اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} (70)

وهذه نعمة أخرى عظيمة من نعم الله - تعالى - على الإنسان ، وهي تفضيل الإنسان على غيره .

واعلم أنه ليس المراد من الكرمِ في المالِ . وعدَّاه بالتضعيف ، وهو من كرم بالضَّم ك " شَرُفَ " ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما- : كلُّ شيءٍ يأكل بفيه إلاَّ ابن آدم يأكل بيديه{[20573]} .

وروي عنه أنه قال : بالعقل{[20574]} .

وقال الضحاك : بالنُّطق والتَّمييز{[20575]} .

وقال عطاء : بتعديل القامة ، وامتدادها{[20576]} .

وينبغي أن يشترط مع هذا شرطٌ ، وهو طول العمر ، مع استكمال القوَّة العقليَّة والحسيَّة والحركيَّة ، وإلاَّ فالأشجار أطول قامة من الإنسانِ ، والدَّوابُّ منكبَّة على وجوهها .

وقيل : بحسنِ الصورة ؛ كقوله تعالى : { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [ غافر : 64 ] ولما ذكر خلقه للإنسان ، قال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وقال جلَّ ذكره { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ] .

وتأمَّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان ، وهو العين ، فخلق الحدقة سوداء ، ثم أحاط بذلك السَّواد بياض العين ، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ، ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ، ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ، ثم خلق فوق سواد الحاجبين بياض الجبهة ، ثمَّ خلق فوق بياض الجبهة سواد الشَّعر .

وقيل : الرِّجال باللحى ، والنِّساء بالذَّوائب .

وقيل : بأن سخَّر لهم سائر الأشياء .

وقال بعضهم : من كرامات الآدميِّ أن آتاه الله الخطَّ .

وتحقيق الكلام : أن العلم الذي يقدر الإنسانُ على استنباطه يكون قليلاً ، فإذا أودعه في كتابٍ ، وجاء الإنسان الثاني ، واستعان بذلك الكتاب ، ضمَّ إليه من عند نفسه آخر ، ثم لا يزالون يتعاقبون ، ويضمُّ كلُّ متأخرٍ مباحث كثيرة إلى علم المتقدِّمين ، فكثرت العلومُ ، وانتهتِ المباحثُ العقليَّة ، والمطالب الشرعيَّة إلى أقصى الغايات ، وأكمل النهايات ، وهذا لا يتأتَّى إلا بواسطةِ الخطِّ ، ولهذه الفضيلة ؛ قال تعالى : { اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3-5 ] .

وقال بعضهم : إنَّ المخلوقاتِ أربعة أقسامٍ :

قسم حصلت له القوَّة العقليَّة الحكميَّة ، ولم تحصل له القوَّة الشهوانيَّة ، وهم الملائكة - صلوات الله عليهم - وقسمٌ بالعكس ، وهم البهائم ، وقسم خلا عن القسمين ، وهم النباتُ والجمادات ، وقسم حصل النوعان فيه ، وهو الإنسان ، ولا شكَّ أنَّ الإنسان ؛ لكونه مستجمعاً للقوَّة العقلية ، والقوة الشهوانيَّة ، والبهيميَّة والنفسيَّة والسبعيَّة يكون أفضل من البهيمة والسَّبع ، وهو أيضاً أفضل من الخالي عن القوتين ؛ كالنبات والجمادات ، وإذا ثبت ذلك ، ظهر أنَّ الله تعالى فضَّل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات .

وأيضاً : الموجود : إمَّا أن يكون أزليًّا وأبدياً معاً ، وهو الله تبارك وتعالى .

وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ولا أبديًّا ، وهم عالم الدنيا مع ما فيه من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وهذا أخسُّ الأقسام ، وإمَّا أن يكون أزليًّا ، ولا يكون أبديًّا ، وهو الممتنعُ الوجود ؛ لأنَّ ما ثبت قدمه ، امتنع عدمهُ ، وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ، ولكنَّه يكون أبديًّا ، وهو الإنسان ، والملك ، وهذا القسمُ أشرف من الثاني والثالث ، وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات .

ثمَّ قال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر } .

قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه- : في البرِّ على الخيل والبغالِ والحميرِ والإبلِ ، وفي البحر على السُّفُن{[20577]} .

{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } يعني لذيذ الطَّعام والمشارب ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } .

واعلم أنَّه قال في أوَّل الآية { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } .

وقال في آخرها : { وَفَضَّلْنَاهُمْ } ولا بدَّ من الفرق بين التكريم والتفضيل ، وإلا لزم التَّكرار ، والأقرب أن يقال : إنه تعالى فضَّل الإنسان على سائرِ الحيوانات بأمور خلقيَّة طبعيَّة ذاتيَّة ؛ كالعقل ، والنطق ، والخطِّ ، والصورة الحسنة ، و القامة المديدة ، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقَّة ، والأخلاق الفاضلة ، فالأول : هو التكريم ، والثاني : هو التفضيل .

فصل

ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّه فضَّلهم على كثيرٍ من خلقه ، لا على الكلِّ ، فقال قومٌ : فضِّلوا على جميع الخلق ، لا على الملائكة ، وهذا قول ابن عباس{[20578]} ، واختيارُ الزجاج على ما رواهُ الواحديُّ{[20579]} في " البسيط " .

وقال الكلبيُّ : فضِّلوا على جميع الخلائق كلِّهم ، إلاَّ على طائفةٍ من الملائكة : جبريل ، ميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت - صلوات الله عليهم أجمعين - وأشباههم{[20580]} .

وقال قوم : فضِّلوا على جميع الخلق ، وعلى الملائكةِ كلِّهم ، وقد يوضع الأكثر موضع الكلِّ ؛ كقوله سبحانه { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } [ الشعراء : 221 ] إلى قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 223 ] أي : كلُّهم .

وروى جابرٌ يرفعه : قال " لمَّا خلق الله - عزَّ وجلَّ - آدم ، وذريَّته ، قالت الملائكة : يا ربُّ ، خلقتهم يَأكلُونَ ، ويَشْرَبُونَ ، ويَنكِحُونَ ، فاجعلْ لهمُ الدُّنْيَا ، ولنَا الآخِرةَ ، فقال تعالى : لا أجعل من خلقته بيدي ، ونفخت فيه من روحي ، كمن قلت له : كن فكان " {[20581]} .

والأولى أن يقال : عوامُّ الملائكة أفضل من عوامِّ المؤمنين ، وخواصُّ المؤمنين أفضل من خواصِّ الملائكة ، قال تعالى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية } [ البينة : 7 ] .

ورُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " المُؤمِنُ أكْرَمُ على الله مِنَ المَلائِكَةِ الَّذينَ عِندَهُ " رواه البغويُّ{[20582]} وأورده الواحدي في " البسيط " .

واحتجَّ القائلون بتفضيل الملائكة على البشر على الإطلاق بهذه الآية .

قال ابن الخطيب : وهو في الحقيقة تمسُّكٌ بدليل الخطاب ، وتقريره أن يقال : تخصيص الكثير بالذكر يدلُّ على أنَّ الحال في القليل بالضدِّ ، وذلك تمسُّك بدليل الخطاب .


[20573]:أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (5/77) رقم (5841) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/350) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس. وله شاهد من حديث جابر مرفوعا بلفظ: الكرامة الأكل بالأصابع ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/351) وعزاه إلى الحاكم في "التاريخ" والديلمي في "مسند الفردوس". وذكره البغوي في "تفسيره" (3/125).
[20574]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/125).
[20575]:ينظر: المصدر السابق.
[20576]:ينظر: المصدر السابق.
[20577]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/13).
[20578]:ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من شيء أكرم على الله من بني آدم يوم القيامة . قيل يا رسول الله ولا الملائكة المقربون قال ولا الملائكة. ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/350) وعزاه إلى الطبراني والبيهقي في "الشعب" والخطيب في "تاريخه".
[20579]:ينظر: الرازي 21/14.
[20580]:ذكره البغوي في "تفسيره " (3/125).
[20581]:أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 317) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/350). وعزاه إلى البيهقي في "الأسماء والصفات".
[20582]:ينظر: تفسير البغوي (3/125).