" إذْ " عطف على " إذْ " قبلها ، وقد تقدم الكلام فيها ، و " جَعَلْنَا " يحتمل أن يكون بمعنى " خَلَقَ " و " وضعَ " فيتعدّى لواحد ، وهو " البيت " ، ويكون " مَثَابَةً " نصباً على الحال وأن يكون بمعنى " صيّر " فيتعدى لاثنين ، فيكون " مَثَابَةً " هو المفعول الثاني . والأصل في " مثابة " " مثوبة " فأعلّ بالنقل والقلب ، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان ؟
وهل الهاء فيه للمبالغة ك " عَلاَّمة " و " نَسَّابة " لكثرة من يثوب إليه ، أي يرجع ، أو لتأنيث المصدر ك " مقامة " أو لتأنيث البقعة ؟ ثلاثة أقوال ، وقد جاء حذف هذه الهاء ؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَل : [ الطويل ]
776- مَثابٌ لأَفْنَاءِ القَبَائِلِ كُلِّهَا *** تَخُبُّ إلَيْهَا اليَعْمَلاَتُ الذَّوَامِلُ
777- جَعَلَ البَيْتَ مَثَاباً لَهُمُ *** لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ
وهل معناه من ثاب يثوب أي : رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء ؟
أظهرهما : أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : إنهم يثوبون إليه في كل عام .
وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : [ أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه ] ، وقرأ الأعمش وطلحة " مَثَابَاتٍ " جمعاً ، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس .
قوله تعالى : " لِلنَّاسِ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب .
والثاني : أنه متعلّق بجعل أي : لأجل الناس يعني مناسكهم .
قوله تعالى : " وَأَمْناً " فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على " مثابة " وفيه التأويلات المشهورة : إما المبالغة في جعله نفس المصدر ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذا أمن ، وإما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، أي : آمناً ، على سبيل المجاز كقوله :
{ حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] .
والثاني : أنه معمول لفعل محذوف تقديره : وإذ جعلنا البيت مثابة ، فاجعلوه آمناً لا يعتدي فيه أحد على أحد .
والمعنى : أن الله جعل البيت محترماً بحكمه ، وربما يؤيد هذا بقراءة : " اتَّخِذُوا " على الأمر ، فعلى هذا يكون " وأَمْناً " وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية ، وعلى الأول يكون من عَطْفِ المفردات .
اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني ، وهو تطهير البيت ، فنقول : المراد بيت الله الحرام ؛ لأن الألف واللام فيه : إما للعهد أو للجنس ، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس ، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة .
قال ابن الخطيب : وليس المراد نفس الكعبة ؛ لأنه تعالى وصفه بكونه " أمناً " وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت ، والمراد منه كل حرم .
قال تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] والمراد الحرم كله لا الكعبة نفسها ؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ، ولا في المسجد الحرام ، وقال تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [ التوبة : 28 ] .
والمراد والله أعلم منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، وقال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن ، فاقتضى جميع الحرم . والسّبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت ، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت .
قوله : " وأمناً " أي : موضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين ، ولا شَكَّ أن قوله تعالى : { جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } خبر فتارة يتركه على ظاهره ، ويقول : هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره ، ويقول : هو أمر .
أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القَحْط والجدب على ما قال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] وقوله :
{ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ القصص : 57 ] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القَتْلِ في الحرم ؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه .
وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه ، قال الله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } [ البقرة : 191 ] فأخبر عن وقوع القَتْلِ فيه .
وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى : أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمناً من الغارة والقَتل ، فكان البيت محترماً بحكم الله تعالى ، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل " مكة " ، وكانوا يسمون قريشاً : أهل الله تعظيماً له ، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليَهُمَّ بالظَّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب ، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكَلْب قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح " مكة " : " " إنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ، لاَ يُعْضَدُ شُوْكُهُ ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لقطته إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا " فقال العباس رحمه الله : يا رسول الله إلا الإذْخِرَ . فقال : " إلاَّ الإذْخِرَ " .
فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم ؟
قال الشَّافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه : إذا دخل البيت من وجب عليه حَدٌّ فلا تستوف منه ، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجوز .
واحتج الشافعي رضي الله عنه بأنه عليه الصلاة والسلام أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره ب " مكة " غيلة إن قدر عليه ، وهذا في الوقت الذي كانت " مكة " فيه محرمة ، وذلك يدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه ، وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها .
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية .
والجواب عنه أن قوله : " وأمناً " ليس فيه بيان أنه جعله آمناً في ماذا ؟ فيمكن أن يكون آمناً من القَحْط ، وأن يكون آمناً من نَصْب الحروب ، وأن يكون آمناً من إقامة الحُدُود ، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل ، بل حَمْلُه على الأمن من القَحْط والآفات أَوْلَى ؛ لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر ، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك ، فكان قول الشَّافعي رحمه الله أولى .
قوله تعالى : " واتَّخِذُوا " قرأ نافع وابن عامر : " واتَّخَذُوا " فعلاً ماضياً على لفظ الخبر ، والباقون على لفظ الأمر .
فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف على " جَعَلْنَا " المخفوض ب " إذ " تقديراً ، فيكون الكلام جملة واحدة .
الثاني : أنه معطوف على مجموع قوله : " وإذْ جَعَلْنَا " فيحتاج إلى تقدير " إذْ " أي : وإذ اتَّخّذُوا ، ويكون الكلام جملتين .
الثالث : ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره : فثابوا واتخذوا .
وأما قراءة الأمر ففيها أربعة أوجه :
أحدها : أنها عطف على " اذكروا " إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسْرَائِيل ، أي : اذكروا نعمتي واتخذوا .
والثاني : أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله : " مثابة " ، كأنه قال : ثوبوا واتخذوا ، ذكر هذين الوجهين المَهْدَوِي .
الثالث : أنه مفعول لقول محذوف ، أي : وقلنا : اتخذوا ، إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته ، أو لمحمد عليه الصلاة والسلام وأمته .
الرابع : أن يكون مستأنفاً ذكره أبو البقاء .
قوله تعالى : " مِنْ مَقَامِ " في " من " ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تبعيضية ، وهذا هو الظاهر .
الثالث : أنها زائدة على قول الأخفش ، وليس بشيء .
والمقام هنا مكان القيام ، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضاً . وأصله : " مَقْوَم " فأعل بنقل حركة " الواو " إلى السَّاكن قبلها ، وقلبها ألفاً ، ويعبر به عن الجماعة مجازاً ؛ كما يعبر عنهم بالمجلس ؛ قال زهير : [ الطويل ]
778- وفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ *** وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ وَالفِعْلُ{[1749]}
قوله : " مُصَلًّى " مفعول " اتَّخِذُوا " ، وهو هنا اسم مكان أيضاً ، وجاء في التفسير بمعنى قبلة .
وقيل : هو مصدر ، فلا بد من حذف مضاف أي : مكان صلاة ، وألفه منقلبة عن واو ، والأصل : " مُصَلَّو " ؛ لأن الصلاة من ذوات " الواو " كما تقدم أول الكتاب .
اختلفوا في " المقام " فقال الحسن والربيع بن أنس وقتادة : هو موضع الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه ، وهو راكب فغسلت أحد شقّي رأسه ، ثم رفعته من تحته ، وقد غاصت رجله في الحَجر ، فوضعته تحت الرجل الأخرى ، فغاصت رجله أيضاً فيه ، فجعله الله تعالى من معجزاته{[1750]} يروى أنه كان موضع أصابع رجليه بيِّناً فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ البقرة : 127 ] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام ، وقال مجاهد رحمه الله وإبراهيم النخعي رضي الله عنه{[1751]} : " مقام إبراهيم الحرم كله " وقال يمان : المسجد كله مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
[ وقال عطاء : إنه عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال ابن عباس : " الحج كله مقام إبراهيم " ] .
واتفق المحققون على أن القول الأول أولى لما روى جابر رحمة الله عليه أنه عليه الصَّلاة والسلام لما فرغ من الطواف أتى المقام ، وتلا قوله تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى }{[1752]} .
وروي أنه عليه الصلاة والسلام مرّ بالمقام ، ومعه عمر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فلم تغب الشمس من فوقهم حتى نزلت الآية{[1753]} ، وقال تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } .
وليس للصلاة تعلق بالحرم ، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع ، فيكون مقام إبراهيم هو هذا ، ولو سأل سائل أهل " مكّة " عن مقام إبراهيم لم يجبه أحد ، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع لما روي أن الحجر صار تحت قدميه في رُطُوبة الطّين حتى غاصت فيه رِجْلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك من أظهر الدلائل على وَحْدَانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام ، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره ، وثبت في الأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ، ولم يثبت قيامه على غيره ، فحمل هذا اللفظ ، أعني : مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى .
قال القَفَّال : ومن فسر{[1754]} " مقام إبراهيم " بالحجر خرج قوله تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } على مجاز قول الرجل : اتخذت من فلان صديقاً ، وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ، وإنما تدخل " من " لبيان المتخذ الموصوف ، ويميزه في ذلك المعنى من غيره .
فقال مجاهد رحمه الله تعالى : " هو الدعاء " ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ الأحزاب : 56 ] وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله : إن الحرم كله مقام إبراهيم .
وقال الحسن رضي الله عنه : أراد به قبلة إبراهيم .
وقال قتادة والسّدي : أمروا أن يصلوا عنده ، وهذا القول أولى ؛ لأن لفظ " الصَّلاة " إذا أطلق يعقل منه الصَّلاة الشَّرعية وقال عليه الصلاة والسلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة . وصلَّى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عنده بعد تلاوة الآية . وهاهنا بحثان وهو أن ركعتي الطواف هل هي فرض أو سنة فإن كان الطواف فرضاً فعن الشافعي رحمه الله قولان :
أحدهما : أنهما فرض ؛ لهذه الآية ، فإن الأمر للوجوب .
والثاني : أنهما سنة ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله هل عليَّ غيرها ؟ قال لا إلاَّ أن تطوع ، وإن كان الطواف سنة فهما سنة .
فصل في الكلام على البيت المعمور
روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال : البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح ، وهو بجبال الكعبة من فوقها ، حرمته في السَّماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً .
وذكر علي رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم ، فانهدم فبنته العَمَالقة ، ومر عليه الدهر فانهدم ، فبنته جُرْهم ، ومر عليه الدهر فانهدم ، بنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شابّ ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه ، فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السّكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم ، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مِرْطٍ ، ثم ترفعه جميعُ القبائل ، فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه .
وعن الزهري قال : بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثلاثة صفوح في كل صفح كتاب .
في الصفح الأول : أنا الله ذو بَكَّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حفًّا ، وباركت لأهلها في اللحم واللبن .
وفي الصفح الثاني : أنا الله ذو بَكَّة خلقت الرحم ، وشققت لها اسماً من اسمي من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته .
وفي الثالث : أنا الله ذو بكَّة خلقت الخير والشرّ ، فطوبى لمن كان الخير على يديه ، وويل لمن كان الشر على يديه . وقال صلوات الله وسلامه عليه : " الرُّكْنُ وَالمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الجَنَّةِ طَمَسَ اللهُ تَعَالَى نُورَهُمَا ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَضَاءَ لَهُمَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ ، وَما مسهما ذُو عَاهَةٍ وَلاَ سَقِيمٌ إلاَّ شُفِيَ " .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " هَذَا الحَجَرُ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَإنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أهْلِ الشِّرْكِ " .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هَذَا الحَجَرُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا ، وَلسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ ، يَشْهَدُ عَلَى مَن اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ " .
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قَبَّل الحجر الأَسْوَد وقال : " إِنِّي لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، وأن الله ربّي ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبَّلتك " .
قوله تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ } تقدم معنى العَهْد .
قيل : معناه هاهنا أمرنا وقيل : أوحينا .
قوله : " وَإسْمَاعِيلَ " إسماعيل علم أعجميٌّ ، وفيه لغتان : باللام والنون ؛ وعليه قول الشاعر : [ الرجز ]
779- قَالَ جَوَارِي الحَيِّ لَمَّا جِينَا *** هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إسْمَاعِينَا{[1755]}
ويجمع على : " سَمَاعلة " و " سماعيل " و " أساميع " .
ومن أغرب ما نقل في التسمية أن إبراهيم عليه السلام لما دعا لله أن يرزقه ولداً كان يقول : اسمع إيل اسمع إيل ، وإيل هو الله تعالى فسمى ولده بذلك .
قوله : " أَنْ طَهِّرَا " يجوز في " أن " وجهان :
أحدهما : أنها تفسيرية لجملة قوله : " عَهِدْنَا " ، فإنه يتضمن معنى القول ؛ لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا ، فهي بمنزلة " أي " التي للتفسير ، وشرط " أن " التفسيرية أن تقع بَعْدَما هو بمعنى القول لا حروفه .
وقال أبو البقاء : والمفسرة تقع بعد القول ، وما كان في معناه .
فقد غلط في ذلك ، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب .
والثاني : أن تكون مصدرية ، وخرجت على نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية ، قالوا : " كتبت إليه بأن قم " وفيها بحث ليس هذا موضعه ، والأصل : بأن طهرا ، ثم حذفت الباء ، فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب ، أو خفض .
و " بَيْتِيَ " مفعول به أضيف إليه تعالى تشريفاً وقرأ أهل " المدينة " وحفص " بيتيَ " بفتح الياء هاهنا ، وفي سورة " الحج " ، وزاد حفص في سورة " نوح " عليه الصلاة والسلام .
و " الطائف " اسم فاعل من : " طاف يطوف " ، ويقال : أطاف رباعياً ، قال : [ الطويل ]
780- أطَافَتْ بِهِ جَيْلاَنُ عِنْدَ قِطَاعِهِ *** . . . {[1756]}
وهذا من باب " فَعَل وأفْعَل " بمعنى .
يجب أن يراد به تطهير البيت من كل أمر لا يليق به ، لأنه موضع الصَّلاة فيجب تطهيره من الشرك ، ومن كل ما لا يليق به ، وذكر المفسّرون وجوهاً :
أحدها : أن معنى " طَهِّرَا بَيْتِيَ " ابنياه وطَهّراه من الشرك ، وأسِّسَاه على التقوى .
وثانيهما : عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجّوه ، وزاروه وأقاموا به .
ومجازه : اجعلاه طاهراً عندهم ، كما يقال : فلان يطهر هذا ، وفلان ينجسه .
وثالثها : ابنياه ، ولا تدعا أحداً من أهل الريب أو الشرك يزاحم الطَّائفين فيه ، بل أقرَّاه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال : طهر الله الأرض من فلان ، وهذه التأويلات مبنيّة على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تَطْهيره من الأَوْثَان والشرك ، وهو كقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ البقرة : 25 ] فمعلوم أنهنّ لم يطهرن عن نجس ، بل خلقن طاهرات ، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً .
ورابعها : معناه : أن نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي ، ليقتدي الناس بكما في ذلك .
وخامسها : قال بعضهم : إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجِيف والأقذار ، فأمر الله تعالى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بإزالة تلك القَاذُورَات وبناء البيت هناك ، وهذا ضعيف ؛ لأن قبل البناء ما كان البيت موجوداً ، فتطهير تلك العَرْصَة لا يكون تطهيراً للبيت ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً ، لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً لكنه مجاز .
قوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } .
الطائفين : الدَّائرين حوله والعاكفين المقيمين الملازمين .
والعكوف لغة : اللزوم واللبث ؛ قال : [ الوافر ]
781- . . . *** عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا{[1757]}
782- عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الفَنْزَجَا{[1758]} *** . . .
ويقال : عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ ، بالفتح في الماضي ، والضم والكسر في المضارع ، وقد قرئ{[1759]} بهما .
و " السُّجُود " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع ساجد نحو : قاعد وقعود ، وراقد ورقود ، وهو مناسب لما قبله .
والثاني : أنه مصدر نحو : الدخول والقعود ، فعلى هذا لا بد من حذف مضاف أي : ذوي السّجود ذكره أبو البقاء .
وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله : " الطَّائِفِينَ والعَاكِفِينَ " لتبايُنِ ما بينهما ، ولم يعطف إحدى الصّفتين على الأخرى في قوله : " الرُّكَّعِ السُّجُودِ " ، لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حِيَالِهَا ، وجمع صفتين جمع سلامة ، وأخْريَيْن جمع تكسير لأجل المقابلة ، وهو نوع من الفَصَاحة ، وأخر صيغة " فعُول " على " فُعّل " ؛ لأنها فاصلة .
فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة
في هذه الأوصاف الثلاثة قولان :
أحدهما : أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة ؛ لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف .
فالمراد بالطَّائفين : من يقصد البيت حاجًّا أو معتمراً ، فيطوف به ، والمراد بالعاكفين : من يقين هناك ويجاور ، والمراد بالركع السجود : من يصلي هناك .
والثاني : قال عطاء : إنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفين ، وإذا كان جالساً فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود . وعن ابن عباس رضي الله عنهما العاكفون هم الذين يصلون عند الكعبة{[1760]} .
خصّ الركوع والسجود بالذكر ؛ لأنها أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى .
أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء ، فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ؛ لأنه تعالى كما خصّهم بالطواف دلّ على أن لهم به مزيد اختصاص .
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء : أن الطواف لأهل الأنصَارِ أفضل ، والصلاة لأهل " مكة " أفضل .
ومنها جواز الاعتكاف في البيت .
ومنها جواز الصلاة في البيت فرضاً أو نَفْلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها ، خلافاً لمن منع جواز الصَّلاة المفروضة في البيت .
فإن قيل : لا تسلم دلالة الآية على ذلك ؛ لأنه تعالى لم يقل : والركّع السجود في البيت ، وكما لا تدلّ الآية على جواز فعل الطَّواف في جوف البيت ، وإنما دلّت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصَّلاة إلى البيت متوجّهة إليه ، فالجواب ظاهر لأنه يتناول الرجع السجود إلى البيت ، سواء كان ذلك في البيت ، أو خارجاً عنها ، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت هو أن يطوف بالبيت ، ولا يسمى طائفاً بالبيت مَنْ طاف في جوفه ، والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه ، لقوله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج : 29 ] .
وأيضاً المراد لو كان التوجه إليه للصلاة ، لما كان الأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه ، إذ كان حاضرو البيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجّه إليه .
فإن قيل : احتجّ المخالف بقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
[ البقرة : 144 ] ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجّهاً إلى المسجد ، بل إلى جزء من أجزائه .
والجواب : أن المتوجّه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كلّ المسجد ، بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه ، ومن كان داخل البيت فهو كذلك ، فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية .
ويدخل في هذا المعنى جميع بيوت الله تعالى ، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة ، وإنما خص الكعبة بالذكر ، لأنه لم يكن هناك غيرها .