اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِي تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (164)

ذكر ابن جرير في سَبَب نُزُول هذه الآيةِ عن عطاءٍ أيضاً ما ذكرْنَاه آنفاً .

وعن سعيد بن مَسْروق ، قال : سألت قُرَيشٌ اليَهودَ ، فقالوا : حدِّثُونَا عَمَّا جَاءَكُم به موسى - عليه السَّلام - من الآيَاتِ . فَحَدَّثوهُمْ بالعَصا وبالْيَدِ البَيْضاءِ ، وسَأَلُوا النَّصَارَى عَمَّا جاءَهُمْ به عيسى ، فَحدَّثُوهُم بإبراءِ الأَكْمَه والأَبْرَصِ وإحياءِ المَوتَى ؛ فقالت قُرَيش عِند ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ادْعُ اللَّهَ لَنَا أنْ يَجْعَلَ الصَّفا ذَهَباً ، فَنَزدَادَ يقيناً ، ونَتَقَوَّى على عدُوِّنَا [ فَسَأل ربَّهُ ذلك ]{[2111]} فأوحَى اللَّهُ تعالى إليه أنْ يعطيهم ، ولكن إن كذَّبُوا بَعْدَهُ ، عَذَّبْتُهُم عَذَاباً شدِيداً لا أعذِّبُهُ أحداً مِنَ العالمين فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام : - " ذَرْنِي وَقَوْمِي ، أدعُوهُمْ يَوماً فَيَوْماً " ، فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية{[2112]} مُبَيِّناً لهم أنهم إنْ كانوا يريدون أنْ أجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً ؛ ليزدادوا يقيناً ؛ فَخَلقُ السَّموات والأَرْض وسائِرُ ما ذكر أعظمُ وأكْبرُ .

وقيل : لمَّا نزل قوله : " وَإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ " ، قالوا : هل مِنْ دليلٍ على ذلك فأنزل الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ فبيَّن لهم الدَّليل وقد تقدَّم في قوله تعالى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ } [ البقرة : 22 ] .

قال البغويِ{[2113]} : ذكر " السموات " بلَفظ الجَمْع ، لأنَّ كُلَّ سماء من جِنسٍ آخَرَ ، وأفْرَد الأرْضَ ؛ لأن الأرَضينَ كلَّها مِنْ جنْسٍ واحدٍ ، وهو الترابُ ، والآيةُ في السَّموات سُمْكُها وارتفاعُها مِنْ غير عَمدٍ ، ولا عَلاقَةَ ، وما يُرى فيها من الشَّمْس ، والقَمَر ، والنُّجوم ، واختلافِ أحوالها مِنَ الطُّلُوع ، والغُرُوبُ ، وغير ذلك ، والآيةُ من الأَرْضِ : مَدُّها ، وبَسْطُها وسَعَتُها ، وما يُرَى فيها من الأشجار ، والأثمَار ، والنْهَار ، والجِبَالِ ، والبِحَار ، والجواهر ، والنبات ، وقد تقدّم طَرَفٌ من هذا .

قوله تعالى : " وَاخْتلاف اللَّيل والنَّهَار " ذكَرُوا للاخْتلاَف تفْسيرَينْ :

أحدهما : أنَّه افْتِعَالٌ مِنْ قَولِهِمْ : " خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ " إذا ذهبَ الأوَّل ، وجاء الثَّاني ، فاختلاف اللَّيْل والنَّهار تَعَاقُبُهُمَا في الذَّهاب والمجِيء ؛ يقالُ : فلانٌ يَخْتلف إلى فلانٍ ، إذا كان يَذْهب إلَيه ويجيء من عنده ، فَذَهَابُهُ يَخْلُفُ مجيئَهُ ، ومجيئُهُ يخْلُفُ ذَهَابه ، وكلُّ شيءٍ يجيء بعد شيءٍ آخَرَ ، فهو خِلْفَةُ ، وبهذا فَسَّرُوا قوله تعالى :

{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ؛ ومنه قول زهير : [ الطويل ]

862 - بِهَا الْعِينُ والأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَةً *** أَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ{[2114]}

وقال آخر : [ المديد ]

863 - وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إِذَا *** أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي صَنَعَا

خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ *** سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا{[2115]}

الثاني : اختلاف الليل والنهار ، في الطول والقِصَر ، والنور والظلمة ، والزيادة والنقصان .

قال الكسائي : " يقال لكُلِّ شيئَيْن اختَلفَا : هُمَا خلَفَان " .

قال ابن الخطيبِ{[2116]} : وعندي فيه وجهٌ ثالثٌ ، [ وهو ]{[2117]} أنَّ اللَّيْل والنهارَ كما يختلفان بالطُّول والقِصَرِ في الأزمِنَةِ ، فهُمَا يختلفَانِ في الأمكنةِ فإنَّ مَنْ يقول : إِنَّ الأرض كُرَةٌ ، فكلُّ ساعةٍ عنيتها ، فتلْكَ الساعةُ في موضِعٍ مِنَ الأرض صُبحٌ ، وفي موضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ ، وفي آخرَ عَصْرٌ وفي آخَرَ مَغْرِبٌ ، وفي آخَرَ عِشَاءٌ ، وهلُمَّ جرّاً ، هذا إذا [ اعتبرنا البلادَ المُخْتلفَةَ في الطُول ، أما البلادُ المختلفَةُ ]{[2118]} في العَرْضِ ، فكُلُّ بَلَدٍ يكُونُ عَرْضُهُ الشماليُّ أكْثَرَ ، كانَتْ أَيَّامُهُ الصيفيَّة أطْوَلَ وليالِيهِ الصَّيفيَّةُ أقْصَرَ ، وأَيَّامُهُ الشتويَّة بالضِّدِّ مِنْ ذلك ، فهذه الأحوالُ المختلفةُ في الأيَّام واللَّيالي بحَسَب اختلاف أَطْوالِ البلاَد وعُرُوضها أمْرٌ عجيبٌ مختلفٌ .

وأيضاً : فإنَّ إقْبال الخَلق في أوَّل الليل على النَّوم يُشْبه مَوْتَ الخلائِق عند النَّفخةِ الأولى في الصُّور ، ويقظتهم آخِرَ اللَّيْل يشبهُ عَوْدَة الحياة إليهم عند النَّفخة الثانية ، هذا أيضاً من الآياتِ العَظِيمة .

وأيضاً : انشقاقُ ظُلمة الليْلِ بظهورِ الصُّبْحِ المستطيل كأنَّهُ جَدولُ ماءٍ صافٍ يَسيلُ في بَحْرِ كَدِرٍ بحيث لا يتكدّر الصَّافي بالكَدِرِ ، ولاَ الكَدرُ الصافي ، وهو المرادُ بقوله : { فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً } [ الأنعام : 96 ] .

قال علماءُ الهَيْئَة{[2119]} : إنَّ الموضع الذي يكون القُطب فيه على سَمْتِ الرأسِ تكُونُ السَّنَةُ فيه [ سِتَّةَ أشهرٍ نهاراً ]{[2120]} وستَّةُ أشْهُرٍ ليلاً ، وهناكَ لا يَتِمُّ النُّضج ، ولا يصلحُ لِمَسْكنِ الحيوانِ ولا يتهيأُ فيه سبَبٌ من أسْبَاب المَعيشة .

فصل في أصل الليل

اختلفُوا ؛ قيل : الليلُ : اسم جنس ، فيفرق بَيْن واحد وجمعه بتاء التأنيث ؛ فيقال : لَيْلَةٌ وَلَيْلٌ ؛ كتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ ، واللَّيالي جمعُ الجَمْعِ ، والصحيحُ : أنَّهُ مفْرَدٌ ، ولا يحفظ له جَمعٌ ؛ وكذلك خطَّأ الناسُ مَنْ زعَمْ أنَّ " الليالي " جَمْعُ " لَيْلٍ " ، بل الليالي جمعُ " لَيْلَة " وهو جمعٌ غريبٌ ، ولذلك قالُوا : هو جمعُ " لَيْلاَةٍ " تقديراً ، وقد صُرِّح بهذا المفْرَدِ في قول الشَّاعر : [ السريع أو الرجز ]

864 - في كُلِّ يَوْمٍ ما وَكُلِّ لَيْلاَهْ *** . . .

حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذَ رَآهْ *** . . .

يَا وَيْحَهُ مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقَاهْ{[2121]} *** . . .

ويدلُّ على ذلك تصغيرُهُمْ لها على " ليُيْلَةٍ " ونظيرُ " لَيْلَةٍ " و " ولَيَالٍ " : " كَيْكَةٌ وكَيَاك " ؛ كأنَّهم توهَّموا أَنَّها " كَيْكَاتٌ " في الأصْل ، والكَيْكَةُ : البَيْضَةُ .

وأمَّا النَّهار : فقال الرَّاغب{[2122]} : " هو في الشَّرْع : اسمٌ لما بين طُلُوع الفجر إلى غروب الشَّمس " .

قال ابن فَارِس : " والنَّهارُ " : ضياءُ مَا بين طُلُوع الفَجْر إلى غُرُوب الشمس قال القرطبي{[2123]} : وهُوَ الصحيحُ ؛ ويدلُّ عليه ما ثبت في " صحيح مُسْلِم " : عن عَدِيِّ بن حاتم ، قال : لَمَّا نَزلَتْ :

{ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ }

[ البقرة : 187 ] قال له عَدِيٌّ : يا رسول اللَّهِ ، إنِّي جَعَلتُ تَحتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْن ؛ عِقَالاً أَبْيَضَ ، وعِقَالاً أَسْوَدَ ، أَعْرِفُ بهما اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَواتُ اللَّهِ البَرِّ الرَّحِيم وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - : " إِنَّ وسَادَكَ لَعَرِيضٌ " يعني إنَّما هو سوادُ الليْلِ وبياضُ النهارِ{[2124]} ، وبهذَا يقْضِي الفقهُ في الأيْمَان ، وبه ترتبطُ الأحْكام .

وظاهرُ اللُّغَة أنَّه مِنْ وَقْت الإسْفَار .

وقال ثعلب والنَّضْرُ بن شُمَيلٍ : " هو مِنْ طُلُوع الشَّمْس " زاد النَّضْرُ : ولا يعدُّ ما قبل ذلك مِنَ النَّهَار .

وقال الزَّجَّاج : " أوَّلُ النَّهار ذُرُورُ الشَّمْس " .

ويُجْمَعُ على نُهُرٍ وأَنهِرَة ؛ نحو : قَذالٍ ، وقُذُلٍ ، وأَقْذِلَة .

وقيل : لا يُجْمَعُ ؛ لأنه بمنزلة المَصْدَر ، [ والصحيحُ : جمعُهُ على ما تقدَّم ]{[2125]} .

قال : [ الرجز ]

865 - لَوْلاَ الثَّرِيدَان لَمُتْنَا بِالضُّمُرْ *** ثَرِيدُ لَيْلٍ ، وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ{[2126]}

وقد تقدَّم اشتقاق هذه المادَّة ، وأنَّها تدُلُّ على الاتِّسَاعِ ، ومنه " النَّهَارُ " لاتِّسَاع ضَوْئه عِنْد قوله : { مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ البقرة : 25 ] قاله ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- . قال ابن فارس : ويقال : " إنَّ [ النَّهار ]{[2127]} فَرْخُ الحُبَارَى " وقدم اللَّيْل على النَّهار لأنَّهُ سَابقُهُ ؛

وقال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } [ يس : 37 ] وهذا أصحُّ القولَين .

وقيل : النُّورُ سابِقُ الظلمةِ ، وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ ، وهي أنَّ الليلة ، هَلْ هي تابعةُ لليوم [ قبْلَهَا ، أو لِلْيَومِ بَعْدها .

فعلى الصَّحيح : يكونُ الليل للْيَوم بَعْدها ، فيكونُ اليَوْم تابعاً لها ، وعلى الثاني : تكونُ للْيَوْم قبْلَها ، فتكون اللَّيلة تابعةً له ]{[2128]} .

فيَوْمُ عَرَفَةَ ؛ على الأوَّل : مستثنىً من الأصْلِ ؛ فإنَّه تابعٌ لِلَّيْلة الَّتي بَعْده ، وعلى الثاني : جاء على الأصْلِ .

قال القرطبي{[2129]} : وقسَّم ابن الأنباريّ الزَّمن ثلاثة أقسام :

قِسْماً جعَلَه لَيْلاً مَحْضاً ؛ وهو مِنْ غُرُوب الشَّمْس إلى طُلُوعِ الفجر ، وقِسْماً جعَلَهُ نهاراً مَحضاً ، وهو مِنْ طُلُوع الشَّمْس إلى غُرُوبها ، وقِسْماً جعَلَهُ مُشْترِكاً بين النَّهارِ واللَّيْلِ ؛ وهو مِنْ طُلُوع الفجْر إلى طُلُوع الشَّمْس ؛ لبقايا ظلمة اللَّيْل ، [ ومَبَادِئ ضَوء النَّهار ] .

قوله تعالى : " وَالفُلْك " عَطْفٌ على " خَلْقِ " المجرورِ ب " فِي " لا على " السَّمَوَاتِ " المجرور بالإضَافة ، و " الفُلْك " يكونُ واحداً ؛ كقوله : { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] ، وجَمْعاً كقَوْله : { فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] فإذا أُرِيدَ به الجَمْعُ ، ففيه أقوالٌ :

أصحُّها - وهو قولُ سيبويه{[2130]} - : أنَّهْ جَمع تَكْسيرٍ ، وإنْ قيل : جمْعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تَغَيُّرٍ ما ، فالجَوَابُ : أنَّ تغييره مقدَّرٌ ، فالضمة في حال كونِهِ جَمْعاً ، كالضمة في " حُمُرٍ " و " نُدُبٍ " وفي حال كون مفرداً ، كالضَّمَّة في " قُفْلٍ " ، وإنَّما حمل سيبويه على هذا ، ولم يجعلهُ مشتركاً بين الواحد والجمع ؛ نحو : " جُنُبٍ " و " شُلُلٍ " [ فلَمَّا ثَنَّوْهُ ، وقالوا : فُلْكَانٍ ، علمْنا{[2131]} ] أنَّهم لم يَقْصِدُوا الاشْتراك الَّذي قصَدُوه في " جُنُبٍ " و " شُلُل " ونظيرُه ناقَةٌ هِجَانٌ ونُوقٌ هِجَانٌ ، ودرْعٌ دِلاَصٌ ، ودُرُوعٌ دِلاَصٌ ، فالكَسْرة في المفرد كالكسرة في " كِتَاب " وفي الجمع كالكسرة في " رِجَال " ؛ لأنهم قالوا في التَّثْنيَة : هِجَانَانِ ودِلاَصَانِ .

الثاني : مذهب الأخفش : أنَّه اسم جمعٍ ، كصحبٍ ، وركبٍ .

الثالث : أنَّه جمع " فَلَكٍ " بفتحتين ، كأسدٍ وأُسدٍ ، واختار أبو حيَّان أنه مشتركٌ بين الواحد والجمع ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنية ، ولم يذكر لاختياره وجهاً ، وإذا أفرد " فلك " ، فهو مذكَّر ؛ قال تعالى : { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] . وقال جماعةٌ ، منهم أبو البقاء{[2132]} : يجوزُ تَأْنيثُهُ ؛ مستدلِّين بقوله : { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } فوصفه بصفة التأنيث ، ولا دليل في ذلك ؛ لاحتمال أن يراد به الجمع ؛ وحينئذٍ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحد .

قال الواحديُّ{[2133]} : وأصله من الدَّوَرَان ، فكل مستدير فلك ، ومنه " فَلَكُ السَّمَاءِ " ؛ لدوران النُّجوم فيه ، و " فَلْكَةُ المِغْزَلِ " [ وفَلكَتِ الجَارِيَةُ : استدارَ نَهْدُها{[2134]} ] ، وسُمِّيت السَّفينة فُلْكا لأنَّها تدور بالماء أسهل دورٍ .

وجاء بصلة " الَّتِي " فعلاً مضارعاً ؛ ليدلَّ على التجدُّد والحدوث ، وإسناد الجري إليها مجازٌ ، وقوله : " فِي البَحْرِ " توكيدٌ ؛ إذ المعلوم أنَّها تجري في غيره ؛ كقوله { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .

فصل في عدد البحور

قال ابنُ الخَطِيبِ{[2135]} - رحمه الله - قيل : إنَّ البُحُورَ المَعْرُوفَةَ [ خَمْسَةٌ ] : بحرُ الهند : وهو بحرُ الصِّين ، وبحرُ المغرب ، وبحر الشَّام ، وبحر الرُّوم [ ومِصْر ] وبحر نيطش وبحر جُرْجان .

فالأوَّل يمتدُّ طوله [ من المغرب إلى المَشْرقِ ] ، من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى أرض الهند ، ويخرج منه خليج عند أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر ، يسمَّى البربريُّ ، وخليج بحر أيلة ، وهو بحر القلزم ، ينتهي إلى البحر الأخضر على شرقيّ أرض اليمن وعلى غربيّ أرض الحبشة ، وخليج بحر فارس يسمى الفارسي وهو بحر البصرة على شرقي تيز ومكران ، وعلى غربيه غمان وبين هذين الخليجين خليج أيلة ، وخليج فارس الحجاز واليمن ، وبلاد المغرب وخليج رابع إلى أقصى الهند يسمَّى الأخضر ، وفي بحر الهند ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها سرنديب عند بلاد الصين يحيط بها ثلاثة الآف ميل فيها جبالٌ وأنهارٌ ، ومنها يخرجُ الياقوتُ الأحمر .

وأمَّا بحر المغرب ، فهو المحيط ويسمِّيه اليونانيُّون : أوقيانوس ، ويتّصل به بحر الهند ، وطرفه في ناحية المغرب والشمال محاذياً لأرض الروم والصقالبة ويأخذ في الجنوب محاذياً لأرض السُّودان مارّاً على [ حدود السّوس ، وطنجة وتاهرت ] ، ثم الأندلس والجلالقة والصَّقالبة ، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق ، وهذا البحر لا تجري فيه السُّفن إلا بقرب ساحله ، وفيه ستُّ جزائر تسمى الخالدات ، تقابل أرض الحبشة ، ويخرج منه خليجٌ عظيمٌ يمتد إلى أرض بلغار .

وأما بحر الرُّوم وإفريقية [ ومصر والشَّام : ] فيخرج منه إلى أرض البربر ، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستُّون جزيرةً .

وأما بحر نيطش : فيمتدُّ من اللاذقيَّة إلى خلف قسطنطينيَّة ، وأرض الرُّوم والصَّقالبة .

وأمَّا بحر جرجان ، ويعرف ب " بحر السُّكون " فيمتدُّ إلى طبرستان والدَّيلم ، وباب الأبواب ، وليس يتصل ببحر آخر ، فهذه هي [ البُحُور ] العظامُ ، وأما غيرها : فهي بَطَائح ؛ كبحيرة خوارزم ، وبحيرة طبريَّة .

فصل في سبب تسمية البحر بالبحر

قال اللَّيثُ : سمي البحر بحراً ؛ لاستبحاره ، وهو سعته وانبساطه ، ويقال : استبحر فلانٌ [ في العلم ]{[2136]} ، إذا اتَّسَعَ فيه ؛ وتَبَحَّر الرَّاعي في الرَّعي كَثُرَ ، وتبحَّر فلانٌ في المال .

وقال غيره : سُمِّيَ البحر بحراً ؛ لأنَّه شقّ في الأرض ، والبحر الشَّقُّ ، ومنه البُحَيْرَة{[2137]} .

قوله تعالى : " بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ " . [ في " ما " قولان :

أحدها : أنها موصولة اسميَّةٌ ؛ وعلى هذا : الباء للحال ، أي : تجري مصحوبةً بالأعيان الَّتي تنفعُ النَّاس .

الثَّاني : أنها ]{[2138]} حرفيَّةٌ ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسَّبب ، أي : تجري بسَبَبِ نفع النَّاس في التِّجارة وغيرها .

فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع .

فأما كيفيَّة الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصَّانع تعالى وتقدَّس :

فهو أنَّ السُّفُن ، وإن كانت من تركيب النَّاس إلاَّ أنَّه تعالى [ هو الَّذي ]{[2139]} خلق الآلات الَّتي يمكن بها تركيب هذه السُّفُن ، وتبحرُ بها الرياح ، وقوَّى قلوبَ من ركِبَها ، وخصَّ كُلَّ طَرَفٍ من أطراف العالم بشيءٍ معيَّن ، وأحوج الكُلَّ إلى الكُلِّ ؛ حتَّى صار ذلك داعِياً يدعوهم إلى اقتحامِ هذه الأخطار في هذه الأسفار ، ويخَّر البحر لحمل الفلك ، مع قوَّة سلطان البحر إذا هاج ، وعظُم هوله ، واضطربت أمواجه ، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يُخَلِّص السُّفُن عنها ويوصِّلها إلى ساحل السَّلامة ، وهذا أمرٌ لا بد له من مدَبِّر يُدَبِّره ، ومقتدر يحفظه ، وهذه الآية الكريمة تدلُّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب ، والتِّجارة ؛ لقوله : " بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ " .

فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر

البحر إذا أرتج ، لم يجز ركوبه لأحدٍ بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ، ولا في الزَّمن الذي الأغلب فيه عدم السَّلامة ؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمنٍ يكون الغالب فيه السلامة - [ نقله القُرْطُبيُّ{[2140]} ]{[2141]} .

قوله تعالى : { وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ } [ البقرة : 164 ] [ " من " ] الأولى معناها ابتداءُ الغاية ، أي : أنزل من جهة السماء ، وأما الثانيةُ فتحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون لبيان الجِنسِ فإنَّ المنزل من السَّماء ماءٌ وغيره .

والثاني : أن تكون للتَّبعيض ؛ فإنَّ المنزل منه بعضٌ لا كلٌّ .

والثالث : أن تكون هي وما بعدها بدلاً من قوله : " من السماء " بدل اشتمالٍ بتكرير العامل ، وكلاهما أعني " مِن " الأولى ، و " مِن " الثانية متعلِّقان ب " أَنْزَلَ " .

فالجوابُ : أنَّ الممنوع من ذلك أن يتَّحدا معنًى من غير عطف ، ولا بدلٍ ، لا تقول : أَخَذْتُ من الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ ، وَأَمَّا الآية الكريمة : فإنَّ المحذورَ فيه مُنْتَفٍ ، وذلك أنَّك إن جَعَلْتَ " مِنَ " الثانية للبيان ، أو للتبعيض ، فظاهرٌ ؛ لاختلاف معناهما ؛ فإنَّ الأولى للابتداء ، وإن جعلناها لابتداء الغاية ، فهي وما بعدها بدلٌ ، والبدلُ يجوز ذلك فيه ، كما تقدَّم ، ويجوز أن تتعلَّق " مِن " الأولى بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ ؛ إمَّا من الموصول نفسه ، وهو " مَا " ، أو من ضميره المنصوب ب " أنْزَلَ " ، أي : وما أَنْزَلَ اللَّهُ حالَ كَوْنِهِ كائناً من السَّماء .

فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالَّة على وجود الصانع

قيل : أراد بالسَّماء السَّحَابَ ؛ فإنَّ كلَّ ما علاك يُسَمَّى سماءً ، ومنه قيل : سَقْفُ البيت سماؤُهُ ، وقيل : أراد السَّماء المعروفة ، وأنَّه ينزل من السَّماء إلى السَّحاب ، ومن السحاب إلى الأرض ، وفي دلالة إنزالِ الماء من السَّماء على وجود الصَّانع : أنَّ جسم الماء ، وما قام به من صفات الرِّقَّة ، والرُّطوبة ، واللَّطَافة والعُذُوبة ، وجعله سبباً لحياة الإنسان ، ولأكثر [ منافعه ]{[2142]} ، وسبباً لرزقه ، وكونه من السحاب معلَّقاً في جَوِّ السَّماء ، وينزل عند التضرُّع ، واحتياج الخلق إليه - مقدار المنفعة ، وسوقه إلى بلد ميِّت ، فيحيي به - من الآيات العظيمة الدَّالَّة على وجود الصانع المدبِّر القدير .

قوله تعالى : " فَأَحْيَا بِهِ " عطف " أحْيَا " على " أَنْزَلَ " الَّذي هو صلة بفاء التَّعقيب ، دلالة على سُرعة النبات ، و " بِهِ " متعلِّق ب " أَحْيَا " والباءُ يجوزُ أن تكون للسَّبب ، وأن تكون باء الإله ، وكلُّ هذا مجازٌ ؛ فإنَّه متعالٍ عن ذلك ، والضميرُ في " به " يعود على الموصول .

فصل في دلالة إحياء الأرض بعد موتها على وجود الصانع

اعلم أنَّ " أحْيَا الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا " يدلُّ على وجود الصانع من وجوه :

[ فإنَّ نفس الزَّرع وخروجه على هذا الحدِّ ليس في مقدور أحدٍ .

واختلاف ألوانه على وجه{[2143]} ] [ لا يُحَدُّ ، ولا يُحْصَى ]{[2144]} ، واختلاف الطُّعُوم والروائح ، مع كونه يسقى بماء واحدٍ .

واستمرار العادة بذلك في أوقات مخصوصةٍ ، فإنَّ ظهور النَّبات من الكلأ ، والعشب ، وغيرهما ، لولاه ما عاش دوابُّ الأرض ، ولما حصلت أقوات العباد [ وملابسهم ]{[2145]} .

وهذا لا بُدَّ له من [ مُدَبِّر ] ، حكيمٍ ، قادرٍ .

ووصف الأرض بالحياة بعد الموت مجازٌ ؛ لأنَّ الحياة لا تصحُّ إلاَّ على من يدرك ، ويصحُّ أن يعلم ، وكذلك الموت ؛ إلاَّ أنَّ الجسم ، إذا صار حيّاً ، حصل فيه أنواعٌ من الحسن ، والنُّضرة ، [ والبَهَاء ]{[2146]} ، والنَّماء ، فكذلك الأرض ، لمَّا حصل لها سبب النبات ، حسن ، ونضرة ، ونور ، ورونق ، وذلك لشبهه [ بالحياة ] ، وموتها [ يبسها ، وجدبها ] ، وهذا مجاز أيضاً ؛ لشبهه بالموت .

قوله تعالى : " وَبَثَّ فِيهَا " يجوز في " بَثَّ " وجهان :

أظهرهما : أنَّهما عطفٌ على " أَنْزَلَ " داخلٌ تحت حُكم الصِّلة ؛ لأنَّ قوله " فَأَحْيَا " عطفٌ على " أَنْزَلَ " فاتصل به ، وصارا جميعاً كالشَّيء الواحد ، وكأنه قيل : " وَمَا أَنْزَلَ في الأَرْضِ مِنْ مَاءٍ ، وبَثَّ فيها من كُلِّ دابِّة ؛ لأنَّهم يَنْمُونَ بالخِصْبِ ، ويَعِيشُون بالحَيَا " : قاله الزمخشريُّ{[2147]} .

والثاني : أنه عطفٌ على " أَحْيَا " .

واستشكل أبو حيَّان عطفه [ عليها ؛ لأنَّها صلةٌ للموصول ، فلا بُدَّ من ضمير يرجع من هذه الجملة إليه ، وليس ثمَّ ضميرٌ في اللَّفظ ]{[2148]} ؛ لأن " فيها " يعود على الأَرْض ، فبقي أن يكون محذوفاً ، تقديره : وبَثَّ به فيها ، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرور بحرف إلا بشروطٍ :

أن يكون الموصول مجروراً بمثل ذلك الحرف .

وأن يتَّحِد متعلَّقهما .

وألاَّ يُحْصَرَ الضَّميرُ .

وأن يتعيَّن للرَّبط .

وألا يكون الجارُّ قائماً مقام مرفوعٍ .

والموصول هنا غير مجرورٍ ألبتَّة ، ولمَّا استشكل هذا بما ذكر ، خرَّج الآية على حذف موصول اسميٍّ ؛ قال : وهو جائزُ شائعٌ في كلامهم ، وإن كان البصريُّون لا يجيزُونه ؛ وأنشد شَاهِداً عليه : [ الخفيف ]

866 - مَا الَّذِي دَأْبَهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ *** وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ{[2149]}

أي : والَّذي أَطَاعَ ؛ وقوله : [ الوافر ]

867 - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ *** وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ{[2150]}

أي : ومن [ يَمْدَحُهُ ] وَيَنْصُرُهُ .

وقوله : [ الطويل ]

868 - فَوَاللَّهِ ، مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ *** بِمُعْتَدِلٍ وَفْقٍ وَلاَ مُتَقَارِبِ{[2151]}

أي : " مَا الَّذِي نِلْتُمْ " ، وقوله تعالى : { وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } ؛ [ أي : وبِالَّذِي أُنْزِلَ إليكم ]{[2152]} ؛ ليطابق قوله : { وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] ، ثم قال : وقد يتمشَّى التقدير الأوَّل - يعني : جواز الحذف - وإن لم يوجد شرطه . قال : وقد جاء ذلك في أشعارِهِم ؛ وأنشد : [ الطويل ]

869 - وَإِنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا *** وَهُوَّ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ{[2153]}

أي : عَلْقَمٌ عَلَيْهِ ، وقوله : [ الطويل ]

870 - لَعَلَّ الًَّذِي أَصْعَدْتنِي أنْ يَرُدَّنِي *** إلى الأَرْضِ إِنْ لَمْ يَقْدِرِ الخَيْرَ قَادِرُهُ{[2154]}

أي : أصْعَدتنِي بِهِ .

[ قوله تعالى : " مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ " يجوز في " كُلِّ " ثلاثة أوجُهٍ :

أحدها : أن يكون في موضع المفعول به ]{[2155]} ، وتكون " مِنْ " تبعيضيَّةً .

الثاني : [ أن تكون " مِنْ " زائدةً على مذهب الأخفش ، و " كُلِّ دَابَّةٍ " مفعولٌ به ل " بَثَّ " أيضاً .

والثالث ]{[2156]} : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول " بَثَّ " المحذوف ، إذَا قلنا : إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً ، تقديره : وما بَثَّ حال كونه كائناً من كُلِّ دابَّةٍ ؛ وفي " مِنْ " حينئذٍ وجهان :

أحدهما : { أن تكون للبيان .

والثاني ]{[2157]} : أن تكون للتبعيض .

وقال أبو البَقَاءِ{[2158]} رحمه الله : ومفعول " بَثَّ " محذوفٌ ، تقديره : { وَبَثَّ فِيهَا دَوَابَّ مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } وظاهرُ هذا أنَّ " مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ " : صفةٌ لذلك المحذوف ، { وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته ]{[2159]} .

والبَثُّ : نَشْرٌ وتفريقٌ .

قال : [ الطويل ]

871 - . . . *** وَفِي الأَرْضِ مَبْثُوثاً شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ{[2160]}

ومضارِعُه : يَبُثُّ ، بضم العين ، وهو قياسُ المُضَاعف [ المُتَعَدِّي ] ، وقد جاء الكَسر في أُلَيْفَاظٍ ؛ قالوا : " نَمَّ الحديثَ يَنُمُّهُ " بالوجهين .

والدَّابَّةُ : اسمٌ لكلِّ حيوانٍ ، وزَعَمَ بعضهم إخراج الطَّير منه ، ورُدَّ [ عليه ] بقول عَلْقَمَةَ : [ الطويل ]

872 - كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ *** صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ{[2161]}

وبقول الأعْشَى : [ الطويل ]

873 - . . . *** دَبِيبَ قَطَا البَطْحَاءِ في كُلِّ مَنْهَلِ{[2162]}

وبقوله سبحانه : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] ثمَّ فَصَّل : بمن يمشي على رجلين ، وهو الإنسان والطَّير .

فصل في أنَّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع

اعلم أنَّ حدوث الحيوانات قد يكون بالتَّوليد ، وقد يكون بالتَّوَالد :

وعلى التقديرين : فلا بُدَّ فيهما من [ الافتقار إلى ]{[2163]} الصَّانع الحَكِيم ؛ يُرْوَى أنَّ رَجُلاً قال عند عُمَرَ بن الخَطَّاب - رضي الله عنه - : إنِّي لأَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ ، فإنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ في ذِرَاعٍ ، وإنَّه لَوْ لَعِبَ الإِنْسَانُ ألْفَ ألْفِ مَرَّةٍ ، فَإِنَّه لا يَتَّفِقُ مَرَّتَان على وجه واحد ، فقال عمر بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين - : ههنا ما هو أَعْجب منه ، وهو أنَّ مقدار الوجه شبرٌ [ في شبرٍ ] ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه ؛ كالحاجبين ، والعينين ، والأنف ، [ والفم ] ، لا يتغيَّر ألبَتَّة ، ثم إنَّك لا ترى شخصين في الشَّرق والغرب يشتبهان في الصُّورة{[2164]} ، وكذا اللَّون ، والألسنة ، والطِّباع ، والأمزجة ، والصَّوت ، والكثافة ، واللَّطَافة ، والرِّقَّة ، والغلظ ، والطُّول ، والقصر ، وبقيَّة الأعضاء ، والبَلاَدة ، والفِطنة ، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرُّقعة الصَّغيرة هذه الاختلافات الَّتي لا حدَّ لها !

ورُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - [ أنه قال ] : " سُبْحَانَ مَنْ أَبْصَرَ بِشَحْمٍ ، وأَسْمَعَ بعَظْمٍ ، وأنْطَقَ بلَحْمٍ " {[2165]} .

واعلَمْ أنَّ أهل الطبائع ؛ قالوا : أعلى العناصر يجبُ أن يكون هو النَّار ؛ لأنّها حارَّةٌ يابسةٌ ، ودونها في اللَّطافة : الهواء ، وهو حارٌّ رطبٌ ، ودونها : الماء ؛ لأنَّه باردٌ رطبٌ ، والأرض لا بدَّ أن تكون تحت الكُلِّ ؛ لثقلها ، وكثافتها ، [ ويُبْسها ] ، ثُمَّ إنَّهم قلبوا هذه القضيَّة في [ تركيب ] بَدنِ الإنسان ؛ لأنَّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف ، والعظم وهو باردٌ يابسٌ ، فطبيعته على طبيعة الأرض ، وتحته الدِّماغُ ، وهو باردٌ رطبٌ على طبع الماء ، وتحته النَّفَسُ ، وهو حارٌّ رطبٌ على طبع الهواء ، وتحت الكل : القلبُ ، وهو حارٌّ يابسٌ على طبع النَّار ، فسبحان من [ بيده قلبُ ] الطبائع ، وترتيبها كيف يشاء ، وتركيبها كيف أراد .

ومن هذا الباب : أنَّ كُلَّ صانعٍ يأتي بنقشٍ لطيفٍ ، فإنَّه يصونه عن التُّراب ؛ لئلاَّ يكدِّره ، وعن النار ؛ لئلاَّ تحرقه ، وعن الهواء ؛ لئلاَّ يغيره ، وعن الماءِ ؛ لئلا تذهب به ، ثم إنَّه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء ؛ فقال تعالى :{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال في النار

{ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } [ الرحمن : 15 ] وقال تعالى

{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] وقال تعالى في الماءِ :

{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ؛ وهذا يدلُّ على أن صنعه بخلاف صنع كُلِّ أحدٍ ؛ وأيضاً : انظر إلى الطِّفل بعد انفصاله من أُمِّه ، لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً [ فانْقَطَع نَفَسُه ]{[2166]} ، لمات في الحَال ، ثمَّ إنه بَقِيَ في الرَّحم المنطبق مدَّةً [ مديدةً ] ، مع تعذُّر النَّفس هناك ، ولم يمُتْ ، [ ثم إنَّهُ ] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء ، وأبعدها عن الفهم ؛ بحيث لا يميز بين الماء والنَّار ، وبين الأُم وغيرها ، وبعد استكماله يصير أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ، ليعلم أنَّ ذلك من عظمة القادر الحكيم ، هذا بعض ما في الإنسان .

وأمَّا الكلام على بقيَّة الحيوان ، فبَحْرٌ لا ساحل له .

قوله تعالى : " وَتَصْرِيفِ الرَّيِاحِ " : " تَصْرِيفِ " : مصدرُ " صَرَّفَ " ، وهو الرَّدُّ والتَّقْلِيب ، ويجوزُ أنْ يكون مضافاً للفاعل ، والمفعول محذوف ، تقديره : [ وتصريف الرِّياح السَّحَابَ فإنَّها تسوق السَّحاب ، وأن يكون مضافاً للمفعول ، والفاعل محذوفٌ ، أي : ]{[2167]} وتصريفُ الله الرِّياح ، والرِّياح : جمعُ " رِيح " ، جمع تكسير ، وياء الرِّيح ، والرِّياح عن واو ، والأصلُ " روحٌ " ؛ لأنَّه من : رَاحَ يَرُوحُ ، وإنَّما قُلِبَتْ في " ريحٍ " ؛ لِسُكُونها ، وانكسار ما قَبْلها ، وفي " رِيِاحٍ " ؛ لأن‍َّها عينٌ [ في جمعٍ ] بعد كسرةٍ ، وبعدها ألفٌ ، وهي ساكنةٌ في المفرد ، وهي إبدالٌ مطَّردٌ ؛ ولذلك لمَّا زال موجب [ قلبها ، رجعت إلى أصلها ] ؛ فقالوا : أرواحٌ ؛ قال : [ الطويل ]

874 - أَرَبَّتْ بِهَا الأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةِ *** فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ{[2168]}

ومثله : [ الوافر ]

875 - لَبَيْتٌ تَخْفقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ *** أَحَبُّ إليَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفِ{[2169]}

فصل في لحن من قال : الأرياح

وقد لَحَنَ عَمَارَةُ بْنُ بِلاَلٍ ، فقال " الأرْيَاحَ " في شعره ، فقال له أبو حَاتِمٍ : " إنَّ الأرْيَاحَ لا تجُوزُ " فقال له عمارةُ : ألاَ تَسْمَعُ قولهم : رِيَاحٌ ؟ فقال أبو حاتمِ : هذا خلاف ذلك ، فقال : صَدَقْتَ ، ورجع .

قال أبُو حَيَّان : وفي محفوطي قديماً ؛ أنَّ " الأَرْيَاح " جاء في شعر بعض فُصَحَاءِ العَرَب المستَشْهَد بكلامهم ، كأنَّهم بنوه على المفرد ، وإن كانت علَّة القلب مفقودةً في الجمع ، كما قالوا : " عيدٌ وأعْيَادٌ " والأصلُ " أَعْوَاد " ؛ لأنَّه من : " عَادَ يَعُودُ " ، لكنه لما ترك البَدَل ، جعل كالحرف الأصليِّ .

قال شِهِابُ الدِّيِن : ويؤيد ما قاله الشَّيْخُ أن التزامَهُمُ " الياء " في " الأَرْيَاحِ " ؛ لأجل اللَّبس [ بينه ، وبين " أَرْوَاح " جمع " رُوح " ، كما قالوا : التُزمت الياء في " أعْيَاد " ؛ فَرْقاً ]{[2170]} بينه وبين " أعْوَاد " جمع عود الحطب ؛ كما قالوا في التصغير : " عُيَيْد " دون " عُوَيْد " ؛ وعلَّلوه باللَّبْس المذكور .

وقال أبو عليٍّ : [ يجمع ] في القليل " أرْوَاح " وفي الكثير " رِيَاح " {[2171]} .

قال ابن الخطيب{[2172]}وابن عطِيَّة : " وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرَّحمة ، مفردةً مع العذابِ ، إلاَّ في قوله تعالى :

{ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [ يونس : 22 ] وهذا أغلب وقوعها في الكلام ، وفي الحديث : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحاً ، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً " ؛ لأنَّ رِيحَ العذَابِ شديدةٌ ملتئمةُ الأجْزاءِ ، كأنَّهَا جسْمٌ واحدٌ ، وريح الرَّحْمَة ليِّنَةٌ متقطِّعَةٌ ، وإنما أُفْرِدَتْ مع الفُلْكِ - يعني في يونس - لأنَّها لإجراء السُّفُن ، وهي واحدةٌ متَّصِلَةٌ ؛ ثمَّ وصفت بالطَّيِّبَةِ ، فزال الاشتراك بينها ، وبين ريح العذاب " . انتهى .

وردَّ بعضهم هذا ؛ باختلاف القُرَّاء في اثْنَي عَشَرَ موضعاً في القرآن ، وهذا لا يَرُدُّه لأنَّ من جمع في الرَّحمة ، فقد أتى بالأصل المُشِار إليه ، ومن أفرد في الرّحمة ، فقد أراد الجنس ، [ وأما الجمع في العذاب ، فلم يأتِ أصلاً ]{[2173]} ، وإما الإفراد فإن وصف ، كما في يونس من قوله : " بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ " فإنَّه مزيلٌ للَّبس ، وإن أطْلَقَ ، كان للعذَابِ ، كما في الحديث ، وقد تختصُّ اللفظة في القرآن بشيءٍ ، فيكون أمارةً له ، فمن ذلك : أن عامَّة ما في القرآن من قوله :

{ يُدْرِيكَ } [ الشورى : 17 ] مبهمٌ غير مبيَّن ، قال تعالى :

{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] وما كان من لفظ " أَدْرَاك " فإنَّه مفسَّر ؛ كقوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }

[ القارعة : 10 - 11 ] .

وقرأ حَمْزَةُ{[2174]} ، والكسائيُّ هنا " الرِّيح " بالإفراد ، والباقون{[2175]} بالجَمع ، فالجمع لاختلاف أنواعها : جَنُوباً ودَبُوراً وصَباً وغير ذلك ، وإفرادها على إرادة الجنس ، وكلُّ ريح في القرآن ليس فيها ألفٌ ولامٌ ، اتفق القرَّاء على توحيدها ، وما فيها ألف ولام ، اختلفوا في جمعها ، وتوحيدها ، إلاَّ الرِّيح العقيم في سورة الذَّاريات [ 41 ] ، اتفقوا على توحيدها ، والحرف الأوَّل من سورة الرُّوم

{ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] اتفقوا على جمعها ، والرِّياح : تذكَّر ، تؤنَّث .

فصل في بيان تصريف الرياح

وأمَّا تصريفها : فإنها تُصرَّفُ إلى الشَّمال والجنوب والقبول والدَّبور ، وما بين كلِّ واحدٍ من هذه المهابِّ ، فهي نكباء ، وقيل في تصريفها : إنها تارةً تكون ليِّنة ، وتارةً تكون عاصفةٌ ، [ وتارةً حارَّةً ] ، وتارة باردةً{[2176]} .

قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : أعظم جنود الله تعالى الرِّيح ، والماء ، وسمِّيت الرِّيح ريحاً ؛ لأنها تريح النفوس{[2177]} .

قال القاضي شريح : ما هبَّت ريحٌ إلاَّ لشفاء سقيم ، ولسقم صحيحٍ{[2178]} . والبشارة في ثلاث من الرِّياح ، في الصَّبا ، والشَّمال ، والجنوب ، وأمَّا الدَّبور ، فهي : الرِّيح العقيم ، لا بشارة فيها .

وقيل{[2179]} : الرِّياح ثمانيةٌ : أربعةٌ للرَّحمة : المبشرات ، والنَّاشرات ، والذَّاريات ، والمرسلات ، وأربعة للعذاب : العقيم ، والصَّرصر في البرِّ ، والعاصف والقاصف في البحر .

روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : ] " الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ{[2180]} " .

قال أبو سَلَمَةَ - رضي الله تعالى عنه- : فروح الله سبحانه وتعالى ]{[2181]} تأتي بالرَّحمة ، وتأتي بالعذاب ، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها واسألوا الله من خيرها ، واستعيذوا بالله من شرِّها .

قال ابن الأعرابيِّ : النَّسيم أوَّل هبوب الريح .

فصل في بيان دلالة الآية على الوحدانية

فأما وجه الاستدلال بها على وحدانيَّة الله تعالى الصَّانع ، فإنَّه صرَّفها على وجوه النَّفع العظيم في الحيوان ، فإنَّها مادَّة النَّفس الَّذي لو انقطع ساعةً في الحيوان ، لمات .

قيل : إنَّ كلَّ ما كانت الحاجة إليه أشدَّ ، كان وجدانه أسهل ، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات ؛ حتى لو انقطع عنه لحظة ، لمات ؛ لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ .

وبعد الهواء الماء ؛ لأنَّ الحاجة إلى الماء أيضاً شديدةٌ ؛ فلا جرم أيضاً سهل وجدان الماء ، ولكنَّ وجدان الهواء أسهل ؛ لأنَّ الماء لا بُدَّ من تكلُّف الاغتراف ، بخلاف الهواء ؛ فإنَّ الآلات المهيئة لجذبه حاضرةٌ أبداً .

ثم بعد الماء : الحاجة إلى الطَّعام شديدةٌ ، ولكن دون الحاجة إلى الماء ؛ فلا جرم كان تحصيل الطَّعام أصعب من تحصيل الماء ؛ لأنَّه يحتاجُ إلى تكلُّفٍ أكثر ، والمعاجين والأدوية تقلُّ الحاجة إليها ؛ فلا جرم عسرت وقلَّت ، ولمَّا عظمت الحاجة إلى رحمة الله تعالى ، نرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ ، ولولا تحرُّك الرياح ، لما جرت الفلك ، وذلك ممَّا لا يقدر عليه أحدٌ إلاَّ الله تعالى ، فلو أراد كلُّ من في العالم أن يقلب الرياح من الشَّمال إلى الجنوب ، أو إذا كان الهواء ساكناً ، أن يحركه ، لم يقدر على ذلك .

قوله تعالى : " والسَّحَاب " اسم جنس ، واحدته " سَحَابَةٌ " [ سُمِّي بذلك ] ؛ لانسحابه في الهواء ؛ كما قيل له " حَباً " لأنَّه يحبو ، ذكره أبو عليٍّ .

قال القرطبيُّ : ويقال : سَحَبْتُ ذَيْلِي سَحْباً ، وتَسَحَّبَ فُلاَنٌ على فُلاَنٍ ؛ والسَّحْبُ شدة الأكل والشُّرب ؛ وباعتبار كونه اسم جنس ، وصفه بوصف الواحد المنكِّر في قوله : " المُسَخَّرِ " كقوله :

{ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ولما اعتبر معناه تارةً أخرى ، وصفه بما يوصف به الجمع في قوله : " سَحَاباً ثِقَالاً " ويجوز أن يوصف بما توصف به المؤنَّثة الواحدة ؛ كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وهكذا : كلُّ اسم جنسٍ فيه لغتان : التذكير باعتبار اللّفظ ، والتأنيث باعتبار المعنى .

والتَّسخير : التذليل ، وجعل الشَّيء داخلاً تحت الطَّوْع ، وقال الرَّاغب : هو القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه .

قوله تعالى : { بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ } في " بَيْنَ " قولان :

أحدهما : أنه منصوبٌ بقوله : " المُسَخَّرِ " فيكون ظرفاً للتَّسخير .

والثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير المستتر [ في اسم المفعول ]{[2182]} ؛ فيتعلَّق بمحذوف ، أي : كائناً بين السَّماء والأرض ، و " لآيَاتٍ " اسم " إنَّ " ، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، ودخلت اللاَّم على الاسم ؛ لتأخُّره عن الخبر ، ولو كان موضعه ، لما جاز ذلك فيه .

وقوله : " لِقَوْمٍ " : في محلِّ نصبٍ ، لأنَّه صفةٌ ل " آياتٍ " ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وقوله : " يَعْقِلُونَ " : الجملة في محلِّ جرٍّ ؛ لأنها صفةٌ ل " قَوْمٍ " ، والله أعلم .

فصل في تفسير " السَّحَاب "

روى ابن عبَّاس عن كعب الأحبار - رضي الله عنه - قال : " السَّحَابُ غِرْبَالُ المَطَرِ ، لَوْلاَ السَّحَابُ حِينَ ينزل المَاء مِنَ السَّمَاءِ ، لأَفْسَدَ مَا يَقَعْ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ " .

وقال ابن عَبَّاسِ - رضي الله عنهما - : سَمِعْتُ كَعْباً ، يَقُولُ : إنَّ الأرْضَ تُنْبِتُ العام نباتاً ، وتُنْبِتُ نَبَاتاً عَاماً قَابِلاً غَيْرَهُ ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : إنَّ البَذْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ المَطَرِ ، فَيَخْرُجُ في الأَرْضِ{[2183]} .

فصل في الاستدلال بتسخير السحاب على وحدانية الله

في الاستدلال بتسخير السَّحاب على وحدانيَّة الصَّانع : أنَّ طبع الماء ثقيلٌ يقتضي النُّزول فكان بقاؤه في جوِّ الهواء على خلاف الطَّبع ، فلا بُدَّ من قادرٍ قاهرٍ ، يقهر على ذلك ، فلذلك سمَّاه بالمسخَّر ، وأيضاً : فإنَّه لو دام ، لعظم ضرره من حيث إنَّه يستر ضوء الشَّمس ، ويكثر [ الأمطار ، والابتلال{[2184]} ] ، ولو انقطع ، لعظم ضرره ؛ لأنَّه يفضي إلى القحط وعدم العشب ، والزراعة ؛ فكان تقديره بالمقدار المعلوم الذي يأتي في وقت الحاجة ، ويزول عند زوال الحاجة بتقدير مقدِّرٍ قاهرٍ أيضاً ؛ فإنَّه لا يقف في موضع معيَّن ، بل الله تعالى يسيّره بواسطة تحريك الرِّياح إلى حيث شاء وأراد ، وذلك هو التَّسخير .

روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ، فَسَمِعَ صَوْتاً مِنَ سَحَابَةٍ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ ، فَتنَحَّى ذلك السَّحَابُ ، فأفرغ ماءَهُ في جرَّةٍ ، فإذا بشرجةٍ من تلك الشِّراج ، وقد استوعبت ذلك الماء كلَّه ، فتتبَّع الماء ، فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته ، فقال له : يا عبد الله ، ما اسمك ؟ قال : فلان ؛ للاسم الذي سمع من السَّحاب ، فقال له : يا عبد الله ، لم تَسْأَلُني عن اسمي ؟ فقال : إني سمعت صوتاً من السَّحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان لاسمك ، فماذا تصنع ؟ قال : أمَّا إذا قلت هذا ، فإنِّي أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدَّق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأردُّ فيها ثلثه .

وفي روايةٍ : وأجعل ثلثه للمساكين ، والسَّائلين ، وابن السَّبيل{[2185]} .

قوله : " يَعْقِلُونَ " ، أي : يعلمون لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً .

قال القاضي{[2186]} : دلت الآية على أنَّه لو كان الحقُّ يدرك بالتقليد ، واتباع الآباء ، والجري على الإلف والعادة ، لما صَحَّ قوله : { لآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، وأيضاً : لو كانت المعارفُ ضروريَّةً ، وحاصلةً بالإلهام ، لما صَحَّ وصفُ هذه الأمُور بأنَّها آياتٌ ؛ لأنَّ المعلومَ بالضَّرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات .

قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : ثلاثة لا يدرى من أين يَجِيء : الرَّعد ، والبرق ، والسَّحاب{[2187]} .


[2111]:- سقط في ب.
[2112]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/269) عن سعيد بن مسروق. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/299) بمعناه عن ابن عباس، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه. وعزاه أيضا (1/229) لعبد بن حميد عن سعيد بن جبير.
[2113]:- ينظر تفسير البغوي: 1/135.
[2114]:- البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر ديوانه: ص5، وجمهرة اللغة: ص 415، 416، ولسان العرب (خلف)، (طلى)، ورصف المباني: ص 145، والدر المصون: 1/421.
[2115]:- البيتان لأبي دهبل الجمحي ينظر ديوانه: ص 85، والحيوان: 4/10، والمستقصى: 1/51، وللأحوص الأنصاري ينظر ديوانه: ص 221، وليزيد بن معاوية: ص 22 في ديوانه، وشرح التصريح: 1/76، والمقاصد النحوية: 1/48، وليزيد أو للأحوص في خزانة الأدب: 7/309، 310، 311، 312، وللأخطل في لسان العرب (مطر)، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب: 2/ 626، ولسان العرب (مطر)، والممتع في التصريف: 1/ 158، والدر المصون: 1/421.
[2116]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/175.
[2117]:- سقط في ب.
[2118]:- سقط في ب.
[2119]:ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/176.
[2120]:- سقط في ب.
[2121]:- الرجز لأبي زغيب: ينظر شرح المفصل (5/ 73) والدرر (2/ 228)، والمخصص: 9/44، واللسان (ليل) والدر المصون: 1/420.
[2122]:- ينظر المفردات: 528.
[2123]:- ينظر تفسير القرطبي: 2/130.
[2124]:- أخرجه مسلم رقم (767) وأبو داود (1/717) كتاب الصيام باب وقت السحور (2349) والطبراني في "الكبير" (17/39) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/222) وانظر فتح الباري (4/133) وإتحاف السادة المتقين.
[2125]:- سقط في ب.
[2126]:- البيت ذكره ابن منظور في اللسان "نهر" وينظر: الدر المصون: 1/420.
[2127]:- سقط في ب.
[2128]:- سقط في ب.
[2129]:- ينظر تفسير القرطبي: 2/130.
[2130]:- ينظر الكتاب: 2/181.
[2131]:- سقط في ب.
[2132]:- ينظر الإملاء لأبي البقاء: 1/72.
[2133]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/176.
[2134]:- سقط في ب.
[2135]:-ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/176.
[2136]:- سقط في ب.
[2137]:-ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/176.
[2138]:- سقط في ب.
[2139]:- سقط في ب.
[2140]:-ينظر تفسير القرطبي: 2/132.
[2141]:- سقط في ب.
[2142]:- في ب: صنائعه.
[2143]:- سقط في ب.
[2144]:- في ب: لا تعد ولا تحصى.
[2145]:- سقط في ب.
[2146]:- سقط في ب.
[2147]:- ينظر تفسير الكشاف: 1/325.
[2148]:- سقط في ب.
[2149]:- ينظر في مغني اللبيب: 2/ 625، والدر المصون: 1/423.
[2150]:- البيت لحسان بن ثابت ينظر ديوانه:ص 76، والمقتضب: 2/137، وتذكرة النحاة: ص 70، والدرر: 1/296، وشرح الأشموني: ص 82، وهمع الهوامع: 1/88، والدر المصون: 1/423.
[2151]:- البيت لعبد الله بن رواحة ينظر الدرر: 1/296، 4/243، وشرح شواهد المغني: ص 931، ومغني اللبيب: ص 638، وهمع الهوامع: 1/88، 2/ 42، والدر المصون: 1/423.
[2152]:- سقط في ب.
[2153]:- تقدم برقم 343.
[2154]:- البيت للفرزدق. ينظر ديوانه (188)، البحر المحيط: 1/641، والدر المصون: 1/423.
[2155]:- سقط في ب.
[2156]:- سقط في ب.
[2157]:- سقط في ب.
[2158]:- ينظر الإملاء لأبي البقاء: 1/72.
[2159]:- سقط في ب.
[2160]:- عجز بيت لبعض بني فقعس. ينظر الحماسة: 1/124، والبحر المحيط: 1/ 629، والدر المصون: 1/424.
[2161]:- ينظر ديوانه: (46)، والقرطبي: (2/132) واللسان "صوب"، والدر المصون: 1/424.
[2162]:- عجز بيت وصدره: نياف كغصن البان ترتج إن مشت ينظر ديوانه: (161)، والبحر المحيط: (1/629)، والدر المصون: 1/424.
[2163]:- سقط في ب.
[2164]:- الأثر ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (4/179-180) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[2165]:- ذكره أيضا الفخر الرازي في "تفسير" (4/180) عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-.
[2166]:- سقط في ب.
[2167]:- سقط في ب.
[2168]:- البيت لزهير. ينظر ديوانه: (36)، والبحر المحيط: 1/630، والدر المصون: 1/424.
[2169]:- البيت لميسون بنت بحدل. ينظر الحماسة الشجرية: 2/573، والدر المصون: 1/1/424.
[2170]:- سقط في ب.
[2171]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/181.
[2172]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/182.
[2173]:- سقط في ب.
[2174]:- ينظر الدر المصون: 1/425، البحر المحيط: 1/641، المحرر الوجيز: 1/234.
[2175]:- ينظر: القراءة السابقة.
[2176]:- ينظر تفسير البغوي: 1/136.
[2177]:- ينظر تفسير البغوي: 1/136.
[2178]:- ينظر المصدر السابق.
[2179]:- ينظر المصدر السابق.
[2180]:- أخرجه أبو داود (5097) كتاب الأدب باب ما يقول إذا هاجت الريح وأحمد (2/ 268، 518) والحاكم (4/285) والبيهقي (3/ 361) وابن حبان (1989-موارد) والشافعي (533) وابن أبي شيبة (6362) وعبد الرزاق (20004) والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 167) وفي "الأدب المفرد" (720، 906) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (929، 630، 391) من طرق عن ثابت عن أبي هريرة مرفوعا. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
[2181]:- سقط في ب.
[2182]:- سقط في ب.
[2183]:- الأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 302) عن معاذ بن عبد الله بن حبيب الجهني قال رأيت ابن عباس سأل تبيعا ابن امرأة كعب هل سمعت كعبا يقول في السحاب شيئا...فذكره. وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي في "الأسماء والصفات" وابن عساكر.
[2184]:- في ب: الانتظار والانفلاك.
[2185]:- أخرجه مسلم رقم (2288) وأحمد (2/296) والبيهقي (4/123) والطيالسي (1217-منحة). وانظر إتحاف السادة المتقين (9/125.
[2186]:- ينظر تفسير الفخر الرازي: 4/183.
[2187]:- ينظر تفسير البغوي: 1/136.