وقال له : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا } أشركوا .
قوله : " إذْ " منصوب ب " مَنَعَكَ " ، أي : أي شيء منعك وقت ضلالهم{[26317]} .
و " لاَ " فيها قولان{[26318]} :
أحدهما : أنَّها مزيدة ، أي ما منعك من أن تتبعني{[26319]} .
والثاني : أنَّها دخلت حملاً{[26320]} على المعنى ، إذ المعنى ما حملك على أن لا{[26321]} تتبعني ، وما دَعَاك إلى أن لا تتبعني ، ذكره عَلِيُّ بن عِيسَى{[26322]} .
وقد تقدم تحقيق هذين القولين في ( سورة الأعراف{[26323]} ، والقراءة في ){[26324]} ، " يَبْنَؤُمَّ " {[26325]} .
فصل{[26326]}
ومعنى تَتَّبِعني تتَّبع أمري ووصيَّتٍي ، يعني هلاَّ قاتلتهم ، وقد علمت أنِّي لو كنت فيهم لقاتلتهم على كفرهم ، وقيل : { أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } أي : ما منعك من اللحوق بي وإخباري{[26327]} بضلالهم فتكون مفارقتك إياهُم زَجْراً{[26328]} لهم عما أتوا { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي }{[26329]} .
تمسك الطاعنون{[26330]} في عصمة الأنبياء عليهم السلام{[26331]} بهذه الآية من وجوه :
أحدها{[26332]} : أنَّ موسى -عليه السلام{[26333]}- إما أن يكون قد أمر{[26334]} هارون باتباعه{[26335]} أو لم يأمره ، فإن أمره ، فإما{[26336]} أن يكون هارون قد اتبعه أو لم يتبعه ، فإن اتبعه كان كلام موسى لهارون معصيةً وذنباً ، لأن ملامة غير المجرم معصية .
وإن لم يتبعه كان هارون تاركاً للواجب فكان{[26337]} فاعلاً للمعصية ، وإن قلنا : إن موسى ما أمره باتباعه كانت ملامته إيَّاه بترك{[26338]} الاتباع معصية ، وعلى جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هارون{[26339]} .
وثانيها{[26340]} : قول موسى { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } استفهام على سبيل الإنكار ، فوجب أن يكون هارون قد عصاه ، وأن يكون ذلك العصيان منكراً ، وإلا كان موسى كاذباً ، وهو معصية ، وإذا فعل هارون{[26341]} لك فقد فعل المعصية .
ثالثها{[26342]} : قوله : { يا ابن أم لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } وهذا معصية ، لأن هارون -عليه السلام{[26343]}- قد فعل ما قدر عليه ، فكان الأخذ بلحيته وبرأسه{[26344]} معصية ، وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك معصية .
ورابعها{[26345]} : أن هارون قال : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } ، فإن{[26346]} كان الأخذ بلحيته ورأسه جائزاً{[26347]} كان قول{[26348]} هارون " لاَ تَأْخُذْ " {[26349]} منعاً له عما كان له أن يفعله{[26350]} ، فيكون ذلك القول معصية . وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى -عليه السلام{[26351]}- فاعلاً للمعصية .
والجواب{[26352]} عن الكل : أنَّ حاصل هذه الوجوه تمسكٌ بظواهر قابلة للتأويل ، ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز . وإذا ثبتت هذه المقدمة ففي الجواب وجوه :
أحدها{[26353]} : أنَّا وإن اختلفنا في جواز عصمة الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم . وإذا كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنع منه الآخر ، أعني : موسى وهارون -عليهما السلام{[26354]}- لعله كان أحدهما أولى ، والآخر كان ترك الأولى ، فلذلك فعله أحدهما وتركه الآخر . فإن قيل : هذا التأويل غير جائز ، لأن كل واحد منهما كان جازماً{[26355]} فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً ، وفعل المندوب وتركه لا يجزمونه{[26356]} قلنا{[26357]} : تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع ، فيحمل{[26358]} الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح ، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً{[26359]} .
وثانيها{[26360]} : أن موسى -عليه السلام{[26361]}- أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك الغضب ، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه وأصابعه ويفتل لحيته ، فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه ، لأنه كان{[26362]} أخاه وشريكه ، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب ، وأما قوله : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } فلا يمتنع أن يكون هارون – عليه السلام{[26363]} خاف من أن يتوهم بنو إسرائيل أنه منكر عليه ، فبين أنه معاون له ، ثم أخذ{[26364]} في شرح القصة فقال : { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ } .
وثالثها : أنَّ نبي إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى ، حتى إن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى : أنت قتلته ، فلما وعد الله موسى ، وكتب له في الألواح من كل شيء ، ثم رجع فرأى من قومه ما رأى ، أخذ{[26365]} برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون أن يَسْبِق إلى قلوبهم ما لا أصل له ، فقال إشفاقاً{[26366]} على موسى : { لاَ تَأْخُذْ{[26367]} بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } ، لئلا يظن القوم ما لا يليق بك{[26368]} .
ورابعها : قال الزمخشري : كان موسى -عليه السلام{[26369]}- رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة ، والخشونة ، والتصلب في كل شيء ، شديد الغضب لله ولدينه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلاً من دون الله بعد ما رأوا{[26370]} من الآيات العظام أن ألقى ألواح{[26371]} التوراة لما غلب عليه من الدهشة العظيمة غضباً لله وحميّة ، وعنَّف بأخيه وخليفته على قومه ، فأقبل عليه إقبال العدو{[26372]} {[26373]} .
قال ابن الخطيب{[26374]} : وهذا الجواب ساقط ، لأنه يقال : هَبْ أنه كان شديد الغضب ، ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلاً مكلفاً أم لا ؟
فإن بقي{[26375]} عاقلاً فالأسئلة باقية بتمامها ، أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه يغضب شديداً{[26376]} وذلك من جملة المعاصي . فإن{[26377]} قلتم : إنه في ذلك الغضب{[26378]} لم يبق عاقلاً ولا مكلفاً فهذا مما{[26379]} لا يرتضيه مسلم البتة ، فهذه أجوبة من لم يجوِّز الصغائر ، وأما من جوزها فالسؤال{[26380]} ساقط{[26381]} .
وجواب آخر : وهو{[26382]} أنَّ موسى -عليه السلام{[26383]}- لمَّا رجع إلى بني إسرائيل كان عالماً بأنهم قد فُتِنُوا ، وأن السامري قد أضلهم ، والدليل عليه قوله تعالى لموسى{[26384]} ( " إِنَّا قَدْ{[26385]} ) فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ " وإذا كان كذلك فموسى -عليه السلام{[26386]}- إنما جاء وهو عالم بحالهم ، فإنكاره على هارون لعلمه بحالهم قبل مجيئه إليهم لا لما أثبتوه في سؤالهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.