قوله تعالى :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }{[1944]}
قال القفال [ رحمه الله : ] هذا متعلق بقوله تعالى : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } فإنما نبلوكم بالخَوْفِ وبكذا ، وفيه مسائِلُ .
{ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] والشكرُ يوجب المزيدَ ، لقوله :{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] فكيف أردَفَهُ بقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ } ؟ .
[ قال ابن الخطيب ]{[1945]} : والجواب من وَجْهَيْنِ :
الأولُ : أنه - تعالى - أخبر أَنَّ إكمَالَ الشرائعِ إتمامُ النعمةِ ، فكأنه كذلك موجباً للشُّكْرِ ، ثم أَخبر أن القيامَ بتلك الشرائع لا يُمْكِن إِلا بتحمّل المِحَن ، فلا جَرَمَ أمر فيها بالصَّبْر .
الثاني : أنه - تبارك وتعالى - أَنْعَم أولاً فأَمَر بالشكْر ، ثم ابْتَلَى وأمر بالصَّبْرِ ، لينال [ الرجل ]{[1946]}درجةَ الشاكرِين وَالصَّابِرينَ مَعاً ، فيكمل إيمانُهُ على ما قال عليه الصلاة والسلام : " الإِيْمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ " {[1947]} .
قال بعضَهم : الخطابُ لجميع أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عَطاءٌ والرَّبِيعُ بنُ أَنس : المرادُ بهذه المخاطبةِ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهِجْرة وهذا الابتلاءُ لإِظْهَارِ المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً ، ولم يَكُنْ عَالِماً به ، وقد يُطْلق الابتلاءُ على الأَمانةِ ؛ كهذه الآية الكريمةِ ، والمعنى : وليصيبنكُم اللَّهُ بشيْءٍ من الخوف ، وقد تقدَّم الكلامُ فِيه ، في قوله تعالى :
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [ البقرة : 124 ] .
أَحَدُها : ليوطِّنُوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت ، فيكُونُ ذلك أبعدَ لهم من الجَزَعِ ، وأَسْهَل عليهم بعد الورُود .
وثَانِيهَا : أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المِحَن ، اشتَدَّ خَوْفُهم{[1948]}فيصير ذلك الخوفُ تَعْجِيلاً للابتلاءِ ، فيستحِقُّون به مزيدَ الثَّوابِ .
وثَالِثُها : أن الكفارَ إذا شاهدوا محمداً وأصحَابَهُ مقِيمينَ على دينهم مُسْتقرّين عليه ، مع ما كانوا عليه منْ نِهَاية الضر{[1949]}والمِحْنَةِ والجُوعِ ، يَعْلَمُونَ أن القومَ إِنَّما اختاروا هذا الدِّينَ لقطْعِهم بصحّته ، فيدعُوهم ذلك إِلى مَزِيد التأمّل في دَلاَئِله .
ومن المعلُوم الظَّاهِر أَنَّ التَّبَعَ إذا عَرَفُوا أن المتبوعَ في أَعْظَم المِحنَ بسبب المذهب الذي ينصرُه ، ثم رأوه مع ذلك مُصِرّاً على ذلك المذهب كان ذلكَ أَدْعَى لهم إلى اتَّباعِه مما إذا رأوه مُرَفّه الحَالِ ، لا كُلْفة عليه في ذلك المذهب .
ورَابِعُهَا : أنه تعالى أخبر بوقوُع ذلك الابتلاءِ قَبْل وقُوعِه ، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه ، فكان ذلك إخْباراً عن الغَيْب ، فكان معجزاً .
وخَامِسُها : أَنَّ من المُنَافِقِينَ مَنْ أَظْهَر متابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه طمعاً منه في المال ، وسعة الرزق ، فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق من الموافق ؛ لأنَّ المنافِقَ إِذَا سَمِعَ ذلكن نَفَر منه ، وتركَ دِينَه ، فكانَ في هَذَا الاختبارِ هَذِهِ الفَائِدَةُ .
وسَادِسُها : أن إخلاص الإنسان حالة [ البلاء ، ورجوعه إلى باب الله تعالى{[1950]} ] أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه .
قوله تعالى : " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ " هذا جواب قسم محذوف ، ومتى كان جوابه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً ، وجب تلقيه باللام وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما ، ولا يُجيز البصريون ذلك إلا في الضرورة ، وفتح الفعل المضارع لاتصاله بالنون ، وقد تقدم تحقيق{[1951]} ذلك وما فيه من الخلاف .
[ قال القُرْطِبيُّ : وهذه " الوَاوُ " مفتوحَةٌ عِنْد سِيبَوَيْه ؛ لالتِقَاءِ السّاكِنَين . وقال غيرُه : لَمَّا ضُمَّتَا إلى النُّونِ الثَّقِيلَةِ بُنِيَ الفِعْلُ مُضَارِعاً بمنزِلَةِ خَمْسَةَ عَشَر ، والبَلاَءُ يَكُون حَسَناً وَيَكُونُ سَيِّئاً ، وأَصْلَهُ : المِحْنَةُ ، وقدم تقدَّمَ ]{[1952]} .
قوله تعالى : " بِشَيء " متعلق بقوله : " وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ " و " الباء " معناها الإلصاق ، وقراءة الجمهور على إفراد " شيء " ، ومعناها الدلالة على التقليل ؛ إذ لو جمعه لاحتمل أن يكون ضرباً من كل واحد .
وقرأ {[1953]}الضحاك بن مزاحم : " بأشياء " على الجمع .
وقراءة الجمهور لا بد فيها من حذف تقديره : وبشيء من الجوع ؛ وبشيء من النقص .
وأما قراءة الضحاك فلا تحتاج إلى هذا .
وقوله : " مِنَ الْخَوْفِ " في مَحَلّ جَرِّ صفة لشيء ، فيتعلّق بمحذوف .
فصل في أقسام ما يلاقيه الإنسان من المكاره
اعْلَم أَنَّ كلّ ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب ، فينقسم إلى موجود في الحال ، وإلى ما كان موجوداً في الماضي ، وإلى ما سَيُوجَدُ في المُسْتَقْبل .
فإذا خَطَر بالبالِ [ وجود شيء ]{[1954]} فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً ، وإن كان مَوْجُوداً في الحَال يُسَمى ذوقاً ووجداً ، وإنما سمي وَجْداً ؛ لأنها حالةٌ تجدها مِنْ نَفْسِك .
وإن خطر بالبالِ وُجُودُ شَيْءٍ في الاستقبال وغلب ذلك على القَلْبِ سُمِّيَ انتظاراً وتوقّعاً .
فإن كان المنتظر مكروهاً يحصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً ، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً في القلب .
فصل في الفرق بين الخوْف والجُوع والنَّقْص
قال ابنُ عباسٍ رَضي الله عنهما : الخوفُ خوفُ العَدُوِّ والجُوع القَحْط والنقصُ مِنَ الأَمْوَالِ بالخُسْرَانِ والهَلاَكِ والأنفس بمعنى القتل .
وقال القفال رحمه الله : أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدّين ، فكانوا لا يؤمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم ، وقد كان من الخوف وقعة " الأحزاب " ما كان ، قال الله تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 11 ] .
وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى " المدينة " لقلّة أموالهم ، حتى أنه عليه الصلاة والسلام [ كان يشدّ الحجر على بطنه .
وروى أبو الهيثم من التّيهان أنه - عليه السلام ]{[1955]} - لما خرج التقى بأبي بكر قال مَا أَخْرَجَكَ ؟ قال : الجُوعُ ، قال : أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ [ وأما نَقْصُ الأَمْوَالِ والأَنْفُسِ ، فقد يَحْصُلُ ذلك عند مُحَاربة العَدُوِّ ، بأَنْ ينفق مَالَهُ في الاسْتِعْدادِ والجهَادِ ، وقد يُقْتَلُ ؛ فهناك يحصلُ النَّقْصُ في المال والنفس ]{[1956]}وقال اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [ التوبة : 41 ] وقد يحصلُ الجُوعُ في سفر الجِهَادِ عند فَنَاءِ الزَّادِ ؛ قال الله تعالى : { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ التوبة : 120 ] .
وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجَدْب ، وقد يكون بترك عِمَارة الضِّيَاع للاشتغال بجهاد الأعداء ، وقد يكون ذلك بالإنْفَاق على من كان يَرِدُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوفود .
قال الشافعي رضي الله عنه : الخوف : خوف الله عز وجل ، والجوع : صيام شهر رَمَضان ، والنقص من الأموال : بالزكوات والصدقات ، ومن الأنفس بالأمراض ، ومن الثمرات ، موت الأولاد .
قولهُ تَعَالى : " وَنَقْصٍ " فِيه وَجْهان :
أَحدُهُما : أَنْ يكُونَ معطوفاً على " شَيْءٍ " ، والمعنى : بشيءٍ من الخَوْفِ وبنقص .
والثَّانِي : أن يكون مَعْطوفاً على الخَوْفِ ، أَيْ : شيءٌ من نقص الأموال .
والأول أَوْلَى ؛ لاشتراكهما في التنكير .
قَوْلَهُ : " مِنَ الأَمْوَالِ " فيه خَمْسة أَوْجُه :
أَحدها : أَنْ يكونَ مُتعَلقاً ب " نقص " ؛ لأنه مصدر " نقص " ، وهو يتعدَّى إلى واحدٍ ، وقد حُذِف ، أَيْ : ونقص شيء مِنْ كَذا .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ في محلّ جَرٍّ صفة لذلك المحذوف ، فيتعلّق بمحذوف ، أي ونقص شيء كائن من كذا .
الثَّالِثُ : أَنْ يكونَ في محلِّ نَصْبٍ صفَةً لمفعول مَحْذُوفٍ نصب بهذا المصدر المنون ، والتقديرُ : ونقصُ شيء كَائِنٌ من كذا ، ذكره أَبُو الْبَقَاء .
ويكونُ مَعنى " مِنْ " على هذين الوجهين التَّبْعِيضُ .
الرَّابعُ : أَنْ يكون في محل جرِّ صِفَةً ل " نَقص " ، فيتعلق بمحذوف أيضاً ، أَيْ : نقص كائن من كذا ، وتكونُ " مِنْ " لابتداء الغَايَةِ .
الخِامِسُ : أن تكون " مِنْ " زائدةً عن الأَخْفَشِ ، وحينئذ لا تعلّق لها بِشَيْءٍ .
قوله تعالى : " وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " الخِطَابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمن أتَى بَعْدَهُ من أمته ، أي : الصابرين على البَلاَءِ والرَّزَايا ، أي بشرهم بالثواب على الصبر ، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر ، ولكن لاَ يكُون ذلك إلا بالصَّبْر عند الصَّدْمَة الأولى [ لقوله عليه الصلاةُ والسَّلامُ : " إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى{[1957]} " ]{[1958]} أي الشاقة على النفس الذي يَعْظُمُ الثوابُ عليه ، إنما هو عند هُجُوم المُصيبة ومَرَارتها .
والصَّبْرُ صَبْرانِ ؛ صَبْرٌ عن معصية الله تعالى فهذا مُجَاهِدٌ ، والصبرُ عَلَى طَاعَةِ الله فهذا عَابِدٌ .