أحدهما : أنه كلامٌ مستأنفٌ يتناولُ كلَّ من كتم شيئاً من الدين .
الثاني : عن ابن عبَّاس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة والرَّبيع ، والسُّدِّيِّ ، والأصَمِّ : أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى{[2047]} .
الثالث : نزلت في اليهود والَّذين كتموا ما في التَّوراة من صفة محمد - صلوات الله وسلامه عليه{[2048]} - .
قال ابن الخَطِيبِ : والأوَّل أقرب إلى الصَّواب ؛ لوجوه{[2049]} :
الأوَّل : أن اللفظ عامٌّ ، وثبت في " أُصُول الفقه " أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب .
الثاني : ثبت أيضاً في " أُصُول الفقه " أن العبرة بعموم اللَّفظ ، وأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب [ مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة{[2050]} ] ، وكتمانُ الدِّين يُناسبُ استحقاق اللَّعن ؛ فوجب عموم الحكم عند عموم الوصف .
الثالث : أن جماعةً من الصحابة - رضي الله عنهم - حملوا هذا اللَّفظ على العموم ؛ كما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئاً مِنَ الوَحْي ، فَقَدْ أعْظَمَ الفِرْيَةَ على اللَّهِ تَعَالَى " ، واللَّهُ تَعَالَى يقول : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } [ البقرة : 159 ] " فحملت الآية على العموم .
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال [ لَوْلاَ آية{[2051]} ] من كتاب الله ، ما حَدَّثْتُ حديثاً بعد أن قال النَّاس : أكْثَرَ أبو هُرَيْرَة ، وتَلاَ : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ }{[2052]} .
احتجَّ من خصَّ الآية بأهل الكتاب : أنَّ الكتمان لا يصحُّ إلاَّ منهم في شرع نبوَّة محمَّد - صلواتُ الله ، وسلامه عليه - وأمَّا القرآن ، فإنَّه متواترٌ ، فلا يصحُّ كتمانُهُ .
والجواب : أنَّ القرآن الكريم قبل صَيْرُورَتِهِ متواتراً يَصِحُّ كتمانُهُ ، والكلامُ إنَّما هو فيما يحتاج المكلَّف إليه .
قال القاضي{[2053]} : الكتمانُ ترك إظهار الشَّيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهار ؛ لأنَّه متى لم يكن كذلك ، لا يُعَدُّ من الكتمان ، فدلَّت الآية على أنَّ ما يتَّصلُ بالدِّين ، ويحتاج المكلَّف إليه ، لا يجوز كتمانه .
ونظيرُ هذه الآية قوله تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] وقوله سبحانه وتعالى :{ وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] فهذه كلُّها زواجرُ عن الكتمان .
ونظيرها في بيان العلم ، وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه ، قوله سبحانه : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] .
وروى أبو هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ كَتَمَ عِلْماً يَعْلَمُهُ جِيءَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ " {[2054]}
واعلم أن العالم ، إذا قصد كتمان العلم ، عصى ، وإن لم يقصده ، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره ، وأما من سئل ، فقد وجب عليه التبليغ ؛ لهذه الآية ، وللحديث .
واعلم أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن ، ولا العلم ؛ حتى يسلم ، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال ، والحجاج ، ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجَّةً ، ليقتطع بها ماله ، ولا السُّلطان تأويلاً يتطرَّق به على مكاره الرَّعيَّة ، ولا ينشر الرُّخص من السُّفهاء ، فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ، ونحو ذلك . [ وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " لاَ تَمْنَعُوا الحِكْمَةَ أَهْلَهَا ؛ فَتَظْلِمُوهُمْ ، وَلاَ تَضَغُوهَا في غَيْرِ أَهْلِهَا ، فَتَظْلِمُوهَا{[2055]} " {[2056]} .
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " لاَ تُعَلِّقُوا الدُّرَّ في أَعْنَاقِ الخَنَازِيرِ " {[2057]}يريد تعليم الفقه من ليس من أهله .
قوله تعالى : " مَا أَنْزَلْنَا " مفعول ب " يَكْتُمُونَ " ، و " أَنْزَلْنَا " صلته ، وعائده محذوف ، أي : أنزلناه ، و " مِنَ البَيِّنَاتِ " [ يجوز فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنها حالٌ من " ما " الموصولة ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : كائناً من البَيِّنَات .
الثاني : أن يتعلَّق ب " أَنْزَلْنَا " فيكون مفعولاً به ، قاله أَبُو البَقَاءِ{[2058]} ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّه إذا كان مفعولاً به ، لم يتعد الفعل إلى ضمير ، وإذا لم يتعدَّ ]{[2059]} إلى ضمير الموصول ، بقي الموصول بلا عائد .
الثالث : أن يكون حالاً من الضمير العائد على الموصول ، والعامل في " أَنْزَلْنَا " ؛ لأنه عامل في صاحبها .
فصل في المراد من " البيِّنات "
والمراد من " البَيِّنَاتِ " ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي ، دون أدلَّة العقل .
وقوله " والهُدَى " يدخل فيه الدَّلالة العقليَّة ، والنَّقْليَّة ؛ لما تقدَّم في دليل قوله { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 3 ] أنَّ الهدى عبارةٌ عن الدلائل ، فيعمُ الكُلَّ . فإن قيل : فقد قال : { وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ في الكِتَابِ } فعاد إلى الوجه الأوَّل .
قلنا : الأوَّل : هو التنزيل ، والثاني : ما يقتضيه التنزيل من الفوائد .
وهذه الآية الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدِّين بالدلائل العقليَّة لمن كان محتاجاً إليها ، ثم تركها ، أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع الحاجة إليه ، فقد لحقه هذا الوعيد .
قوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ } متعلِّق ب " يَكْتُمُونَ " ، ولا يتعلَّق ب " أَنْزَلْنَا " لفساد المعنى ؛ لأنَّ الإنزال لم يكن بعد التَّبيين ، وأمَّا الكتمان فبعد التَّبيين ، والضمير في [ " بَيَّنَّاهُ " يعودُ على " ما " الموصولة .
وقرأ الجمهور " بَيَّنَّاهُ " ، وقرأ طلحة{[2060]} بنُ مُصَرِّف " بَيَّنَهُ " على ضمير الغائب ، وهو التفاتٌ من التكلّم إلى الغيبة ، و " للنَّاس " متعلِّق بالفعل قبله .
وقوله : " في الكِتَابِ " يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه متعلِّق بقوله : " بَيَّنَّاهُ " .
والثاني : أنه يتعلَّق بمحذوف ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المنصوب في ]{[2061]} " بَيَّنَّاهُ " أي : بيَّنَّاهُ حال كونه مستقرّاً كائناً في الكتاب ، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة .
قال بعضهم : هذا الإظهار فرضٌ على الكفاية ، لأنَّه إذا أظهره البعض ، صار بحيث يتمكنَّ كلُّ أحدٍ من الوصول إليه ، فلم يبق مكتوماً ، وإذا خرج عن حد الكتمان ، لم يجب على الباقين إظهاره مرةً أخرى ، والله أعلم{[2062]} .
فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد
من الناس من يحتجُّ بهذه الآيات على قبول خبر الواحد ، لأنَّ أظهار هذه الأحكام واجبٌ ، [ ولو لم يجب العمل ]{[2063]} ، لم يكن إظهارها واجباً ، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية :
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ } [ البقرة : 160 ] فحكم بوقوع البيان بخبرهم .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّاً عن الكتمان ، ومأموراً بالبيان ؛ [ ليكثر المخبرون ]{[2064]} ؛ فيتواتر الخبر .
فالجواب : هذا غلط ؛ لأنَّهم ما نهوا عن الكتمان ، إلاَّ وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ، ومن جاز منهم التَّواطؤ على الكتمان ، جاز منهم التواطُؤُ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجباً للعلم ، والمراد من [ الكتاب ]{[2065]} قيل : التَّوراة والإنجيل ، وقيل : القرآن ، وقيل : أراد بالمُنْزَل الأوَّل ما فيه كتب المتقدِّمين ، والثَّاني ما في القرآن .
قوله تعالى : " أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ " يجوز في " أولَئِكَ " وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ ، و " يَلْعَنُهُم " خبره ، والجملة خبرُ " إنَّ الَّذِينَ " .
والثاني : أن يكون بدلاً من " الَّذِينَ " و " يَلْعَنُهُمُ " الخبر ؛ لأن قوله تعالى : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما قبله ، وهو { يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ } وأن يكون مستأنفاً ، وأتى بصلة " الَّذِينَ " فعلاً مضارعاً ، وكذلك بفعل اللَّعنة ؛ دلالةً على التجدُّد والحدوث ، وأن هذا يتجدَّد وقتاً فوقتاً ، وكُرِّرَت اللعنة ؛ تأكيداً في ذمِّهم . وفي قوله " يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ " التفاتٌ ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام ، لقال : " نَلْعَنُهُمُ " ؛ لقوله : " أَنْزَلْنَا " ، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير .
فصل في معنى اللعنة ، والمراد باللاعنين
اللَّعْنَةُ في أصْلِ اللُّغَة : هي الإبْعَادُ ، وفي عُرْف الشَّرْع ، الإبعادُ من الثَّوَاب ، واختلَفُوا في الَّلاعِنِينَ ، مَنْ هُمْ ؟ فقيل : دوَابُّ الأرض وهوامُّها ؛ فإنَّها تقول : مُنِعْنَا القَطْرَ بمعَاصِي بَنِي آدَمَ ، نقله مجاهدٌ ، عن عِكْرِمَة{[2066]} .
وقال : " اللاَّعِنُونَ " ، ولم يقل " اللاعِنَات " ؛ لأنَّه تعالَى وصَفَها بصفةِ مَنْ يعقلُ ، فجمعَها جَمْعَ مَنْ يعقلُ ؛ كقوله تعالى : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] و{ يأَيُّهَا النَّمْلُ{[2067]}ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ]
{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } [ فصلت : 21 ] .
و{ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] وقيل : " كُلُّ شيْءٍ إِلاَّ الإنْسَ والجِنَّ " قاله ابنُ عَبَّاس{[2068]} .
فإن قيل : كَيْفَ يصحُّ اللعْنُ من البهائِمِ ، والجَمَادَاتِ ؟
الأول : على سبيلِ المُبَالغَةَ ، وهي أنَّها لو كانت [ عاقلةً ]{[2069]} ، لكانَتْ تَلْعَنُهُمْ .
الثاني : أنها في الآخِرَة ، إذا أُعِيدَت ، وجُعِلَتْ من العُقَلاء فإنَّها تَلْعَنُ مَنْ فَعَل ذلك في الدُّنْيا ، ومَاتَ عَلَيْهِ .
وقيل : إنَّ أهْلَ النَّار يَلْعَنُونَهُمْ وقيل يلْعَنُهُمُ الإنْسُ والجِنُّ{[2070]} .
وقال ابنُ مَسْعُود - رضي الله تعالَى عَنْه - : ما تَلاَعنَ اثْنَانِ من المُسْلِمِينَ إلاَّ رجَعَتْ تلْكَ اللَّعْنَةُ على اليَهُود والنَّصَارَى الَّذين كَتَمُوا أَمْرَ محمَّد - صلواتُ اللَّه وسلامهُ علَيْه - وصِفَتَهُ{[2071]} . وعن ابْنَ عَبَّاس : أنَّ لهم لعنتَيْنِ لعنة اللَّه ، ولَعْنَة الخَلاَئِقِ ، قال : وذلك إذَا وُضِعَ الرَّجُلُ في قَبْرِهِ ، فَيُسْأَلُ ما دِينُكَ ؟ وما نَبِيُّكَ ؟ وما رَبُّكَ ؟ فيقول : لا أَدرِي فيُضْرَبُ ضربةً يسمعها كلُّ شَيْءٍ إلاَّ الثَّقَلَيْنِ ، فلا يَسْمَعُ شيْء صَوْتَه إلاَّ لَعَنَهُ ، ويقول المَلَكُ : لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ ، كذَلِكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا{[2072]} .
وقال أَبُوا مُسْلِمٍ{[2073]} : " اللاَّعِنُون هم الَّذِين آمَنُوا به ، ومعْنَى اللَّعْنَة ، مباعدةُ المَلْعُون ، ومُشَاقَّتُه ، ومخالَفَتُه مع السَّخَط عليه .
وقيل : الملائكةُ ، والأنبياءُ ، والصالحُون ؛ ويؤكِّده قولُهُ تعالَى :
{ إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
وقال قتادة : " الملائكةُ " {[2074]} .
قال الزَّجَّاجُ : والصوابُ قَوْلُ مَنْ قال : " اللاَّعِنُونَ الملائكة والمؤمنونَ " ، فأمَّا أن يكون ذلك لدوَابِّ الأَرْضِ فلا يُوقَفُ على حقيقته إلاَّ بنَصٍّ أو خَبَرٍ لاَزِمٍ ، ولم يوجَدْ شيءٌ من ذلك .
قال القرطبِيُّ{[2075]} : قد جَاءَ بذلك خَبَرٌ رَوَاهُ البَرَاء بن عَازِب ، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى الله عليه وعلى آلِهِ ، وسَلَّم ، وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - في قوله تعالى : " يَلْعَنُهُمُ اللاَّعنُونَ " قال : " دوابُّ الأَرْض{[2076]} " أخْرَجَه ابْنُ ماجَةَ .
وقال الحَسَن : " جميعُ عبَادِ اللَّه " {[2077]} .
قال القاضِي : " دلَّتِ الآيةُ على أنَّ هذا الكِتْمَان من الكَبَائر لأنَّه تعالَى أَوْجبَ فيه اللَّعْن{[2078]} .