اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ يَٰهَٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذۡ رَأَيۡتَهُمۡ ضَلُّوٓاْ} (92)

وقال له : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا } أشركوا .

قوله : " إذْ " منصوب ب " مَنَعَكَ " ، أي : أي شيء منعك وقت ضلالهم{[26317]} .

و " لاَ " فيها قولان{[26318]} :

أحدهما : أنَّها مزيدة ، أي ما منعك من أن تتبعني{[26319]} .

والثاني : أنَّها دخلت حملاً{[26320]} على المعنى ، إذ المعنى ما حملك على أن لا{[26321]} تتبعني ، وما دَعَاك إلى أن لا تتبعني ، ذكره عَلِيُّ بن عِيسَى{[26322]} .

وقد تقدم تحقيق هذين القولين في ( سورة الأعراف{[26323]} ، والقراءة في ){[26324]} ، " يَبْنَؤُمَّ " {[26325]} .

فصل{[26326]}

ومعنى تَتَّبِعني تتَّبع أمري ووصيَّتٍي ، يعني هلاَّ قاتلتهم ، وقد علمت أنِّي لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم ، وقيل : { أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } أي : ما منعك من اللحوق بي وإخباري{[26327]} بضلالهم فتكون مفارقتك إياهُم زَجْراً{[26328]} لهم عما أتوا { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي }{[26329]} .

فصل

تمسك الطاعنون{[26330]} في عصمة الأنبياء عليهم السلام{[26331]} بهذه الآية من وجوه :

أحدها{[26332]} : أنَّ موسى -عليه السلام{[26333]}- إما أن يكون قد أمر{[26334]} هارون باتباعه{[26335]} أو لم يأمره ، فإن أمره ، فإما{[26336]} أن يكون هارون قد اتبعه أو لم يتبعه ، فإن اتبعه كان كلام موسى لهارون معصيةً وذنباً ، لأن ملامة غير المجرم معصية .

وإن لم يتبعه كان هارون تاركاً للواجب فكان{[26337]} فاعلاً للمعصية ، وإن قلنا : إن موسى ما أمره باتباعه كانت ملامته إيَّاه بترك{[26338]} الاتباع معصية ، وعلى جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هارون{[26339]} .

وثانيها{[26340]} : قول موسى { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } استفهام على سبيل الإنكار ، فوجب أن يكون هارون قد عصاه ، وأن يكون ذلك العصيان منكراً ، وإلا كان موسى كاذباً ، وهو معصية ، وإذا فعل هارون{[26341]} لك فقد فعل المعصية .

ثالثها{[26342]} : قوله : { يا ابن أم لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } وهذا معصية ، لأن هارون -عليه السلام{[26343]}- قد فعل ما قدر عليه ، فكان الأخذ بلحيته وبرأسه{[26344]} معصية ، وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك معصية .

ورابعها{[26345]} : أن هارون قال : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } ، فإن{[26346]} كان الأخذ بلحيته ورأسه جائزاً{[26347]} كان قول{[26348]} هارون " لاَ تَأْخُذْ " {[26349]} منعاً له عما كان له أن يفعله{[26350]} ، فيكون ذلك القول معصية . وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى -عليه السلام{[26351]}- فاعلاً للمعصية .

والجواب{[26352]} عن الكل : أنَّ حاصل هذه الوجوه تمسكٌ بظواهر قابلة للتأويل ، ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز . وإذا ثبتت هذه المقدمة ففي الجواب وجوه :

أحدها{[26353]} : أنَّا وإن اختلفنا في جواز عصمة الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم . وإذا كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنع منه الآخر ، أعني : موسى وهارون -عليهما السلام{[26354]}- لعله كان أحدهما أولى ، والآخر كان ترك الأولى ، فلذلك فعله أحدهما وتركه الآخر . فإن قيل : هذا التأويل غير جائز ، لأن كل واحد منهما كان جازماً{[26355]} فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً ، وفعل المندوب وتركه لا يجزمونه{[26356]} قلنا{[26357]} : تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع ، فيحمل{[26358]} الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح ، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً{[26359]} .

وثانيها{[26360]} : أن موسى -عليه السلام{[26361]}- أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك الغضب ، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه وأصابعه ويفتل لحيته ، فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه ، لأنه كان{[26362]} أخاه وشريكه ، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب ، وأما قوله : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } فلا يمتنع أن يكون هارون – عليه السلام{[26363]} خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل أنه منكر عليه ، فبين أنه معاون له ، ثم أخذ{[26364]} في شرح القصة فقال : { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ } .

وثالثها : أنَّ نبي إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى ، حتى إن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى : أنت قتلته ، فلما وعد الله موسى ، وكتب له في الألواح من كل شيء ، ثم رجع فرأى من قومه ما رأى ، أخذ{[26365]} برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون أن يَسْبِق إلى قلوبهم ما لا أصل له ، فقال إشفاقاً{[26366]} على موسى : { لاَ تَأْخُذْ{[26367]} بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } ، لئلا يظن القوم ما لا يليق بك{[26368]} .

ورابعها : قال الزمخشري : كان موسى -عليه السلام{[26369]}- رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة ، والخشونة ، والتصلب في كل شيء ، شديد الغضب لله ولدينه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلاً من دون الله بعد ما رأوا{[26370]} من الآيات العظام أن ألقى ألواح{[26371]} التوراة لما غلب عليه من الدهشة العظيمة غضباً لله وحميّة ، وعنَّف بأخيه وخليفته على قومه ، فأقبل عليه إقبال العدو{[26372]} {[26373]} .

قال ابن الخطيب{[26374]} : وهذا الجواب ساقط ، لأنه يقال : هَبْ أنه كان شديد الغضب ، ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلاً مكلفاً أم لا ؟

فإن بقي{[26375]} عاقلاً فالأسئلة باقية بتمامها ، أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه يغضب شديداً{[26376]} وذلك من جملة المعاصي . فإن{[26377]} قلتم : إنه في ذلك الغضب{[26378]} لم يبق عاقلاً ولا مكلفاً فهذا مما{[26379]} لا يرتضيه مسلم البتة ، فهذه أجوبة من لم يجوِّز الصغائر ، وأما من جوزها فالسؤال{[26380]} ساقط{[26381]} .

وجواب آخر : وهو{[26382]} أنَّ موسى -عليه السلام{[26383]}- لمَّا رجع إلى بني إسرائيل كان عالماً بأنهم قد فُتِنُوا ، وأن السامري قد أضلهم ، والدليل عليه قوله تعالى لموسى{[26384]} ( " إِنَّا قَدْ{[26385]} ) فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ " وإذا كان كذلك فموسى -عليه السلام{[26386]}- إنما جاء وهو عالم بحالهم ، فإنكاره على هارون لعلمه بحالهم قبل مجيئه إليهم لا لما أثبتوه في سؤالهم .


[26317]:أي أيُّ شيء منعك، وقيل: أيُّ شيء منعك وقت إضلالهم.
[26318]:في ب: وقيل فيها وجهان.
[26319]:انظر التبيان 2/901، البحر المحيط 6/273.
[26320]:حملا: سقط من ب.
[26321]:لا: سقط من ب.
[26322]:انظر البحر المحيط 6/273.
[26323]:عند قوله تعالى: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} [الأعراف: 12] انظر اللباب 4/11.
[26324]:ما بين القوسين سقط من ب.
[26325]:عند قوله تعالى: {قال ابن أمَّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} [الأعراف: 150].
[26326]:فصل: سقط من ب.
[26327]:في ب: وأخبارهم. وهو تحريف.
[26328]:في ب: وزجرا. وهو تحريف.
[26329]:انظر البغوي 5/453.
[26330]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/107 – 108.
[26331]:عليهم السلام: سقط من ب.
[26332]:في ب: الأول.
[26333]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26334]:أمر: سقط من الأصل.
[26335]:في ب: باتباعنا. وهو تحريف.
[26336]:في ب: أما.
[26337]:في ب: وكان.
[26338]:في ب: بتركه.
[26339]:في ب: فرعون. وهو تحريف.
[26340]:في ب: الثاني.
[26341]:في ب: بهارون. وهو تحريف.
[26342]:في ب: الثالث.
[26343]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26344]:في ب: برأسه وبلحيته.
[26345]:في ب: الرابع.
[26346]:في ب: وإن.
[26347]:في ب: جائز. وهو تحريف.
[26348]:قول: سقط من الأصل.
[26349]:لا تأخذ: سقط من ب.
[26350]:في ب: يفعل.
[26351]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26352]:في ب: فالجواب.
[26353]:في ب: الأول.
[26354]:في ب: عليهما الصلاة والسلام.
[26355]:في ب: جارنا وهو تحريف.
[26356]:في ب: لا يخرجونه.
[26357]:في ب: فالجواب.
[26358]:في ب: فيحتمل. وهو تحريف.
[26359]:في ب: مقررا.
[26360]:في ب: والجواب عن الثاني.
[26361]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26362]:كان: سقط من الأصل.
[26363]:عليه السلام: سقط من ب.
[26364]:أخذ: سقط من ب.
[26365]:في ب: وأخذ.
[26366]:في ب: أسفا. وهو تحريف.
[26367]:في ب: لا نأخذ. وهو تحريف.
[26368]:في ب: فيرمونك بقتلي كما رموك قبل ذلك.
[26369]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26370]:في ب: ما أراد. وهو تحريف.
[26371]:في النسختين: الألواح.
[26372]:الكشاف 2/445.
[26373]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/107- 108.
[26374]:في ب: شديد. وهو تحريف.
[26375]:في ب: فإن كان يبقى.
[26376]:في ب: شديد. وهو تحريف.
[26377]:في ب: وأن.
[26378]:الغضب: سقط من ب.
[26379]:في ب: ما.
[26380]:السؤال: سقط من ب.
[26381]:انظر الفخر الرازي 22/108.
[26382]:في ب: وذلك.
[26383]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26384]:في ب: لموسى عليه الصلاة والسلام.
[26385]:ما بين القوسين في ب: ولقد وهو تحريف. ونص القرآن "فإنّا".
[26386]:في ب: عليه الصلاة والسلام.