قوله : { فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } قرأ العامة بكسر الميم وفتح السين ، وهو مصدر لفاعل{[26499]} كالقِتَال من قَاتَلَ{[26500]} ، فهو يقتضي المشاركة ، وفي التفسير : لا تَمسَّنِي ولا أمسك{[26501]} وإن مَنْ{[26502]} مَسَّه أصابته الحمَّى .
وقرأ الحسن وأبُو حيوة وابن أبي عبلة ( وقعنب ){[26503]} {[26504]} بفتح الميم وكسر السين ، هكذا عبّر أبُو حيَّان{[26505]} ، وتبع فيه أبا{[26506]} البقاء{[26507]} . ومتى أخذنا{[26508]} بظاهر هذه العبارة لزم أن يقرأ " مَسِيس " بقلب الألف ياء لانكسار ما قبلها ، ولكن لم يُرْوَ ذلك فينبغي أن يكونوا أرادوا بالكسر الإمالة{[26509]} ، ويدل على ذلك ما قاله الزمخشري : وقُرئ " {[26510]} لاَ مَساس " بوزن ( فَجَارِ ) . ونحوه قولهم في الظباء : إنْ وَرَدَتِ المَاءَ فَلاَ عَبَابِ وإنْ فَقَدَتْهُ فَلاَ أَبَابِ{[26511]} ( فهي أعلام للمسَّةِ والعبَّة والأبَّةِ وهي المرة من الأبّ وهو ){[26512]} الطلب{[26513]} . ويدل عليه أيضاً قولُ صاحب اللوامح : هو{[26514]} على صورة ( نَزَالِ ، ونَظَارِ ){[26515]} من أسماء الأفعال بمعنى ( انزل ، وانظر ){[26516]} {[26517]} . فهذا أيضاً تصريح بإقرار الألف على حالها{[26518]} . ثم قال صاحب اللوامح : فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة{[26519]} معارف ، ولا تدخل عليها ( لا ) النافية التي تنصب النكرات نحو : لاَ مَالَ لَكَ . لكنه فيه{[26520]} نفي الفعل ، فتقديره : لا يكون منك مَسَاسٌ ، ومعناه النهي ، أي : لا تمسَّني{[26521]} وقال ابن عطيَّة : " لا مَسَاسِ " وهو معدول عن المصدر كفجَارِ ونحوه ، وشبهه{[26522]} أبو عبيدة{[26523]} وغيره{[26524]} بنزَالِ ودَرَاكِ ونحوه ، والشبه صحيح من حيث هي معدولات ، وفارقه من حيث أن هذه عدلت عن الأمر و " مَسَاسِ " وفَجَارِ عدلت عن المصدر ، ومن هذا قول الشاعر :
تَمِيمٌ كَرَهْطِ السَّامِرِيِّ وَقَوْلِهِ *** أَلاَ{[26525]} لاَ يُرِيدُ السَّامرِيُّ مَسَاسِ{[26526]} {[26527]}
فكلام الزمخشري وابن عطية يعطي{[26528]} أن " مَسَاسِ " على هذه القراءة معدول عن المصدر كفجار عن الفَجَرة . وكلام صاحب اللوامح يقتضي أنَّها معدولة عن فعل الأمر إلا ( أن يكون مراده ){[26529]} أنها معدولة كما أنَّ اسم الفعل معدول كما تقدم توجيه ابن عطيَّة لكلام أبي عبيدة .
معنى الكلام أنَّك ما دُمتَ حيَّا أن تقول : " لاَ مَسَاسَ " أي لا تخالط أحداً{[26530]} ولا يخالطك{[26531]} أحد . أو{[26532]} أمرِ موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقاربوه{[26533]} ، قال ابن عباس لا مَسَاسَ لَكَ ولِوَلَدِكَ . والمَسَاس من المماسّة معناه لا يَمَسُّ بعضُنا بعضاً ، فصار السامري يهيم في الأرض مع الوحوش والسباع لا يمس أحداً{[26534]} . ولا يمسه أحد ، عاقبه الله{[26535]} بذلك ، وكان إذا لقي أحدا يقول : لا مساس ، أي{[26536]} : لا تقربني{[26537]} ولا تَمَسَّنِي{[26538]} .
وقيل : كان إذا مَسَّ{[26539]} أحداً أو مسَّه أحدٌ حُمَّا جميعاً ، حتى إنَّ بقاياهم اليوم يقولون ذلك . وإذَا مسَّ أحدٌ من غيرهم أحداً منهم{[26540]} حُمَّا جميعاً في الوقت{[26541]} . وقال أبو مسلم يجوز أن يريد مسَّ النساء ، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله{[26542]} فلا{[26543]} يكون له من يؤنسه ، فيخليه الله من زينة الدنيا ( التي ذكرها ){[26544]} في قوله تعالى{[26545]} : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا }{[26546]} {[26547]} .
قوله : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } . الموعد بمعنى الوعد{[26548]} . وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو " تُخْلِفَهُ " بكسر اللام على البناء للفاعل{[26549]} ، أي تجيء إليه ولن تغيب عنه . والباقون بفتحها{[26550]} على البناء للمفعول{[26551]} وقرأ أبُو نُهَيْك فيما حكاه عنه ( ابن خالويه ){[26552]} بفتح التاء من فوق وضم اللام{[26553]} ، وحكى عنه صاحب اللوامح كذلك إلا أنه بالياء من تحت{[26554]} ، وابن مسعود والحسن بضم نون العظمة وكسر اللام{[26555]} فأما القراءة الأولى فمعناها : لن تَجِدَهُ{[26556]} مخلفاً كقولك{[26557]} : أحْمَدته وأحببته أي وجدته{[26558]} محموداً وحبَّاباً . وقيل المعنى : سيصل إليك ولن تستطيع الروغان ولا الحيدة عنه ، قال الزمخشري : وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته مخلفاً . قال الأعشى :
أثْوَى وَقصَّر لَيْلَهُ لِيُزَوَّدَا *** فَمَضَى وَأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا{[26559]} {[26560]}
ومعنى{[26561]} الثانية لَنْ يَخْلِفَ الله موعده الَّذِي وَعَدَك . وفتحُ اللام اختيار أبي عبيد ، كأنَّه قال موعداً حقاً لا خُلْفَ{[26562]} فيه{[26563]} ، ولن يُخلِفَ الله ، والمعنى أن الله{[26564]} يكافئك على فعلك ولا تفر منه . وأما قراءتا أبي نُهَيْك فهما من خلفهُ يخلفُهُ إذا جاء بعده{[26565]} أي الموعد{[26566]} الذي لك لا يدفع قولَك الذي تقوله{[26567]} ، وهي مشكلة ، قال أبو حاتم : لا نعرف لقراءة أبي نُهَيْك مذهباً{[26568]} . وأما قراءة ابن مسعود فأسند الفعل فيها{[26569]} إلى الله تعالى ، والمفعول الأول محذوف ، أي لن ( يخلفكه ){[26570]} {[26571]} .
قوله : " ظَلْتَ " العامَّة على فتح الظاء وبعدها لام ساكنة . وابن مسعود وقتادة والأعشى بخلاف عنه وأبو حَيْوَة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر كسر الظَّاء{[26572]} ، وروي{[26573]} عن ابن يَعْمَر ضمها{[26574]} أيضاً{[26575]} . وأبيّ والأعمش في الرواية الأخرى{[26576]} " ظَلِلْتَ " بلامين أولهما مكسورة{[26577]} فأمَّا قراءة العامة{[26578]} ففيها حذف أحد{[26579]} المِثلين وإبقاء الظاء على حالها من حركتها ، وإنما حذف تخفيفاً ، وعده سيبويه في الشاذ{[26580]} ، يعني شذوذ قياس لا شذوذ استعمال ، وعدَّ معه ألفاظاً{[26581]} أُخَر نحو مَسْتُ وَأَحَسْتُ{[26582]} . كقوله :
أَحَسْنَ بِهِ ( فَهُنَّ إِلَيْكَ شُوسُ{[26583]} ){[26584]} *** . . .
وعد ( ابن الأنباري ){[26585]} هَمْتُ في هَمَمْتُ ، ولا يكون هذا الحذف إلا إذا سكنت لام الفعل{[26586]} . وذكر بعض المتأخرين أن هذا الحذف منقاس في كل مضاعف العين واللام سكنت لمه وذلك في لغة سليم{[26587]} .
قال شهاب الدين : والذي أقوله إنه متى التقى التضعيف المذكور والكسرة نحو ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذف . وهل يجري الضم مجرى الكسر في ذلك ؟ فالظاهر أنه يجري بل بطريق الأولى ، لأن الضم أثقل من الكسر نحو غُصْنَ يا نسوة أي اغضُضْنَ أبصاركنّ{[26588]} ذكره ابن مالك{[26589]} .
وأما الفتح فالحذف فيه{[26590]} ضعيف نحو قَرْنيا نسوة في المنزل ، ومنه أحد توجيهي قراءة " وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ " {[26591]} كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وأما الكسر فوجهه أنه نقل كسرة اللام إلى الفاء بعد سلبها حركتها ليدل عليها .
وأما الضمُّ فيحتمل أن يكون جاء في لغة على فَعَل يَفْعَلُ بفتح العين في الماضي وضمها في المضارع ثم نقلت كما تقدم ذلك في الكسر . وأما " ظَلِلْتُ " {[26592]} بلامين فهذه هي الأصل ، وهي منبهة على غيرها . و " عَاكِفاً " خبر " ظَلَّ ؟ .
قوله : { لَنُحَرِّقَنَّهُ } جواب قسم محذوف ، أي : والله لنحرُقَنَّهُ ، والعامة على ضم النون وكسر الراء مشددو من حرَّقَهُ يحرَّقه بالتشديد{[26593]} . وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها من حرقه بالنار .
والثاني : أنه من حرق ناب البعير إذا وقع عضُّ أنيابه على بعض ، والصوت المسموع منه يقال له{[26594]} الصَّريف ، والمعنى لَنَبْرُدُنَّه بالمِبْرَدِ بَرداً{[26595]} يسحقه به كما يفعل البعير بأنيابه بعضها على بعض . وقرأ الحسنُ وقتادة وأبو جعفر " لَنَحْرُقَنَّهُ " بضم النون وسكون الحاء وكسر الراء من أحرق رباعياً{[26596]} . وقرأ ابن عباس{[26597]} وحميد وعيسى وأبو جعفر " لَنُحْرِقَنَّهُ " كذلك إلا أنه بضم الراء{[26598]} ، فيجوز أن يكون من حرَّقَ وأحْرَقَ بمعنى كأنزل ونزَّل . وأما القراءة الأخيرة فبمعنى لَنَبرُدَنَّهُ بالمِبْرَدِ{[26599]} .
قوله : { لَنَنْسِفَنَّهُ }{[26600]} العامة على فتح النون الأولى وسكون الثانية{[26601]} وكسر السين خفيفة . وقرأ عيسى بضم ( السين{[26602]} ){[26603]} . وقرأ ابن مقسّم بضم النون الولي وفتح الثانية وكسر السين مشدّدة{[26604]} . والنَّسف التفرقة والتذرية ، وقيل : قَلْع{[26605]} الشيء من أصله ، يقال : نَسَفَهُ ينسِفُه بكسر السين وضمها في المضارع ، وعليه القراءتان{[26606]} والتشديد للتكثير .
معنى إحراقه على قراءة التشديد قال السُّدِّي : أمر موسى بذبح العجل فذبح وسال منه الدم ، ثم أُحرق ونُسِفَ رماده{[26607]} . وهذا يدل على أنه صار لحماً ودماً ، لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار{[26608]} . وفي حرف ابن مسعود : " لَنَذْبَحَنَّهُ ولَنَحْرِقنَّهُ " {[26609]} . وعلى{[26610]} قراءة التخفيف أي لَنَبْرُدَنَّه بالمِبْرَد ، وهذه القراءة تدل على أنه لم ينقلب لحماً ودماً ، فإن ذلك لا يُبْرَدُ بالمِبْرَدِ{[26611]} ، ومنه قيل للمبرد : المحرق .
وقال السَّدي : أخذ موسى العجل ، ثم ذبحه{[26612]} ثم حرقه ، ثم بُرِدت عظامه بالمِبرد ، ثم ذرَّاهُ في اليَمِّ{[26613]} .