قوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الآية . الغض : إطباق الجفن بحيث يمنع الرؤية . قال :
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ *** فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبا{[34469]}
أحدها : أنها للتبعيض ، لأنه يُعْفَى عن الناظر أول نظرة تقع من غير قصد{[34470]} .
والثاني : لبيان الجنس{[34471]} ، قاله أبو البقاء{[34472]} . وفيه نظر من حيث إنَّه لم يَتَقَدَّم مُبهمٌ يكونُ مُفَسَّراً ب «مِنْ » .
الثالث : أنها لابتداء الغاية ، قاله ابن عطية{[34473]} .
الرابع : قال الأخفش : إنها مزيدة{[34474]} .
قال الأكثرون : المراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل{[34475]} .
فإن قيل : كيف دخلت «مِنْ » في غض البصر دون حفظ الفرج ؟
فالجواب : أن ذلك دليل على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر{[34476]} إلى شعورهن وصدورهن ، وكذا الجواري المستعرضات ، وأما أمر الفروج فمضيق .
وقيل : معنى { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : ينقصوا من نظرهم بالبصر إذا لم يكن من عمله فهو مغضوض .
وعلى هذا «مِنْ » ليست زائدة ، ولا هي للتبعيض ، بل هي صلة للغض ، يقال : غضضت من فلان : إذا نقصت منه{[34477]} .
أما الرجل مع الرجل ، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا العورة ، وهي ما بين السرة والركبة ، والسرة والركبة ليسا بعورة .
وعند{[34478]} أبي حنيفة : الركبة عورة .
وقال مالك : «الفخذ ليس بعورة » .
وهو مردود بقوله عليه السلام{[34479]} : «غَطِّ فَخَذَكَ فإنَّهَا مِنَ العَوْرَةِ »{[34480]} .
وقوله لعلي : «لا تُبْرِزْ فَخذَكَ ، وَلاَ تَنْظُر إلى فَخِذِ حَيٍّ وَلاَ مَيِّتٍ »{[34481]} .
فإن كان أمر ولم يحل النظر إلى وجهه ، ولا إلى شيء من سائر بدنه بشهوة ، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش لقوله عليه السلام{[34482]} : «لا يُفضي الرجل إلى الرجل في فراش واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد »{[34483]} . وتكره معانقة الرجل للرجل وتقبيله إلا لولده شفقة{[34484]} لما روي عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له ؟ قال : لا . قال : أيلزمه ويقبله ؟ قال : لا . قال : أفيأخذ يده فيصافحه ؟ قال : نعم {[34485]} {[34486]} .
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المكاعمة{[34487]} والمكامعة{[34488]} ، وهي : معانقة الرجل للرجل وتقبيله .
وأما عورة المرأة مع المرأة ، فهي كالرجل مع الرجل فيما ذكرنا سواء .
والذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة ؟ فقيل : هي كالمسلمة مع المسلمين .
والصحيح أنه لا يجوز لها ( النظر ) {[34489]} لأنها أجنبية في الدين لقوله تعالى : «أَوْ نِسَائِهِنَّ »{[34490]} وليست الذمية من نسائنا{[34491]} .
وأما عورة المرأة مع الرجل ، فإما أن تكون ( أجنبية ، أو ذات محرم ، أو مستمتعة . فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة . فإن كانت ) {[34492]} حرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين ، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والعطاء ، والمراد : الكف إلى الكوع{[34493]} . واعلم أن النظر إلى وجهها ينقسم ثلاثة أقسام :
إما ألا يكون فيه غرض ولا فتنة ، وإما أن يكون فيه غرض ولا{[34494]} فتنة ، وإما أن يكون لشهوة . فإن كان لغير غرض فلا يجوز النظر إلى وجهها ، فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } . وقيل : يجوز مرة واحدة إذا لم تكن فتنة ، وبه قال أبو حنيفة . ولا يجوز تكرار النظر لقوله عليه السلام{[34495]} : «لا تُتْبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة »{[34496]} .
وقال جابر : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة ، فأمرني أن أصرف بصري{[34497]} . فإن كان فيه غرض ولا فتنة ، وهو أمور :
أحدها : أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيْها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله أنْ يتزوج امرأة من الأنصار : «انظُرْ إليْهَا ، فإنَّ في أعين الأنصار شيئاً »{[34498]} وقال عليه السلام{[34499]} : «إذا خطب أحدُكُم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان ينظر إليها للخطبة »{[34500]} .
وقال المغيرة بن شعبة : «خطبت امرأة ، فقال عليه السلام{[34501]} : نظرت{[34502]} إليها ؟ فقلت{[34503]} : لا . قال{[34504]} : فانظر فإنه أحْرى أن يؤدم{[34505]} ( بينكما ){[34506]} {[34507]} .
وذلك يدل على جواز النظر بشهوة إلى الوجه والكفين إذا أراد أن يتزوجها ولقوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ{[34508]} } [ الأحزاب : 52 ] ولا يعجبه حسنهن{[34509]} إلا بعد رؤية وجوههن{[34510]} .
وثانيها : أنه{[34511]} إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر منها إلى ما ليس بعورة .
وثالثها : عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة .
ورابعها : ينظر إليها عند تحمل الشهادة ، ولا ينظر إلى غير الوجه . فإن كان النظر لشهوة{[34512]} فهو محرم لقوله عليه السلام{[34513]} : «العينان تزنيان »{[34514]} {[34515]} .
وأما النظر إلى بدن الأجنبية فلا يجوز إلا في صور :
أحدها{[34516]} : يجوز للطبيب الأمين أن ينظر للمعالجة والختان ، ينظر إلى فرج المختون للضرورة .
وثانيها : أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين ليشهد على الزنا ، وكذلك ينظر إلى فرجها ليشهد على الولادة ، وإلى ثدي المرضعة ليشهد على الرضاع .
وقال بعض العلماء لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع ، لأن الزنا مندوب إلى ستره ، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء ، فلا حاجة إلى نظر الرجال .
وثالثها : لو وقعت في غرق أو حرق له أن ينظر إلى بدنها لتخليصها{[34517]} . فإن كانت الأجنبية أمة قيل : عورتها ما بين السرة والركبة .
وقيل : عورتها ما لا يبين في المهنة ، فخرج منه عنقها وساعدها ونحرها ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال إلا لحاجة ، لأن اللمس أقوى من النظر ، لأن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره{[34518]} .
فإن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع فعورتها مع الرجل المحرم كعورة الرجل مع الرجل . وقيل : عورتها ما لا يبدو عند المهنة ، وهو قول أبي حنيفة . وستأتي بقية التفاصيل - إن شاء الله تعالى - في تفسير الآية{[34519]} .
فإن كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل وطؤها فيجوز للزوج والسيد أن ينظر إلى جميع بدنها حتى الفرج ، إلا أنه يكره النظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه ، لأنه يروى أنه يورث الطمس{[34520]} .
وقيل : لا يجوز ( النظر ){[34521]} إلى فرجها ، ولا فرق فيه بين أن تكون الأمة قِنّ{[34522]} أو مدبرة{[34523]} أو أم ولد أو مرهونة .
فإن كانت مجوسية ، أو مرتدة ، أو وثنية ، أو مشتركة بينه وبين غيره ، أو مزوجة ، أو مكاتبة فهي كالأجنبية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إذا زوَّج أحدُكُم جاريتَه عبدَه أو أجيره فعورته معها ما بين السرة والركبة »{[34524]} {[34525]} .
فصل{[34526]}
فأما{[34527]} عورة الرجل مع المرأة فلا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ، ولا تكرير النظر إلى وجهه «لما روت أم سلمة{[34528]} أنَّها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونة{[34529]} ، إذ أقبل ابن أم مكتوم ، فقال : «احتجبَا عنه » فقالت : يا رسول الله ، أليس هو أعمى لا يبصرُنا ؟ فقال عليه السلام{[34530]} : «أَفعمياوان أنْتُمَا ؟ ألستما تبصرانه »{[34531]} ؟ . وإن كان محرماً لها فعورته ما بين السرة والركبة .
وإن كان زوجها أو سيدها الذي له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه ، غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها{[34532]} .
ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خالٍ وله ما يستر عورته ، لأنه عليه السلام{[34533]} سئل عنه فقال : «الله أحق أن يُسْتَحيَى منه{[34534]} » وقال عليه السلام{[34535]} : «إيَّاكُمْ والتَّعَرِّي ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله{[34536]} »{[34537]} .
قوله : «وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ » أي : عما لا يحل .
وقال أبو العالية : كلُّ ما في القرآن من حفظ الفرج{[34538]} فهو عن الزنا والحرام إلا في هذا الموضع فإنه أراد به الاستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه .
وهذا ضعيف ، لأنه تخصيص من غير دليل ، والذي يقتضيه الظاهر حفظ الفروج عن سائر ما حرم عليهما من الزنا واللمس والنظر{[34539]} .
أي : غض البصر وحفظ الفرج{[34540]} أزكى لهم ، أي : خير لهم وأطهر{[34541]} { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } عليمٌ بما يفعلون .