قوله تعالى{[34660]} : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } .
لما أمر تعالى بغض الأبصار وحفظ الفروج بيَّن{[34661]} بعده أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل ، ثم ذكر بعد ذلك طريق{[34662]} الحِلّ فقال : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ }{[34663]} . الأيامى{[34664]} : جمع أيِّم ب{[34665]} «زنة » : «فَيْعل » ، يقال منه : آم يَئيم كباع يبيع ، قال الشاعر :
كُلُّ امْرِئٍ سَتَئيم مِن *** هُ العِرْسُ أَوْ مِنْهَا يَئِيمُ{[34666]}
وقياس جمعه : أَيائِم ، كسيِّد وسَيَائِد . و «أَيامى » فيه وجهان :
أظهرهما من كلام سيبويه أنه جمع على «فَعَالَى » غير مقلوب ، وكذلك «يَتَامَى »{[34667]} .
وقيل : إن الأصل «أَيَايم » و «يَتَايم » و «يَتِيم » ( فقلبا ){[34668]} {[34669]} .
والأَيِّم : ( من لا زوج له ) {[34670]} ذكراً كان أو أنثى{[34671]} . قال النضر بن شميل : الأَيِّمُ{[34672]} في كلام العرب : كل ذكر لا أنثى معه ، وكل أنثى لا ذكر معها . وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك ، يقول : زوجوا أياماكم بعضكم من بعض{[34673]} . وخصَّه أبو بكر الخفَّاف{[34674]} بمن فقدت زوجها ، فإطلاقه على البِكْر مجاز{[34675]} . وقال الزمخشري : «تأيَّما إذا لم يتزوجا بِكرين كانا أو ثيّبين » ، وأنشد :
فَإِنْ تَنْكِحي أَنْكِح وإِنْ تَتَأَيَّمِي *** وَإِنْ كُنْتُ أَفْتَى مِنْكُم أَتَأَيَّمُ{[34676]}
وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اللَّهم إني أعوذ بك من العَيْمَة والغَيْمَة والأَيْمَة والكَرم والقَرَم »{[34677]} . العَيْمة - بالمهملة : شدة شهوة اللبن{[34678]} . وبالمعجمة : شدة العطش{[34679]} . والأَيْمَة : طول العزبة{[34680]} . والكَرَم : شدة شهوة الأكل{[34681]} والقَرَم : شدة شهوة اللحم{[34682]} و «منكم » حال . وكذا «مِنْ عِبادكُمْ » .
فصل{[34683]}
قوله : «وَأَنكحوا » أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، فدلّ على أن الولي يجب عليه تزويج موليته ، ( وإذا ثبت هذا وجب ألا يكون النكاح إلا بولي ، لأن كل ما وجب على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية ){[34684]} ، ولأن المولية لو فعلت ذلك لفوَّتتْ على الولي تمكنه من أداء هذا الواجب ، وأنه غير جائز ، ولم تطابق قوله عليه السلام{[34685]} : «إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزوِّجُوهُ ، إلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَة فِي الأَرْضِ »{[34686]} . قال أبو بكر الرازي : هذه الآية وإن اقتضت الإيجاب ، إلا أنه أجمع السلف على أنه لا يراد{[34687]} الإيجاب ، ويدل عليه أمور :
أحدها : أنه لو كان ذلك واجباً لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف مستفيضاً ، لعموم الحاجة إليه ، فلما علمنا أن سائر الأعصار كانت فيهم أيامى من الرجال والنساء ولم ينكروا ذلك ، ثبت أنه لم يرد{[34688]} الإيجاب .
وثانيها : أجمعنا على أن الأَيِّم الثيّب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه .
وثالثها : اتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده ، وهو معطوف على الأيامى ، فدل على أنه غير واجب في الجميع ، بل ندب في الجميع{[34689]} .
ورابعها : أن اسم الأَيَامَى يشمل الرجال والنساء ، وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم ، كذلك في النساء .
والجواب : أن جميع ما ذكرته تخصيصات تطرقت إلى الآية ، والعام بعد التخصيص حجة ، فوجب{[34690]} إذا التمست المرأة{[34691]} الأيم من الولي التزويج وجب ، وحينئذ ينتظم الكلام .
قال الشافعي : الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها ، لأن الآية والحديث يدلان على أمر الوالي بتزويجها . ولو قيام{[34692]} الدلالة على أنه تزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها أيضا لعموم الآية{[34693]} .
الناس في النكاح قسمان{[34694]} :
الأول : من تتوقُ نفسُه للنكاح ، فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبته سواء كان مقبلاً على العبادة أو لم يكن ، ولكن{[34695]} لا يجب ، وإن لم يجد أهبته يكسر شهوته بالصوم لقوله عليه السلام{[34696]} : «يَا مَعْشَرَ الشَّبابِ ، مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُم البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأحْصَنُ للفَرْجِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ فَإِنَّهُ{[34697]} لَهُ وِجَاءٌ »{[34698]} .
الثاني : من لا تتوق نفسه للنكاح{[34699]} ، فإن كان لعلة من كِبَر أو مرض أو عجز فيكره له ، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام به ، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة .
وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له النكاح ، لكن الأفضل أن يتخلّى للعبادة ، لأن الله تعالى مدح يَحْيَى بكونه «حَصُوراً »{[34700]} ، والحَصُور : الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهنّ ، ولا يقال : هو الذي لا يأتي النساء مع العجز ؛ لأن مدح الإنسان بما يكون عيباً غير جائز ، وإذا كان مدحاً في حق يحيى وجب أن يشرع في حقنا ، لقوله تعالى : «فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ »{[34701]} ، ولا يحمل الهدى على الأصول ، لأن التقليد فيها غير جائز ، فوجب حَمْلُه على الفروع . وقال عليه السلام{[34702]} : «اعْلمُوا أَن خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلاَةَ »{[34703]} وقال عليه السلام{[34704]} : «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي قرَاءَةُ القُرْآنِ »{[34705]} . وقال أبو حنيفة : النكاح أفضل لقوله عليه السلام{[34706]} : «أحبُّ المباحات إلى الله النكاح »{[34707]} لأن{[34708]} النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا ، فيكون دفعاً للضرر عن النفس . والنافلة : جلب نفع . ودفع الضرر أولى من جلب النفع . وأجيب بأن يحمل الأحب على الأصلح في الدنيا ، لئلا يقع التناقض بين كونه أحبّ وبين كونه مباحاً . والمباح : ما يستوي طرفاه في الثواب والعقاب .
والمندوب : ما ترجّح وجوده على عدمه ، فتكون العبادة أفضل . وبقية المباحث مذكورة في كتب الفقه{[34709]} .
قوله : «مِنْكُم » أي : زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم .
وقيل : أراد الحرية والإسلام{[34710]} .
وقوله : { والصالحين{[34711]} مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } ظاهره يقتضي الأمر بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين . وخصَّ الصالحين بالذكر ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن الصالحين منهم هم الذين مواليهم يشفقون عليهم وينزلونهم{[34712]} منزلة الأولاد في المودَّة ، فكانوا مظنة للتوصية والاهتمام بهم . ومن ليس بصالح فحاله على العكس من ذلك .
وقيل : أراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها ، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج . وقيل : أراد بالصلاح ألا تكون صغيرة{[34713]} لا تحتاج إلى النكاح{[34714]} .
ظاهر الآية يدل على أنّ العبد لا يتزوج نفسه ، وإنما يتولى تزويجه مولاه ، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه ، فيكون توليه بإذنه بمنزلة تولي السيد . فأما{[34715]} الإماء فإنَّ المولى يتولى تزويجهنَّ خصوصاً على قول من لا يجوِّز{[34716]} النكاح إلا بوليّ{[34717]} .
الولي شرط في صحة النكاح لقوله عليه السلام{[34718]} : «لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَليّ »{[34719]} .
وقال عليه السلام{[34720]} : «أيُّمَا امرأةٌ نكحَتْ بغير إذن وليِّها فنكاحُها باطلٌ » ، فإن أصابها فلها المهر بما استحلَّ من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان{[34721]} وليُّ ( من لا وليّ له ){[34722]} {[34723]} . قوله : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } الأصح{[34724]} أن هذا ليس وعداً بإغناء من يتزوج ، بل المعنى : لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ، أو فقر من تريدون تزويجها ، ففي فضل الله ما يغنيهم ، والمال غادٍ ورائح ، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح ، فهذا معنى صحيح ، وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغنى حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف{[34725]} . وروي عن قدماء الصحابة ما يدلّ على أن ذلك وعد ، فروي عن أبي بكر قال : «أطيعُوا اللَّهَ فيما أمركُم به من النكاح ينجز لكم ما وَعَدكُم من الغِنَى » . وعن عمر وابن عباس مثله . وشكى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحاجة ، فقال : «عليك بالباءة »{[34726]} ، وقال طلحة بن مصرف : تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم ، وأوسع في أخلاقكم{[34727]} ويزيد الله في{[34728]} مروءتكم . فإن قيل : فنحن نرى من كان غنياً فتزوج فيصير فقيراً ؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة في قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ }{[34729]} [ التوبة : 28 ] والمطلق يحمل على المقيد .
وثانيها : أن اللفظ وإن كان عامّاً إلا أنه يخصّ بعض{[34730]} المذكورين دون البعض ، وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون{[34731]} بما يملكون .
وثالثها : المراد بالغنى : العفاف ، فيكون الغنى هنا معناه : الاستغناء بالنكاح عن الوقوع في الزنا{[34732]} .
استدل بعضهم بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان ، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم ، فاقتضى أن العبد قد يكون فقيراً وغنياً ، وذلك يدل على الملك ، فثبت أنهما يملكان . والمفسرون تأولوه على الأحرار خاصة ، فقالوا : هو راجع إلى الأيامى ، وإن فسرنا الغنى بالعفاف{[34733]} سقط استدلالهم{[34734]} .
وقوله : { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي يوسع عليهم من أفضاله ، «عَلِيمٌ » بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق{[34735]} .