اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَدٗا فَلَا تَدۡخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤۡذَنَ لَكُمۡۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ٱرۡجِعُواْ فَٱرۡجِعُواْۖ هُوَ أَزۡكَىٰ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ} (28)

وأيضاً قوله : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا ( حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ }{[34419]} ){[34420]} فمنع الدخول إلا مع الإذن ، فدل على أن الإذن شرط في إباحة الدخول في الآية الأولى .

وإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من الإذن أو ما يقوم مقامه ، لقوله عليه السلام{[34421]} «إذا دُعِيَ أحدُكُم فجاء مع الرسول فإنَّ ذلك له إذن »{[34422]} .

وقال بعضهم : إن من جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان{[34423]} . واعلم أن ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقاً سواء كان الآذن{[34424]} صبياً أو امرأة أو عبداً أو ذمياً ، فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة ، وكذلك قبول إحضار{[34425]} هؤلاء في الهدايا ونحوها .

فصل

ويستأذن على المحارم ، «لما روي أن رجلاً سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : «أأستأذن على أختي ؟ » فقال عليه السلام{[34426]} : «نَعَمْ ، أتحب أن تراها عريانة ؟ » {[34427]} وسأل رجل حذيفة : «أأستأذن على أختي ؟ » فقال : «إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك » . ولعموم قوله : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ }{[34428]} [ النور : 59 ] إلا أنَّ ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوه {[34429]} .

فصل

إذا اطلع{[34430]} إنسان في دار إنسان بغير إذنه ففقأ عينه فهي هدر ، لقوله عليه السلام{[34431]} : «مَن اطَّلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه »{[34432]} .

وقال أبو بكر الرازي{[34433]} : هذا الخبر ورد على خلاف قياس الأصول ، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامناً ، وكان عليه القصاص إن كان عامداً ، والأرش{[34434]} إن كان مخطئاً ، والداخل قد اطَّلع وزاد على الاطلاع ، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق ، فإن صحَّ فمعناه : من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم فمنع فلم يمتنع فذهب عينه في حال الممانعة فهي هدر ، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان{[34435]} يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى : «العَيْن بِالعَيْنِ » إلى قوله : «والجُرُوحَ قِصَاصٌ »{[34436]} .

وأجيب بأن التمسك بقوله : «العَيْنُ بِالعَيْنِ » ضعيف ، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة ، فإنه لو كانت مستحقة القصاص ، فلم قلت : إن من اطَّلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة ؟

وأما قوله : إنه لو دخل لم يجز فقء عينه ، فكذا إذا نظر .

والفرق بينهما أنه إذا دخل ، علم القوم بدخوله عليهم ، فاحترزوا عنه وتستروا ، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين{[34437]} بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه ، فلا يبعد في حُكْم الشرع أن يبالغ هنا في الزجر حسماً لهذه المفسدة .

وأيضاً فردّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا القدر من الكلام ليس جائزاً{[34438]} .

فصل

إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق ، أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان ؟ فقيل : كل ذلك مستثنى بالدليل{[34439]} .

فأما السلام فهو من سنة{[34440]} المسلمين التي أمروا بها ، وهو تحية أهل الجنة ، ومجلبة للمودة ، ونافٍ للحقد والضغائن .

قال عليه السلام{[34441]} : «لمَّا خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال له الله : يرحمك ربك يا آدم ، اذهب إلى هؤلاء الملائكة ( وهم ){[34442]} ملأ منهم جلوس فقل : السلام عليكم ، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال : هذه تحيتك وتحية ذريتك »{[34443]} وعن عليّ بن أبي طالب{[34444]} قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «حق المسلم على المسلم ست : يسلِّم عليه إذا لقيه ، ويجيبه إذا دعاه ، وينصح له بالغيب ، ويشمِّته إذا عطس ، ويعوده إذا مرض ، ويشهد{[34445]} جنازته إذا مات » {[34446]} .

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن سرَّكم أن يسل{[34447]} الغل من صدروكم فأفشوا السلام بينكم »{[34448]} .

قوله : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } .

أي : إن فعل ذلك خير لكم وأولى بكم من الهجوم بغير إذن «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي : لتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا } أي : فإن لم تجدوا في البيوت «أَحَداً » يأذن لكم في دخولها { فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ } لجواز أن يكون هناك أحوال مكتومة ، { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا } وذلك أنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار ، فكذلك الوقوف على الباب قد يكرهه ، فلا جرم كان الأولى له أن يرجع { هُوَ أزكى لَكُمْ } أي : الرجوع هو أطهر وأصلح لكم{[34449]} .

قال قتادة : إذا لم يؤذن له فلا يقعد على الباب ، فإنَّ للناس حاجات ، وإذا حضر فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز .

كان ابن عباس يأتي الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ( حتى يخرج ){[34450]} ولا{[34451]} يستأذن ، فيخرج الرجل ويقول : «يا ابنَ عم رسول الله لو أخبرتني » فيقول : هكذا أمرنا أن نطلب العلم . وإذا وقف فلا ينظر من شق الباب إذا كان الباب مردوداً لما روي أن رجلاً اطلع على النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستر الحجرة ، وفي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - مدراء ، فقال{[34452]} : «لو علمتُ أن هذا ينظرني حتى آتيه لَطَعْنتُ بالمدراء في عينه ، وهل جعل الاستئذان إلا من أجل البصر »{[34453]} .

قوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } أي : من الدخول بالإذن وغير الإذن .

ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير مسكونة فقال : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } .


[34419]:[النور: 28].
[34420]:ما بين القوسين في ب: في الآية الأولى {حتى يؤذن لكم}.
[34421]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34422]:أخرجه أبو داود (أدب) 5/376.
[34423]:انظر الفخر الرازي 23/199.
[34424]:الآذان: سقط من ب.
[34425]:في الأصل: إخبار.
[34426]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34427]:أخرجه الإمام مالك في الموطأ (استئذان) 2/963، وفيه (أستأذن على أمي).
[34428]:[النور: 59].
[34429]:انظر الفخر الرازي 23/200.
[34430]:في ب: طلع.
[34431]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34432]:أخرجه مسلم (الآداب) 3/1699، الترمذي (استئذان) 4/164، النسائي (قسامة) 8/61، أبو داود 5/366، أحمد 5/266، 385، 414.
[34433]:هو الحافظ نيسابور أحمد بن علي بن الحسين بن شهريار، صاحب التصانيف، روى عنه رفيقه أبو عبد الله بن الأخرم، وأبو علي الحافظ، وغيرهما، مات سنة 315 هـ. تذكره الحفاظ 3/788 – 789.
[34434]:الأرش: هو دية الجراحات.
[34435]:في النسختين: جاني.
[34436]:من قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} [المائدة: 45].
[34437]:عالمين: سقط من ب.
[34438]:انظر الفخر الرازي 23/ 199 – 200.
[34439]:انظر الفخر الرازي 23/201.
[34440]:في ب: نه. وهو تحريف.
[34441]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34442]:وهم: تكملة.
[34443]:انظر الفخر الرازي 23/201.
[34444]:في ب: علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
[34445]:في ب: ويشيع.
[34446]:أخرجه مسلم (سلام) 4/1705، الترمذي (الآداب) 4/176 – 177، ابن ماجه (جنائز) 1/461.
[34447]:السل: انتزاع الشيء وإخراجه في رفق.
[34448]:انظر الفخر الرازي 23/201.
[34449]:المرجع السابق.
[34450]:ما بين القوسين سقط من ب.
[34451]:في ب: فلا.
[34452]:في ب: فقالوا.
[34453]:أخرجه البخاري (استئذان) 4/ 88، مسلم (أدب) 3/1698 الترمذي (استئذان) 4/165، الدارمي (ديات) 2/197 – 198، النسائي (قسامة) 8/60 – 61.