قوله : " بَصُرْتُ " يقال : بَصُر الشيء ، أي : علمه ، وأبصره أي : نظر إليه كذا قال الزجاج{[26430]} .
وقال غيره : بصر بالشيء وأبصره بمعنى : علمه{[26431]} . والعامة علم ضم الصاد في الماضي ومضارعه وقرأ الأعمش وأبو السمال " بَصِرتُ " بالكسر " يَبْصَرُوا " بالفتح{[26432]} وهي لغة{[26433]} .
وعمرو{[26434]} بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين{[26435]} ، أي أُعْلِمْتُ بما لم يعلموا به ، وقرأ الأخوان " تَبْصَرُوا " خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء }{[26436]} .
حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ{[26437]} *** . . .
والباقون بالغيبة من قومه{[26438]} والعامة على فتح القاف من " قَبْضَة " وهي المرة من القبض{[26439]} .
قال الزمخشري : وأما القبضة فالمرة من القبض ، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر{[26440]} .
قال شهاب الدين : والنحاة يقولون : إن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء تقول : هذه حلةٌ نسجُ اليمن ، ولا تقول{[26441]} : نسجة اليمن ، ويعترضون بهذه الآية{[26442]} ، ثم يجيبون بأن الممنوع إنما هو التاء الدالّة على التحديد لا على مجرد{[26443]} التأنيث ، وكذلك قوله{[26444]} : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ }{[26445]} {[26446]} .
وقرأ الحسن " قُبْضَةٌ " بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغَة في معنى المغروف والمقبوض{[26447]} . وروي عنه " قُبْصَة " بالصاد المهملة{[26448]} . والقَبْض بالمعجمة بجمع الكف ، وبالمهملة بأطراف الأصابع ، وله نظائر كالخضم وهو الكل بجميع الفم{[26449]} والقضم{[26450]} بمقدمه{[26451]} ، والقضم{[26452]} قطع بانفصال والفصم بالفاء باتصال{[26453]} ، وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة{[26454]} . وأدغم ابن محيصن الضاد المعجمة في تاء المتكلم مع إبقائه الإطباق{[26455]} . وأدغم الأخوان{[26456]} وأبو عمرو الذال في التاء من " فَنَبَذْتُهَا{[26457]} " .
لما أجاب هارون أخاه موسى بالجواب المتقدم أقبل موسى على السامريّ وقال له : " مَا خَطْبُكَ " أي : ما حملَكَ على ما فعلتَ ؟ فقال : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أي : رأيت ما لم يروا بنو إسرائيل{[26458]} وعرفت ما لم يعرفوا .
قال ابن عباس : علمتُ ما لم يعلموا ، ومنه قولهم : رجل بصيرٌ ، أي : عالم قاله أبو عبيدة{[26459]} وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام فأخذ من موضع حافر دابته قبضةٌ من تراب ، فقال : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول }{[26460]} .
وقرأ ابن مسعود : " مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ " والمراد بالرسول جبريل - عليه السلام - ( عند عامَّة المفسرين ، وأراد بأثره التراب الذي ){[26461]} أخذه{[26462]} من موضع حافر دابته لما{[26463]} رآه يوم فلق البحر . وعن عليٍّ - رضي الله عنه- أنَّ جبريل - عليه السلام - لمَّا نزل ليذهب موسى إلى الطور أبصره السَّامريّ من بين الناس{[26464]} .
واختلفُوا{[26465]} في أنه كيف اختص{[26466]} السامريُّ برؤية جبريل ومعرفته بين الناس ؟
فقال ابن عبَّاس في رواية الكلبي : إنَّما عرفه ، لأنه رآه في صغره ، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل ، فكانت المرأة إذا ولجتْ طرحتْ ولدَها حيث لا يشعر به آل فرعون ، فيأخذ الملائكة الولدان ويربونَهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس ، فكان السامريُّ ممن أخذه جبريل - عليه السلام- ، وجعل كفَّ نفسه في فيه وارتضع منه اللبن والعسل{[26467]} ليربيه- فلما{[26468]} قضي على يديه من الفتنة فلم يزل يختلف إليه{[26469]} حتى عرفه .
قال ابن جريج : فعل هذا قوله : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } يعني رأيت ما لم يروه . ومَنْ فسّر الإبصار بالعلم فهو صحيح ، ويكون المعنى علمتُ أن تراب فرس جبريل - عليه السلام- له خاصة الإحياء ، وذلك أنه كان كلما رفع الفرس يديه أو رجليه في مشيه على الطريق اليبس يخرج تحته النبات في الحال .
وقال أبُو مسلم : ليس في القرآن تصريح بما ذكره المفسرون فهنا{[26470]} وجه آخر ، وهو أن يكون المرادُ بالرسول موسى - عليه السلام{[26471]}- ، وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل : إنَّ فلاناً يقفُوا أثرَ فلان يقتص{[26472]} أثرَه إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير أنَّ موسى - عليه السلام{[26473]}- لمَّا أقبل على السامريِّ باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العَجْل فقال : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أي عرفت أن{[26474]} الذي أنتم عليه ( ليس بحق ){[26475]} ، وقد كنت قبضتُ قبضةٌ من أثرك أيُّها الرسولُ أي : شيئاً من دينك ، فنبذته أي : طرحته ، فعند ذلك أعلمه موسى - عليه السلام{[26476]}- بما له من العذاب في الدُّنيا والآخرة ، وإنما أورد بلفظ الإخبار{[26477]} عن غائب كما يقول الرجل{[26478]} لرئيسه وهو مواجه له : ما يقولُ الأميرُ في كذا ، أو{[26479]} بماذا يأمرُ الأمير . وأما ادِّعاؤُه أنَّ موسى{[26480]}- عليه السلام{[26481]}- رسول{[26482]} مع جحده وكفره فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله : { يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }{[26483]} وإن لم يؤمنوا بالإنزال{[26484]} .
قال ابن الخطيب : وهذا{[26485]} الذي ذكره أبو مسلم ( ليس فيه إلاَّ أنَّه مخالف للمفسرين ، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه :
أحدها : أن جبريل - عليه السلام{[26486]} - ليس معهوداً باسم{[26487]} الرسول ، ولم يجز له فيما تقدم ذكر حتى تجعل{[26488]} لام التعريف إشارة إليه ، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب .
وثانيها{[26489]} : أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول والإضمار خلاف الأصل .
وثالثها{[26490]} : أنه لا بد من التعسف في بيان أنَّ السامريّ كيف اختصَّ من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته ، ثم كيف عرف أن تراب حافر دابته يؤثر هذا الأثر ، والذي ذكروه من أن جبريل - عليه السلام- هو الذي ربَّاه فبعيد ، لأن السامريِّ إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله{[26491]} عرف قطعاً أنَّ موسى - عليه السلام- نبيٌّ صادقٌ ، فكيف يحاول الإضلال ، وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأنَّى ينفعه كون جبريل - عليه السلام - ( مربيّاً له ){[26492]} حال الطفولية في حصول تلك المعرفة .
ورابعها{[26493]} : أنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة على ترابٍ هذا شأنه لكان لقائل{[26494]} أن يقول : فلعل{[26495]} اطلع أيضاً على شيء آخر يشبه ذلك ، فلأجله{[26496]} أتى بالمعجزات ، فرجع حاصله إلى سؤال من يطعن في المعجزات ويقول : لِمَ لا يجوز أن يقال : إنَّهم أتوا بهذه المعجزات لاختصاصهم بمعرفة بعض الأدوية التي لها خاصية أن يفيد حصول تلك المعجزة ، وحينئذ يسند باب المعجزات بالكلية{[26497]} .
ثم قال : { وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي زينت ، والمعنى : فعلتُ ما دعتني إليه نفسي ، وسولت مأخوذة من السؤال{[26498]} .