ذكر ابن جرير في سَبَب نُزُول هذه الآيةِ عن عطاءٍ أيضاً ما ذكرْنَاه آنفاً .
وعن سعيد بن مَسْروق ، قال : سألت قُرَيشٌ اليَهودَ ، فقالوا : حدِّثُونَا عَمَّا جَاءَكُم به موسى - عليه السَّلام - من الآيَاتِ . فَحَدَّثوهُمْ بالعَصا وبالْيَدِ البَيْضاءِ ، وسَأَلُوا النَّصَارَى عَمَّا جاءَهُمْ به عيسى ، فَحدَّثُوهُم بإبراءِ الأَكْمَه والأَبْرَصِ وإحياءِ المَوتَى ؛ فقالت قُرَيش عِند ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ادْعُ اللَّهَ لَنَا أنْ يَجْعَلَ الصَّفا ذَهَباً ، فَنَزدَادَ يقيناً ، ونَتَقَوَّى على عدُوِّنَا [ فَسَأل ربَّهُ ذلك ]{[2111]} فأوحَى اللَّهُ تعالى إليه أنْ يعطيهم ، ولكن إن كذَّبُوا بَعْدَهُ ، عَذَّبْتُهُم عَذَاباً شدِيداً لا أعذِّبُهُ أحداً مِنَ العالمين فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام : - " ذَرْنِي وَقَوْمِي ، أدعُوهُمْ يَوماً فَيَوْماً " ، فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية{[2112]} مُبَيِّناً لهم أنهم إنْ كانوا يريدون أنْ أجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً ؛ ليزدادوا يقيناً ؛ فَخَلقُ السَّموات والأَرْض وسائِرُ ما ذكر أعظمُ وأكْبرُ .
وقيل : لمَّا نزل قوله : " وَإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ " ، قالوا : هل مِنْ دليلٍ على ذلك فأنزل الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ فبيَّن لهم الدَّليل وقد تقدَّم في قوله تعالى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ } [ البقرة : 22 ] .
قال البغويِ{[2113]} : ذكر " السموات " بلَفظ الجَمْع ، لأنَّ كُلَّ سماء من جِنسٍ آخَرَ ، وأفْرَد الأرْضَ ؛ لأن الأرَضينَ كلَّها مِنْ جنْسٍ واحدٍ ، وهو الترابُ ، والآيةُ في السَّموات سُمْكُها وارتفاعُها مِنْ غير عَمدٍ ، ولا عَلاقَةَ ، وما يُرى فيها من الشَّمْس ، والقَمَر ، والنُّجوم ، واختلافِ أحوالها مِنَ الطُّلُوع ، والغُرُوبُ ، وغير ذلك ، والآيةُ من الأَرْضِ : مَدُّها ، وبَسْطُها وسَعَتُها ، وما يُرَى فيها من الأشجار ، والأثمَار ، والنْهَار ، والجِبَالِ ، والبِحَار ، والجواهر ، والنبات ، وقد تقدّم طَرَفٌ من هذا .
قوله تعالى : " وَاخْتلاف اللَّيل والنَّهَار " ذكَرُوا للاخْتلاَف تفْسيرَينْ :
أحدهما : أنَّه افْتِعَالٌ مِنْ قَولِهِمْ : " خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ " إذا ذهبَ الأوَّل ، وجاء الثَّاني ، فاختلاف اللَّيْل والنَّهار تَعَاقُبُهُمَا في الذَّهاب والمجِيء ؛ يقالُ : فلانٌ يَخْتلف إلى فلانٍ ، إذا كان يَذْهب إلَيه ويجيء من عنده ، فَذَهَابُهُ يَخْلُفُ مجيئَهُ ، ومجيئُهُ يخْلُفُ ذَهَابه ، وكلُّ شيءٍ يجيء بعد شيءٍ آخَرَ ، فهو خِلْفَةُ ، وبهذا فَسَّرُوا قوله تعالى :
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ؛ ومنه قول زهير : [ الطويل ]
862 - بِهَا الْعِينُ والأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَةً *** أَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ{[2114]}
863 - وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إِذَا *** أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي صَنَعَا
خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ *** سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا{[2115]}
الثاني : اختلاف الليل والنهار ، في الطول والقِصَر ، والنور والظلمة ، والزيادة والنقصان .
قال الكسائي : " يقال لكُلِّ شيئَيْن اختَلفَا : هُمَا خلَفَان " .
قال ابن الخطيبِ{[2116]} : وعندي فيه وجهٌ ثالثٌ ، [ وهو ]{[2117]} أنَّ اللَّيْل والنهارَ كما يختلفان بالطُّول والقِصَرِ في الأزمِنَةِ ، فهُمَا يختلفَانِ في الأمكنةِ فإنَّ مَنْ يقول : إِنَّ الأرض كُرَةٌ ، فكلُّ ساعةٍ عنيتها ، فتلْكَ الساعةُ في موضِعٍ مِنَ الأرض صُبحٌ ، وفي موضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ ، وفي آخرَ عَصْرٌ وفي آخَرَ مَغْرِبٌ ، وفي آخَرَ عِشَاءٌ ، وهلُمَّ جرّاً ، هذا إذا [ اعتبرنا البلادَ المُخْتلفَةَ في الطُول ، أما البلادُ المختلفَةُ ]{[2118]} في العَرْضِ ، فكُلُّ بَلَدٍ يكُونُ عَرْضُهُ الشماليُّ أكْثَرَ ، كانَتْ أَيَّامُهُ الصيفيَّة أطْوَلَ وليالِيهِ الصَّيفيَّةُ أقْصَرَ ، وأَيَّامُهُ الشتويَّة بالضِّدِّ مِنْ ذلك ، فهذه الأحوالُ المختلفةُ في الأيَّام واللَّيالي بحَسَب اختلاف أَطْوالِ البلاَد وعُرُوضها أمْرٌ عجيبٌ مختلفٌ .
وأيضاً : فإنَّ إقْبال الخَلق في أوَّل الليل على النَّوم يُشْبه مَوْتَ الخلائِق عند النَّفخةِ الأولى في الصُّور ، ويقظتهم آخِرَ اللَّيْل يشبهُ عَوْدَة الحياة إليهم عند النَّفخة الثانية ، هذا أيضاً من الآياتِ العَظِيمة .
وأيضاً : انشقاقُ ظُلمة الليْلِ بظهورِ الصُّبْحِ المستطيل كأنَّهُ جَدولُ ماءٍ صافٍ يَسيلُ في بَحْرِ كَدِرٍ بحيث لا يتكدّر الصَّافي بالكَدِرِ ، ولاَ الكَدرُ الصافي ، وهو المرادُ بقوله : { فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً } [ الأنعام : 96 ] .
قال علماءُ الهَيْئَة{[2119]} : إنَّ الموضع الذي يكون القُطب فيه على سَمْتِ الرأسِ تكُونُ السَّنَةُ فيه [ سِتَّةَ أشهرٍ نهاراً ]{[2120]} وستَّةُ أشْهُرٍ ليلاً ، وهناكَ لا يَتِمُّ النُّضج ، ولا يصلحُ لِمَسْكنِ الحيوانِ ولا يتهيأُ فيه سبَبٌ من أسْبَاب المَعيشة .
اختلفُوا ؛ قيل : الليلُ : اسم جنس ، فيفرق بَيْن واحد وجمعه بتاء التأنيث ؛ فيقال : لَيْلَةٌ وَلَيْلٌ ؛ كتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ ، واللَّيالي جمعُ الجَمْعِ ، والصحيحُ : أنَّهُ مفْرَدٌ ، ولا يحفظ له جَمعٌ ؛ وكذلك خطَّأ الناسُ مَنْ زعَمْ أنَّ " الليالي " جَمْعُ " لَيْلٍ " ، بل الليالي جمعُ " لَيْلَة " وهو جمعٌ غريبٌ ، ولذلك قالُوا : هو جمعُ " لَيْلاَةٍ " تقديراً ، وقد صُرِّح بهذا المفْرَدِ في قول الشَّاعر : [ السريع أو الرجز ]
864 - في كُلِّ يَوْمٍ ما وَكُلِّ لَيْلاَهْ *** . . .
حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذَ رَآهْ *** . . .
يَا وَيْحَهُ مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقَاهْ{[2121]} *** . . .
ويدلُّ على ذلك تصغيرُهُمْ لها على " ليُيْلَةٍ " ونظيرُ " لَيْلَةٍ " و " ولَيَالٍ " : " كَيْكَةٌ وكَيَاك " ؛ كأنَّهم توهَّموا أَنَّها " كَيْكَاتٌ " في الأصْل ، والكَيْكَةُ : البَيْضَةُ .
وأمَّا النَّهار : فقال الرَّاغب{[2122]} : " هو في الشَّرْع : اسمٌ لما بين طُلُوع الفجر إلى غروب الشَّمس " .
قال ابن فَارِس : " والنَّهارُ " : ضياءُ مَا بين طُلُوع الفَجْر إلى غُرُوب الشمس قال القرطبي{[2123]} : وهُوَ الصحيحُ ؛ ويدلُّ عليه ما ثبت في " صحيح مُسْلِم " : عن عَدِيِّ بن حاتم ، قال : لَمَّا نَزلَتْ :
{ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ }
[ البقرة : 187 ] قال له عَدِيٌّ : يا رسول اللَّهِ ، إنِّي جَعَلتُ تَحتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْن ؛ عِقَالاً أَبْيَضَ ، وعِقَالاً أَسْوَدَ ، أَعْرِفُ بهما اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَواتُ اللَّهِ البَرِّ الرَّحِيم وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - : " إِنَّ وسَادَكَ لَعَرِيضٌ " يعني إنَّما هو سوادُ الليْلِ وبياضُ النهارِ{[2124]} ، وبهذَا يقْضِي الفقهُ في الأيْمَان ، وبه ترتبطُ الأحْكام .
وظاهرُ اللُّغَة أنَّه مِنْ وَقْت الإسْفَار .
وقال ثعلب والنَّضْرُ بن شُمَيلٍ : " هو مِنْ طُلُوع الشَّمْس " زاد النَّضْرُ : ولا يعدُّ ما قبل ذلك مِنَ النَّهَار .
وقال الزَّجَّاج : " أوَّلُ النَّهار ذُرُورُ الشَّمْس " .
ويُجْمَعُ على نُهُرٍ وأَنهِرَة ؛ نحو : قَذالٍ ، وقُذُلٍ ، وأَقْذِلَة .
وقيل : لا يُجْمَعُ ؛ لأنه بمنزلة المَصْدَر ، [ والصحيحُ : جمعُهُ على ما تقدَّم ]{[2125]} .
865 - لَوْلاَ الثَّرِيدَان لَمُتْنَا بِالضُّمُرْ *** ثَرِيدُ لَيْلٍ ، وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ{[2126]}
وقد تقدَّم اشتقاق هذه المادَّة ، وأنَّها تدُلُّ على الاتِّسَاعِ ، ومنه " النَّهَارُ " لاتِّسَاع ضَوْئه عِنْد قوله : { مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [ البقرة : 25 ] قاله ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- . قال ابن فارس : ويقال : " إنَّ [ النَّهار ]{[2127]} فَرْخُ الحُبَارَى " وقدم اللَّيْل على النَّهار لأنَّهُ سَابقُهُ ؛
وقال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } [ يس : 37 ] وهذا أصحُّ القولَين .
وقيل : النُّورُ سابِقُ الظلمةِ ، وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ ، وهي أنَّ الليلة ، هَلْ هي تابعةُ لليوم [ قبْلَهَا ، أو لِلْيَومِ بَعْدها .
فعلى الصَّحيح : يكونُ الليل للْيَوم بَعْدها ، فيكونُ اليَوْم تابعاً لها ، وعلى الثاني : تكونُ للْيَوْم قبْلَها ، فتكون اللَّيلة تابعةً له ]{[2128]} .
فيَوْمُ عَرَفَةَ ؛ على الأوَّل : مستثنىً من الأصْلِ ؛ فإنَّه تابعٌ لِلَّيْلة الَّتي بَعْده ، وعلى الثاني : جاء على الأصْلِ .
قال القرطبي{[2129]} : وقسَّم ابن الأنباريّ الزَّمن ثلاثة أقسام :
قِسْماً جعَلَه لَيْلاً مَحْضاً ؛ وهو مِنْ غُرُوب الشَّمْس إلى طُلُوعِ الفجر ، وقِسْماً جعَلَهُ نهاراً مَحضاً ، وهو مِنْ طُلُوع الشَّمْس إلى غُرُوبها ، وقِسْماً جعَلَهُ مُشْترِكاً بين النَّهارِ واللَّيْلِ ؛ وهو مِنْ طُلُوع الفجْر إلى طُلُوع الشَّمْس ؛ لبقايا ظلمة اللَّيْل ، [ ومَبَادِئ ضَوء النَّهار ] .
قوله تعالى : " وَالفُلْك " عَطْفٌ على " خَلْقِ " المجرورِ ب " فِي " لا على " السَّمَوَاتِ " المجرور بالإضَافة ، و " الفُلْك " يكونُ واحداً ؛ كقوله : { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] ، وجَمْعاً كقَوْله : { فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] فإذا أُرِيدَ به الجَمْعُ ، ففيه أقوالٌ :
أصحُّها - وهو قولُ سيبويه{[2130]} - : أنَّهْ جَمع تَكْسيرٍ ، وإنْ قيل : جمْعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تَغَيُّرٍ ما ، فالجَوَابُ : أنَّ تغييره مقدَّرٌ ، فالضمة في حال كونِهِ جَمْعاً ، كالضمة في " حُمُرٍ " و " نُدُبٍ " وفي حال كون مفرداً ، كالضَّمَّة في " قُفْلٍ " ، وإنَّما حمل سيبويه على هذا ، ولم يجعلهُ مشتركاً بين الواحد والجمع ؛ نحو : " جُنُبٍ " و " شُلُلٍ " [ فلَمَّا ثَنَّوْهُ ، وقالوا : فُلْكَانٍ ، علمْنا{[2131]} ] أنَّهم لم يَقْصِدُوا الاشْتراك الَّذي قصَدُوه في " جُنُبٍ " و " شُلُل " ونظيرُه ناقَةٌ هِجَانٌ ونُوقٌ هِجَانٌ ، ودرْعٌ دِلاَصٌ ، ودُرُوعٌ دِلاَصٌ ، فالكَسْرة في المفرد كالكسرة في " كِتَاب " وفي الجمع كالكسرة في " رِجَال " ؛ لأنهم قالوا في التَّثْنيَة : هِجَانَانِ ودِلاَصَانِ .
الثاني : مذهب الأخفش : أنَّه اسم جمعٍ ، كصحبٍ ، وركبٍ .
الثالث : أنَّه جمع " فَلَكٍ " بفتحتين ، كأسدٍ وأُسدٍ ، واختار أبو حيَّان أنه مشتركٌ بين الواحد والجمع ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنية ، ولم يذكر لاختياره وجهاً ، وإذا أفرد " فلك " ، فهو مذكَّر ؛ قال تعالى : { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [ يس : 41 ] . وقال جماعةٌ ، منهم أبو البقاء{[2132]} : يجوزُ تَأْنيثُهُ ؛ مستدلِّين بقوله : { وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ } فوصفه بصفة التأنيث ، ولا دليل في ذلك ؛ لاحتمال أن يراد به الجمع ؛ وحينئذٍ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحد .
قال الواحديُّ{[2133]} : وأصله من الدَّوَرَان ، فكل مستدير فلك ، ومنه " فَلَكُ السَّمَاءِ " ؛ لدوران النُّجوم فيه ، و " فَلْكَةُ المِغْزَلِ " [ وفَلكَتِ الجَارِيَةُ : استدارَ نَهْدُها{[2134]} ] ، وسُمِّيت السَّفينة فُلْكا لأنَّها تدور بالماء أسهل دورٍ .
وجاء بصلة " الَّتِي " فعلاً مضارعاً ؛ ليدلَّ على التجدُّد والحدوث ، وإسناد الجري إليها مجازٌ ، وقوله : " فِي البَحْرِ " توكيدٌ ؛ إذ المعلوم أنَّها تجري في غيره ؛ كقوله { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
قال ابنُ الخَطِيبِ{[2135]} - رحمه الله - قيل : إنَّ البُحُورَ المَعْرُوفَةَ [ خَمْسَةٌ ] : بحرُ الهند : وهو بحرُ الصِّين ، وبحرُ المغرب ، وبحر الشَّام ، وبحر الرُّوم [ ومِصْر ] وبحر نيطش وبحر جُرْجان .
فالأوَّل يمتدُّ طوله [ من المغرب إلى المَشْرقِ ] ، من أقصى أرض الحبشة إلى أقصى أرض الهند ، ويخرج منه خليج عند أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر ، يسمَّى البربريُّ ، وخليج بحر أيلة ، وهو بحر القلزم ، ينتهي إلى البحر الأخضر على شرقيّ أرض اليمن وعلى غربيّ أرض الحبشة ، وخليج بحر فارس يسمى الفارسي وهو بحر البصرة على شرقي تيز ومكران ، وعلى غربيه غمان وبين هذين الخليجين خليج أيلة ، وخليج فارس الحجاز واليمن ، وبلاد المغرب وخليج رابع إلى أقصى الهند يسمَّى الأخضر ، وفي بحر الهند ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها سرنديب عند بلاد الصين يحيط بها ثلاثة الآف ميل فيها جبالٌ وأنهارٌ ، ومنها يخرجُ الياقوتُ الأحمر .
وأمَّا بحر المغرب ، فهو المحيط ويسمِّيه اليونانيُّون : أوقيانوس ، ويتّصل به بحر الهند ، وطرفه في ناحية المغرب والشمال محاذياً لأرض الروم والصقالبة ويأخذ في الجنوب محاذياً لأرض السُّودان مارّاً على [ حدود السّوس ، وطنجة وتاهرت ] ، ثم الأندلس والجلالقة والصَّقالبة ، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق ، وهذا البحر لا تجري فيه السُّفن إلا بقرب ساحله ، وفيه ستُّ جزائر تسمى الخالدات ، تقابل أرض الحبشة ، ويخرج منه خليجٌ عظيمٌ يمتد إلى أرض بلغار .
وأما بحر الرُّوم وإفريقية [ ومصر والشَّام : ] فيخرج منه إلى أرض البربر ، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستُّون جزيرةً .
وأما بحر نيطش : فيمتدُّ من اللاذقيَّة إلى خلف قسطنطينيَّة ، وأرض الرُّوم والصَّقالبة .
وأمَّا بحر جرجان ، ويعرف ب " بحر السُّكون " فيمتدُّ إلى طبرستان والدَّيلم ، وباب الأبواب ، وليس يتصل ببحر آخر ، فهذه هي [ البُحُور ] العظامُ ، وأما غيرها : فهي بَطَائح ؛ كبحيرة خوارزم ، وبحيرة طبريَّة .
قال اللَّيثُ : سمي البحر بحراً ؛ لاستبحاره ، وهو سعته وانبساطه ، ويقال : استبحر فلانٌ [ في العلم ]{[2136]} ، إذا اتَّسَعَ فيه ؛ وتَبَحَّر الرَّاعي في الرَّعي كَثُرَ ، وتبحَّر فلانٌ في المال .
وقال غيره : سُمِّيَ البحر بحراً ؛ لأنَّه شقّ في الأرض ، والبحر الشَّقُّ ، ومنه البُحَيْرَة{[2137]} .
قوله تعالى : " بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ " . [ في " ما " قولان :
أحدها : أنها موصولة اسميَّةٌ ؛ وعلى هذا : الباء للحال ، أي : تجري مصحوبةً بالأعيان الَّتي تنفعُ النَّاس .
الثَّاني : أنها ]{[2138]} حرفيَّةٌ ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسَّبب ، أي : تجري بسَبَبِ نفع النَّاس في التِّجارة وغيرها .
فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع .
فأما كيفيَّة الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصَّانع تعالى وتقدَّس :
فهو أنَّ السُّفُن ، وإن كانت من تركيب النَّاس إلاَّ أنَّه تعالى [ هو الَّذي ]{[2139]} خلق الآلات الَّتي يمكن بها تركيب هذه السُّفُن ، وتبحرُ بها الرياح ، وقوَّى قلوبَ من ركِبَها ، وخصَّ كُلَّ طَرَفٍ من أطراف العالم بشيءٍ معيَّن ، وأحوج الكُلَّ إلى الكُلِّ ؛ حتَّى صار ذلك داعِياً يدعوهم إلى اقتحامِ هذه الأخطار في هذه الأسفار ، ويخَّر البحر لحمل الفلك ، مع قوَّة سلطان البحر إذا هاج ، وعظُم هوله ، واضطربت أمواجه ، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يُخَلِّص السُّفُن عنها ويوصِّلها إلى ساحل السَّلامة ، وهذا أمرٌ لا بد له من مدَبِّر يُدَبِّره ، ومقتدر يحفظه ، وهذه الآية الكريمة تدلُّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب ، والتِّجارة ؛ لقوله : " بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ " .
فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر
البحر إذا أرتج ، لم يجز ركوبه لأحدٍ بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ، ولا في الزَّمن الذي الأغلب فيه عدم السَّلامة ؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمنٍ يكون الغالب فيه السلامة - [ نقله القُرْطُبيُّ{[2140]} ]{[2141]} .
قوله تعالى : { وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ } [ البقرة : 164 ] [ " من " ] الأولى معناها ابتداءُ الغاية ، أي : أنزل من جهة السماء ، وأما الثانيةُ فتحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون لبيان الجِنسِ فإنَّ المنزل من السَّماء ماءٌ وغيره .
والثاني : أن تكون للتَّبعيض ؛ فإنَّ المنزل منه بعضٌ لا كلٌّ .
والثالث : أن تكون هي وما بعدها بدلاً من قوله : " من السماء " بدل اشتمالٍ بتكرير العامل ، وكلاهما أعني " مِن " الأولى ، و " مِن " الثانية متعلِّقان ب " أَنْزَلَ " .
فالجوابُ : أنَّ الممنوع من ذلك أن يتَّحدا معنًى من غير عطف ، ولا بدلٍ ، لا تقول : أَخَذْتُ من الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ ، وَأَمَّا الآية الكريمة : فإنَّ المحذورَ فيه مُنْتَفٍ ، وذلك أنَّك إن جَعَلْتَ " مِنَ " الثانية للبيان ، أو للتبعيض ، فظاهرٌ ؛ لاختلاف معناهما ؛ فإنَّ الأولى للابتداء ، وإن جعلناها لابتداء الغاية ، فهي وما بعدها بدلٌ ، والبدلُ يجوز ذلك فيه ، كما تقدَّم ، ويجوز أن تتعلَّق " مِن " الأولى بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ ؛ إمَّا من الموصول نفسه ، وهو " مَا " ، أو من ضميره المنصوب ب " أنْزَلَ " ، أي : وما أَنْزَلَ اللَّهُ حالَ كَوْنِهِ كائناً من السَّماء .
فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالَّة على وجود الصانع
قيل : أراد بالسَّماء السَّحَابَ ؛ فإنَّ كلَّ ما علاك يُسَمَّى سماءً ، ومنه قيل : سَقْفُ البيت سماؤُهُ ، وقيل : أراد السَّماء المعروفة ، وأنَّه ينزل من السَّماء إلى السَّحاب ، ومن السحاب إلى الأرض ، وفي دلالة إنزالِ الماء من السَّماء على وجود الصَّانع : أنَّ جسم الماء ، وما قام به من صفات الرِّقَّة ، والرُّطوبة ، واللَّطَافة والعُذُوبة ، وجعله سبباً لحياة الإنسان ، ولأكثر [ منافعه ]{[2142]} ، وسبباً لرزقه ، وكونه من السحاب معلَّقاً في جَوِّ السَّماء ، وينزل عند التضرُّع ، واحتياج الخلق إليه - مقدار المنفعة ، وسوقه إلى بلد ميِّت ، فيحيي به - من الآيات العظيمة الدَّالَّة على وجود الصانع المدبِّر القدير .
قوله تعالى : " فَأَحْيَا بِهِ " عطف " أحْيَا " على " أَنْزَلَ " الَّذي هو صلة بفاء التَّعقيب ، دلالة على سُرعة النبات ، و " بِهِ " متعلِّق ب " أَحْيَا " والباءُ يجوزُ أن تكون للسَّبب ، وأن تكون باء الإله ، وكلُّ هذا مجازٌ ؛ فإنَّه متعالٍ عن ذلك ، والضميرُ في " به " يعود على الموصول .
فصل في دلالة إحياء الأرض بعد موتها على وجود الصانع
اعلم أنَّ " أحْيَا الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا " يدلُّ على وجود الصانع من وجوه :
[ فإنَّ نفس الزَّرع وخروجه على هذا الحدِّ ليس في مقدور أحدٍ .
واختلاف ألوانه على وجه{[2143]} ] [ لا يُحَدُّ ، ولا يُحْصَى ]{[2144]} ، واختلاف الطُّعُوم والروائح ، مع كونه يسقى بماء واحدٍ .
واستمرار العادة بذلك في أوقات مخصوصةٍ ، فإنَّ ظهور النَّبات من الكلأ ، والعشب ، وغيرهما ، لولاه ما عاش دوابُّ الأرض ، ولما حصلت أقوات العباد [ وملابسهم ]{[2145]} .
وهذا لا بُدَّ له من [ مُدَبِّر ] ، حكيمٍ ، قادرٍ .
ووصف الأرض بالحياة بعد الموت مجازٌ ؛ لأنَّ الحياة لا تصحُّ إلاَّ على من يدرك ، ويصحُّ أن يعلم ، وكذلك الموت ؛ إلاَّ أنَّ الجسم ، إذا صار حيّاً ، حصل فيه أنواعٌ من الحسن ، والنُّضرة ، [ والبَهَاء ]{[2146]} ، والنَّماء ، فكذلك الأرض ، لمَّا حصل لها سبب النبات ، حسن ، ونضرة ، ونور ، ورونق ، وذلك لشبهه [ بالحياة ] ، وموتها [ يبسها ، وجدبها ] ، وهذا مجاز أيضاً ؛ لشبهه بالموت .
قوله تعالى : " وَبَثَّ فِيهَا " يجوز في " بَثَّ " وجهان :
أظهرهما : أنَّهما عطفٌ على " أَنْزَلَ " داخلٌ تحت حُكم الصِّلة ؛ لأنَّ قوله " فَأَحْيَا " عطفٌ على " أَنْزَلَ " فاتصل به ، وصارا جميعاً كالشَّيء الواحد ، وكأنه قيل : " وَمَا أَنْزَلَ في الأَرْضِ مِنْ مَاءٍ ، وبَثَّ فيها من كُلِّ دابِّة ؛ لأنَّهم يَنْمُونَ بالخِصْبِ ، ويَعِيشُون بالحَيَا " : قاله الزمخشريُّ{[2147]} .
والثاني : أنه عطفٌ على " أَحْيَا " .
واستشكل أبو حيَّان عطفه [ عليها ؛ لأنَّها صلةٌ للموصول ، فلا بُدَّ من ضمير يرجع من هذه الجملة إليه ، وليس ثمَّ ضميرٌ في اللَّفظ ]{[2148]} ؛ لأن " فيها " يعود على الأَرْض ، فبقي أن يكون محذوفاً ، تقديره : وبَثَّ به فيها ، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرور بحرف إلا بشروطٍ :
أن يكون الموصول مجروراً بمثل ذلك الحرف .
وألا يكون الجارُّ قائماً مقام مرفوعٍ .
والموصول هنا غير مجرورٍ ألبتَّة ، ولمَّا استشكل هذا بما ذكر ، خرَّج الآية على حذف موصول اسميٍّ ؛ قال : وهو جائزُ شائعٌ في كلامهم ، وإن كان البصريُّون لا يجيزُونه ؛ وأنشد شَاهِداً عليه : [ الخفيف ]
866 - مَا الَّذِي دَأْبَهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ *** وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ{[2149]}
أي : والَّذي أَطَاعَ ؛ وقوله : [ الوافر ]
867 - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ *** وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ{[2150]}
أي : ومن [ يَمْدَحُهُ ] وَيَنْصُرُهُ .
868 - فَوَاللَّهِ ، مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ *** بِمُعْتَدِلٍ وَفْقٍ وَلاَ مُتَقَارِبِ{[2151]}
أي : " مَا الَّذِي نِلْتُمْ " ، وقوله تعالى : { وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } ؛ [ أي : وبِالَّذِي أُنْزِلَ إليكم ]{[2152]} ؛ ليطابق قوله : { وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] ، ثم قال : وقد يتمشَّى التقدير الأوَّل - يعني : جواز الحذف - وإن لم يوجد شرطه . قال : وقد جاء ذلك في أشعارِهِم ؛ وأنشد : [ الطويل ]
869 - وَإِنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا *** وَهُوَّ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ{[2153]}
أي : عَلْقَمٌ عَلَيْهِ ، وقوله : [ الطويل ]
870 - لَعَلَّ الًَّذِي أَصْعَدْتنِي أنْ يَرُدَّنِي *** إلى الأَرْضِ إِنْ لَمْ يَقْدِرِ الخَيْرَ قَادِرُهُ{[2154]}
[ قوله تعالى : " مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ " يجوز في " كُلِّ " ثلاثة أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون في موضع المفعول به ]{[2155]} ، وتكون " مِنْ " تبعيضيَّةً .
الثاني : [ أن تكون " مِنْ " زائدةً على مذهب الأخفش ، و " كُلِّ دَابَّةٍ " مفعولٌ به ل " بَثَّ " أيضاً .
والثالث ]{[2156]} : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول " بَثَّ " المحذوف ، إذَا قلنا : إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً ، تقديره : وما بَثَّ حال كونه كائناً من كُلِّ دابَّةٍ ؛ وفي " مِنْ " حينئذٍ وجهان :
والثاني ]{[2157]} : أن تكون للتبعيض .
وقال أبو البَقَاءِ{[2158]} رحمه الله : ومفعول " بَثَّ " محذوفٌ ، تقديره : { وَبَثَّ فِيهَا دَوَابَّ مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } وظاهرُ هذا أنَّ " مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ " : صفةٌ لذلك المحذوف ، { وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته ]{[2159]} .
871 - . . . *** وَفِي الأَرْضِ مَبْثُوثاً شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ{[2160]}
ومضارِعُه : يَبُثُّ ، بضم العين ، وهو قياسُ المُضَاعف [ المُتَعَدِّي ] ، وقد جاء الكَسر في أُلَيْفَاظٍ ؛ قالوا : " نَمَّ الحديثَ يَنُمُّهُ " بالوجهين .
والدَّابَّةُ : اسمٌ لكلِّ حيوانٍ ، وزَعَمَ بعضهم إخراج الطَّير منه ، ورُدَّ [ عليه ] بقول عَلْقَمَةَ : [ الطويل ]
872 - كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ *** صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ{[2161]}
873 - . . . *** دَبِيبَ قَطَا البَطْحَاءِ في كُلِّ مَنْهَلِ{[2162]}
وبقوله سبحانه : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] ثمَّ فَصَّل : بمن يمشي على رجلين ، وهو الإنسان والطَّير .
فصل في أنَّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع
اعلم أنَّ حدوث الحيوانات قد يكون بالتَّوليد ، وقد يكون بالتَّوَالد :
وعلى التقديرين : فلا بُدَّ فيهما من [ الافتقار إلى ]{[2163]} الصَّانع الحَكِيم ؛ يُرْوَى أنَّ رَجُلاً قال عند عُمَرَ بن الخَطَّاب - رضي الله عنه - : إنِّي لأَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ ، فإنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ في ذِرَاعٍ ، وإنَّه لَوْ لَعِبَ الإِنْسَانُ ألْفَ ألْفِ مَرَّةٍ ، فَإِنَّه لا يَتَّفِقُ مَرَّتَان على وجه واحد ، فقال عمر بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين - : ههنا ما هو أَعْجب منه ، وهو أنَّ مقدار الوجه شبرٌ [ في شبرٍ ] ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه ؛ كالحاجبين ، والعينين ، والأنف ، [ والفم ] ، لا يتغيَّر ألبَتَّة ، ثم إنَّك لا ترى شخصين في الشَّرق والغرب يشتبهان في الصُّورة{[2164]} ، وكذا اللَّون ، والألسنة ، والطِّباع ، والأمزجة ، والصَّوت ، والكثافة ، واللَّطَافة ، والرِّقَّة ، والغلظ ، والطُّول ، والقصر ، وبقيَّة الأعضاء ، والبَلاَدة ، والفِطنة ، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرُّقعة الصَّغيرة هذه الاختلافات الَّتي لا حدَّ لها !
ورُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - [ أنه قال ] : " سُبْحَانَ مَنْ أَبْصَرَ بِشَحْمٍ ، وأَسْمَعَ بعَظْمٍ ، وأنْطَقَ بلَحْمٍ " {[2165]} .
واعلَمْ أنَّ أهل الطبائع ؛ قالوا : أعلى العناصر يجبُ أن يكون هو النَّار ؛ لأنّها حارَّةٌ يابسةٌ ، ودونها في اللَّطافة : الهواء ، وهو حارٌّ رطبٌ ، ودونها : الماء ؛ لأنَّه باردٌ رطبٌ ، والأرض لا بدَّ أن تكون تحت الكُلِّ ؛ لثقلها ، وكثافتها ، [ ويُبْسها ] ، ثُمَّ إنَّهم قلبوا هذه القضيَّة في [ تركيب ] بَدنِ الإنسان ؛ لأنَّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف ، والعظم وهو باردٌ يابسٌ ، فطبيعته على طبيعة الأرض ، وتحته الدِّماغُ ، وهو باردٌ رطبٌ على طبع الماء ، وتحته النَّفَسُ ، وهو حارٌّ رطبٌ على طبع الهواء ، وتحت الكل : القلبُ ، وهو حارٌّ يابسٌ على طبع النَّار ، فسبحان من [ بيده قلبُ ] الطبائع ، وترتيبها كيف يشاء ، وتركيبها كيف أراد .
ومن هذا الباب : أنَّ كُلَّ صانعٍ يأتي بنقشٍ لطيفٍ ، فإنَّه يصونه عن التُّراب ؛ لئلاَّ يكدِّره ، وعن النار ؛ لئلاَّ تحرقه ، وعن الهواء ؛ لئلاَّ يغيره ، وعن الماءِ ؛ لئلا تذهب به ، ثم إنَّه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء ؛ فقال تعالى :{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال في النار
{ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } [ الرحمن : 15 ] وقال تعالى
{ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] وقال تعالى في الماءِ :
{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ؛ وهذا يدلُّ على أن صنعه بخلاف صنع كُلِّ أحدٍ ؛ وأيضاً : انظر إلى الطِّفل بعد انفصاله من أُمِّه ، لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً [ فانْقَطَع نَفَسُه ]{[2166]} ، لمات في الحَال ، ثمَّ إنه بَقِيَ في الرَّحم المنطبق مدَّةً [ مديدةً ] ، مع تعذُّر النَّفس هناك ، ولم يمُتْ ، [ ثم إنَّهُ ] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء ، وأبعدها عن الفهم ؛ بحيث لا يميز بين الماء والنَّار ، وبين الأُم وغيرها ، وبعد استكماله يصير أكمل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ، ليعلم أنَّ ذلك من عظمة القادر الحكيم ، هذا بعض ما في الإنسان .
وأمَّا الكلام على بقيَّة الحيوان ، فبَحْرٌ لا ساحل له .
قوله تعالى : " وَتَصْرِيفِ الرَّيِاحِ " : " تَصْرِيفِ " : مصدرُ " صَرَّفَ " ، وهو الرَّدُّ والتَّقْلِيب ، ويجوزُ أنْ يكون مضافاً للفاعل ، والمفعول محذوف ، تقديره : [ وتصريف الرِّياح السَّحَابَ فإنَّها تسوق السَّحاب ، وأن يكون مضافاً للمفعول ، والفاعل محذوفٌ ، أي : ]{[2167]} وتصريفُ الله الرِّياح ، والرِّياح : جمعُ " رِيح " ، جمع تكسير ، وياء الرِّيح ، والرِّياح عن واو ، والأصلُ " روحٌ " ؛ لأنَّه من : رَاحَ يَرُوحُ ، وإنَّما قُلِبَتْ في " ريحٍ " ؛ لِسُكُونها ، وانكسار ما قَبْلها ، وفي " رِيِاحٍ " ؛ لأنَّها عينٌ [ في جمعٍ ] بعد كسرةٍ ، وبعدها ألفٌ ، وهي ساكنةٌ في المفرد ، وهي إبدالٌ مطَّردٌ ؛ ولذلك لمَّا زال موجب [ قلبها ، رجعت إلى أصلها ] ؛ فقالوا : أرواحٌ ؛ قال : [ الطويل ]
874 - أَرَبَّتْ بِهَا الأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةِ *** فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ{[2168]}
875 - لَبَيْتٌ تَخْفقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ *** أَحَبُّ إليَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفِ{[2169]}
وقد لَحَنَ عَمَارَةُ بْنُ بِلاَلٍ ، فقال " الأرْيَاحَ " في شعره ، فقال له أبو حَاتِمٍ : " إنَّ الأرْيَاحَ لا تجُوزُ " فقال له عمارةُ : ألاَ تَسْمَعُ قولهم : رِيَاحٌ ؟ فقال أبو حاتمِ : هذا خلاف ذلك ، فقال : صَدَقْتَ ، ورجع .
قال أبُو حَيَّان : وفي محفوطي قديماً ؛ أنَّ " الأَرْيَاح " جاء في شعر بعض فُصَحَاءِ العَرَب المستَشْهَد بكلامهم ، كأنَّهم بنوه على المفرد ، وإن كانت علَّة القلب مفقودةً في الجمع ، كما قالوا : " عيدٌ وأعْيَادٌ " والأصلُ " أَعْوَاد " ؛ لأنَّه من : " عَادَ يَعُودُ " ، لكنه لما ترك البَدَل ، جعل كالحرف الأصليِّ .
قال شِهِابُ الدِّيِن : ويؤيد ما قاله الشَّيْخُ أن التزامَهُمُ " الياء " في " الأَرْيَاحِ " ؛ لأجل اللَّبس [ بينه ، وبين " أَرْوَاح " جمع " رُوح " ، كما قالوا : التُزمت الياء في " أعْيَاد " ؛ فَرْقاً ]{[2170]} بينه وبين " أعْوَاد " جمع عود الحطب ؛ كما قالوا في التصغير : " عُيَيْد " دون " عُوَيْد " ؛ وعلَّلوه باللَّبْس المذكور .
وقال أبو عليٍّ : [ يجمع ] في القليل " أرْوَاح " وفي الكثير " رِيَاح " {[2171]} .
قال ابن الخطيب{[2172]}وابن عطِيَّة : " وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرَّحمة ، مفردةً مع العذابِ ، إلاَّ في قوله تعالى :
{ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [ يونس : 22 ] وهذا أغلب وقوعها في الكلام ، وفي الحديث : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحاً ، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً " ؛ لأنَّ رِيحَ العذَابِ شديدةٌ ملتئمةُ الأجْزاءِ ، كأنَّهَا جسْمٌ واحدٌ ، وريح الرَّحْمَة ليِّنَةٌ متقطِّعَةٌ ، وإنما أُفْرِدَتْ مع الفُلْكِ - يعني في يونس - لأنَّها لإجراء السُّفُن ، وهي واحدةٌ متَّصِلَةٌ ؛ ثمَّ وصفت بالطَّيِّبَةِ ، فزال الاشتراك بينها ، وبين ريح العذاب " . انتهى .
وردَّ بعضهم هذا ؛ باختلاف القُرَّاء في اثْنَي عَشَرَ موضعاً في القرآن ، وهذا لا يَرُدُّه لأنَّ من جمع في الرَّحمة ، فقد أتى بالأصل المُشِار إليه ، ومن أفرد في الرّحمة ، فقد أراد الجنس ، [ وأما الجمع في العذاب ، فلم يأتِ أصلاً ]{[2173]} ، وإما الإفراد فإن وصف ، كما في يونس من قوله : " بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ " فإنَّه مزيلٌ للَّبس ، وإن أطْلَقَ ، كان للعذَابِ ، كما في الحديث ، وقد تختصُّ اللفظة في القرآن بشيءٍ ، فيكون أمارةً له ، فمن ذلك : أن عامَّة ما في القرآن من قوله :
{ يُدْرِيكَ } [ الشورى : 17 ] مبهمٌ غير مبيَّن ، قال تعالى :
{ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] وما كان من لفظ " أَدْرَاك " فإنَّه مفسَّر ؛ كقوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ }
وقرأ حَمْزَةُ{[2174]} ، والكسائيُّ هنا " الرِّيح " بالإفراد ، والباقون{[2175]} بالجَمع ، فالجمع لاختلاف أنواعها : جَنُوباً ودَبُوراً وصَباً وغير ذلك ، وإفرادها على إرادة الجنس ، وكلُّ ريح في القرآن ليس فيها ألفٌ ولامٌ ، اتفق القرَّاء على توحيدها ، وما فيها ألف ولام ، اختلفوا في جمعها ، وتوحيدها ، إلاَّ الرِّيح العقيم في سورة الذَّاريات [ 41 ] ، اتفقوا على توحيدها ، والحرف الأوَّل من سورة الرُّوم
{ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] اتفقوا على جمعها ، والرِّياح : تذكَّر ، تؤنَّث .
وأمَّا تصريفها : فإنها تُصرَّفُ إلى الشَّمال والجنوب والقبول والدَّبور ، وما بين كلِّ واحدٍ من هذه المهابِّ ، فهي نكباء ، وقيل في تصريفها : إنها تارةً تكون ليِّنة ، وتارةً تكون عاصفةٌ ، [ وتارةً حارَّةً ] ، وتارة باردةً{[2176]} .
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : أعظم جنود الله تعالى الرِّيح ، والماء ، وسمِّيت الرِّيح ريحاً ؛ لأنها تريح النفوس{[2177]} .
قال القاضي شريح : ما هبَّت ريحٌ إلاَّ لشفاء سقيم ، ولسقم صحيحٍ{[2178]} . والبشارة في ثلاث من الرِّياح ، في الصَّبا ، والشَّمال ، والجنوب ، وأمَّا الدَّبور ، فهي : الرِّيح العقيم ، لا بشارة فيها .
وقيل{[2179]} : الرِّياح ثمانيةٌ : أربعةٌ للرَّحمة : المبشرات ، والنَّاشرات ، والذَّاريات ، والمرسلات ، وأربعة للعذاب : العقيم ، والصَّرصر في البرِّ ، والعاصف والقاصف في البحر .
روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وشرَّف ، وكرَّم ، ومجَّد ، وبجَّل ، وعظَّم : ] " الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ عزَّ وَجَلَّ{[2180]} " .
قال أبو سَلَمَةَ - رضي الله تعالى عنه- : فروح الله سبحانه وتعالى ]{[2181]} تأتي بالرَّحمة ، وتأتي بالعذاب ، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها واسألوا الله من خيرها ، واستعيذوا بالله من شرِّها .
قال ابن الأعرابيِّ : النَّسيم أوَّل هبوب الريح .
فصل في بيان دلالة الآية على الوحدانية
فأما وجه الاستدلال بها على وحدانيَّة الله تعالى الصَّانع ، فإنَّه صرَّفها على وجوه النَّفع العظيم في الحيوان ، فإنَّها مادَّة النَّفس الَّذي لو انقطع ساعةً في الحيوان ، لمات .
قيل : إنَّ كلَّ ما كانت الحاجة إليه أشدَّ ، كان وجدانه أسهل ، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات ؛ حتى لو انقطع عنه لحظة ، لمات ؛ لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ .
وبعد الهواء الماء ؛ لأنَّ الحاجة إلى الماء أيضاً شديدةٌ ؛ فلا جرم أيضاً سهل وجدان الماء ، ولكنَّ وجدان الهواء أسهل ؛ لأنَّ الماء لا بُدَّ من تكلُّف الاغتراف ، بخلاف الهواء ؛ فإنَّ الآلات المهيئة لجذبه حاضرةٌ أبداً .
ثم بعد الماء : الحاجة إلى الطَّعام شديدةٌ ، ولكن دون الحاجة إلى الماء ؛ فلا جرم كان تحصيل الطَّعام أصعب من تحصيل الماء ؛ لأنَّه يحتاجُ إلى تكلُّفٍ أكثر ، والمعاجين والأدوية تقلُّ الحاجة إليها ؛ فلا جرم عسرت وقلَّت ، ولمَّا عظمت الحاجة إلى رحمة الله تعالى ، نرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ ، ولولا تحرُّك الرياح ، لما جرت الفلك ، وذلك ممَّا لا يقدر عليه أحدٌ إلاَّ الله تعالى ، فلو أراد كلُّ من في العالم أن يقلب الرياح من الشَّمال إلى الجنوب ، أو إذا كان الهواء ساكناً ، أن يحركه ، لم يقدر على ذلك .
قوله تعالى : " والسَّحَاب " اسم جنس ، واحدته " سَحَابَةٌ " [ سُمِّي بذلك ] ؛ لانسحابه في الهواء ؛ كما قيل له " حَباً " لأنَّه يحبو ، ذكره أبو عليٍّ .
قال القرطبيُّ : ويقال : سَحَبْتُ ذَيْلِي سَحْباً ، وتَسَحَّبَ فُلاَنٌ على فُلاَنٍ ؛ والسَّحْبُ شدة الأكل والشُّرب ؛ وباعتبار كونه اسم جنس ، وصفه بوصف الواحد المنكِّر في قوله : " المُسَخَّرِ " كقوله :
{ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ولما اعتبر معناه تارةً أخرى ، وصفه بما يوصف به الجمع في قوله : " سَحَاباً ثِقَالاً " ويجوز أن يوصف بما توصف به المؤنَّثة الواحدة ؛ كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وهكذا : كلُّ اسم جنسٍ فيه لغتان : التذكير باعتبار اللّفظ ، والتأنيث باعتبار المعنى .
والتَّسخير : التذليل ، وجعل الشَّيء داخلاً تحت الطَّوْع ، وقال الرَّاغب : هو القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه .
قوله تعالى : { بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ } في " بَيْنَ " قولان :
أحدهما : أنه منصوبٌ بقوله : " المُسَخَّرِ " فيكون ظرفاً للتَّسخير .
والثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير المستتر [ في اسم المفعول ]{[2182]} ؛ فيتعلَّق بمحذوف ، أي : كائناً بين السَّماء والأرض ، و " لآيَاتٍ " اسم " إنَّ " ، والجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، ودخلت اللاَّم على الاسم ؛ لتأخُّره عن الخبر ، ولو كان موضعه ، لما جاز ذلك فيه .
وقوله : " لِقَوْمٍ " : في محلِّ نصبٍ ، لأنَّه صفةٌ ل " آياتٍ " ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وقوله : " يَعْقِلُونَ " : الجملة في محلِّ جرٍّ ؛ لأنها صفةٌ ل " قَوْمٍ " ، والله أعلم .
روى ابن عبَّاس عن كعب الأحبار - رضي الله عنه - قال : " السَّحَابُ غِرْبَالُ المَطَرِ ، لَوْلاَ السَّحَابُ حِينَ ينزل المَاء مِنَ السَّمَاءِ ، لأَفْسَدَ مَا يَقَعْ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ " .
وقال ابن عَبَّاسِ - رضي الله عنهما - : سَمِعْتُ كَعْباً ، يَقُولُ : إنَّ الأرْضَ تُنْبِتُ العام نباتاً ، وتُنْبِتُ نَبَاتاً عَاماً قَابِلاً غَيْرَهُ ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : إنَّ البَذْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ المَطَرِ ، فَيَخْرُجُ في الأَرْضِ{[2183]} .
فصل في الاستدلال بتسخير السحاب على وحدانية الله
في الاستدلال بتسخير السَّحاب على وحدانيَّة الصَّانع : أنَّ طبع الماء ثقيلٌ يقتضي النُّزول فكان بقاؤه في جوِّ الهواء على خلاف الطَّبع ، فلا بُدَّ من قادرٍ قاهرٍ ، يقهر على ذلك ، فلذلك سمَّاه بالمسخَّر ، وأيضاً : فإنَّه لو دام ، لعظم ضرره من حيث إنَّه يستر ضوء الشَّمس ، ويكثر [ الأمطار ، والابتلال{[2184]} ] ، ولو انقطع ، لعظم ضرره ؛ لأنَّه يفضي إلى القحط وعدم العشب ، والزراعة ؛ فكان تقديره بالمقدار المعلوم الذي يأتي في وقت الحاجة ، ويزول عند زوال الحاجة بتقدير مقدِّرٍ قاهرٍ أيضاً ؛ فإنَّه لا يقف في موضع معيَّن ، بل الله تعالى يسيّره بواسطة تحريك الرِّياح إلى حيث شاء وأراد ، وذلك هو التَّسخير .
روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : " بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ، فَسَمِعَ صَوْتاً مِنَ سَحَابَةٍ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ ، فَتنَحَّى ذلك السَّحَابُ ، فأفرغ ماءَهُ في جرَّةٍ ، فإذا بشرجةٍ من تلك الشِّراج ، وقد استوعبت ذلك الماء كلَّه ، فتتبَّع الماء ، فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته ، فقال له : يا عبد الله ، ما اسمك ؟ قال : فلان ؛ للاسم الذي سمع من السَّحاب ، فقال له : يا عبد الله ، لم تَسْأَلُني عن اسمي ؟ فقال : إني سمعت صوتاً من السَّحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان لاسمك ، فماذا تصنع ؟ قال : أمَّا إذا قلت هذا ، فإنِّي أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدَّق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأردُّ فيها ثلثه .
وفي روايةٍ : وأجعل ثلثه للمساكين ، والسَّائلين ، وابن السَّبيل{[2185]} .
قوله : " يَعْقِلُونَ " ، أي : يعلمون لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً .
قال القاضي{[2186]} : دلت الآية على أنَّه لو كان الحقُّ يدرك بالتقليد ، واتباع الآباء ، والجري على الإلف والعادة ، لما صَحَّ قوله : { لآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، وأيضاً : لو كانت المعارفُ ضروريَّةً ، وحاصلةً بالإلهام ، لما صَحَّ وصفُ هذه الأمُور بأنَّها آياتٌ ؛ لأنَّ المعلومَ بالضَّرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات .
قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : ثلاثة لا يدرى من أين يَجِيء : الرَّعد ، والبرق ، والسَّحاب{[2187]} .