ 686، البحر 6/63، روح المعاني 15/130، التاج واللسان "خلف" ، الدر المصون 4/411.