اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } الآية .

لما ذكر حكم الرمي والقذف ذكر ما يليق به ، لأن أهل الإفك ( إنما توصلوا ) {[34369]} إلى بهتانهم لوجود الخلوة ، فصارت كأنها طريق التهمة ، فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام ، لأن الدخول على غير هذا الوجه يوقع التهمة ، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به{[34370]} .

قوله : «تَسْتَأنِسُوا » يجوز أن يكون من الاستئناس ، لأنَّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا{[34371]} ؟ فزال استيحاشه ، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه .

وقيل : من الإيناس ، وهو الإبصار ، أي : حتى تستكشفوا الحال{[34372]} .

وفسره ابنُ عباس : «حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا » وليست قراءة ، وما ينقل عنه أنه قال : «تَسْتَأنِسُوا » خطأ من الكاتب ، إنما هو ( تَسْتَأْذِنُوا ) فشيء مفترى عليه{[34373]} .

وضعفه بعضهم{[34374]} بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح{[34375]} هذين البابين{[34376]} يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه{[34377]} باطل{[34378]} .

وروي عن الحسن البصري أنه قال : «إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فالمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا » . وهذا أيضاً خلاف الظاهر{[34379]} .

وفي قراءة عبد الله : { حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا }{[34380]} وهو أيضاً خلاف الظاهر{[34381]} .

واعلم أن هذا نظير ما تقدم في الرعد : ( في ) {[34382]} { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا }{[34383]} [ الرعد : 31 ] وتقدم القول فيه{[34384]} . والاستئناس : الاستعلام ( والاستكشاف ، من أنس الشيء : إذا أبصره ، كقوله : { إني آنَسْتُ نَاراً{[34385]} } [ طه : 10 ] ، والمعنى : حتى تستعلموا الحال ، هل يراد دخولكم {[34386]} ؟ ){[34387]} قال :

كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا *** يَوْمَ الجَلِيلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ{[34388]}

وقيل : هو من «الإنْس » بكسر الهمزة ، أي : يَتَعرَّف هل فيها إنْسٌ{[34389]} أم لا ؟

وحكى الطبري أنه بمعنى : «وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ »{[34390]} .

قال ابن عطية : وتصريف الفعل يَأْبَى أن يكونَ مِنْ «أَنَس »{[34391]} .

فصل

قال الخليل : الاستئناس : الاستبصار من ( أنس الشيء إذا أبصره{[34392]} ) كقوله{[34393]} : «آنسْتُ نَاراً »{[34394]} أي : أبصرت .

وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت . وجملة{[34395]} حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان{[34396]} .

واختلفوا : هل يقدم الاستئذان أو السلام ؟

فقيل : يقدم الاستئذان ، فيقول : أأدخل{[34397]} ؟ سلام عليكم ، لقوله : «حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا » أي : تستأذنوا { وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } . والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم ، أأدخل ؟ ( لما روي أن رجلاً دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسلم ولم يستأذن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ارجع فقُل : السلام عليكم ، أأدخل »{[34398]} ){[34399]} وروى ابن عمر أن رجلاً استأذن عليه فقال : أأدخل{[34400]} ؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم ، فسلَّم ، فأذِنَ له .

وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم{[34401]} . والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألاَّ يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة ، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال{[34402]} .

فصل

عدد الاستئذان ثلاثاً لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الاستئذان ثلاثٌ ، الأولى{[34403]} يستضيئون ، والثانية يستصلحون ، والثالثة يأذنون{[34404]} أو يردون » وعن أبي سعيد الخدري قال : «كُنت جالساً في مجلس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعاً ، فقلنا له : ما أفزعك ؟ فقال : أخبرني عمر أن آتيه فأتيته ، فاستأذنت ثلاثاً ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي ، وقد قال عليه السلام {[34405]}- : «إذا استأذنَ أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع » . فقال : لتأتيني ( على هذا ) {[34406]} بالبينة ، أو لأعاقبنك{[34407]} ، فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا صغير القوم ، قال : فقام أبو سعيد ، فشهد له »{[34408]} .

وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى : لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله{[34409]} .

وعن قتادة : «الاستئذانُ ثلاثةٌ : الأول ليسمع الحي ، والثاني ليتهيأ ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ » .

وهذا من محاسن الآداب ، لأنه في أول كرَّة{[34410]} ربما منعهم بعض الأشغال{[34411]} من الإذن ، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع ، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع . ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما .

فأما قرع الباب بعنف ، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام ، لأنه إيذاء ، وكذا قصة بني أسد وما نزل فيها من قوله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ{[34412]} }{[34413]} [ الحجرات : 4 ] .

فصل

في كيفية الوقوف على الباب

روى أبو سعيد قال : استأذن رجلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل الباب ، فقال عليه السلام{[34414]} : «لا تستأذِنْ وأنت مستقبلُ البابِ »{[34415]} .

وروي أنه عليه السلام{[34416]} كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : «السلامُ عليكُمْ » وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور{[34417]} .

فصل

كلمة » حَتَّى «للغاية ، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها ، فقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن .

والجواب أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس{[34418]} ، ولا يحصل إلا بعد الإذن .

وأيضاً فإنّا علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه ، فإنّ ذلك مما يسوؤه ، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن .


[34369]:ما بين القوسين مكرر في ب.
[34370]:انظر الفخر الرازي 23/197.
[34371]:في ب: أم لا.
[34372]:انظر الكشاف 3/69.
[34373]:قال أبو حيان (ومن روى عن ابن عباس أن قوله: "تستأنسوا" خطأ أو وهم من الكاتب، وأنه قرأ "حتى تستأذنوا" فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين، وابن عباس بريء من هذا القول) البحر المحيط 6/445. وانظر المحتسب 2/107، تفسير ابن عطية 10/478 – 480، الكشاف 10/70، القرطبي 12/214.
[34374]:وهو ابن الخطيب في تفسيره. الفخر الرازي 23/197.
[34375]:في ب: وصح. وهو تحريف.
[34376]:في ب: الناس. وهو تحريف.
[34377]:في ب: فإنه.
[34378]:انظر الفخر الرازي 23/197.
[34379]:الفخر الرازي 23/197.
[34380]:في المختصر (101)، الكشاف 3/70: "حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا".
[34381]:الفخر الرازي 23/197.
[34382]:في: زيادة يتطلبها السياق.
[34383]:من قوله تعالى: {أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} [الرعد: 31].
[34384]:ذكر هنا آراء العلماء كالزمخشري وابن عطية وغيرهما في معنى "ييأس" ثم قال: وقال بعضهم بل هو بمعنى علم وتبين، وقال أبو القاسم بن معين وهو من نحاة الكوفيين هي لغة هوزان، وقال الكلبي: هي لغة حي من النخع وذكر هناك شواهد لهذا المعنى. انظر اللباب 5/105 – 106.
[34385]:[طه: 10].
[34386]:انظر اللسان (أنس).
[34387]:ما بين القوسين سقط من ب.
[34388]:من بحر البسيط قاله النابغة الذبياني وهو في ديوانه (17)، تفسير غريب القرآن (303)، الخصائص 3/362، أمالي ابن الشجري 2/271، شرح المفصل 6/16، اللسان (أنس) البحر المحيط 6/446، الخزانة 3/187.
[34389]:في الأصل: أنس.
[34390]:انظر جامع البيان 18/88، وعبارته: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الاستئناس الاستفعال من الأنس.
[34391]:تفسير ابن عطية 10/478.
[34392]:ما بين القوسين سقط من ب.
[34393]:في الأصل: قوله.
[34394]:[طه: 10].
[34395]:في ب: حكمة. وهو تحريف.
[34396]:انظر البغوي 6/89.
[34397]:في ب: أدخل؟.
[34398]:أخرجه الترمذي (الاستئذان) 5/64 – 65، وأورده ابن كثير في تفسيره 3/280، والسيوطي في الدر 5/38.
[34399]:ما بين القوسين سقط من ب.
[34400]:فقال: أأدخل: مكر في الأصل. وفي ب: أدخل.
[34401]:انظر البغوي 6/89-90.
[34402]:انظر الفخر الرازي 23/198.
[34403]:في ب: الأول.
[34404]:في الأصل: يستأذنون.
[34405]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34406]:ما بين القوسين في ب: غدا.
[34407]:في ب: وإلا عاقبتك.
[34408]:أخرجه البخاري (الاستئذان) 4/88، ومسلم (الآداب) 3/1694 – 1696 وابن ماجه (أدب) 2/1112، وأبو داود (أدب) 5/370 – 372، الترمذي (استئذان) 4/157، الدارمي (استئذان) 2/274، الموطأ (استئذان) 2/963 – 964.
[34409]:في ب: رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
[34410]:الكرة: المرة.
[34411]:في ب: الاشتغال.
[34412]:[الحجرات: 4].
[34413]:انظر الفخر الرازي 23/198 – 199.
[34414]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34415]:انظر الفخر الرازي.
[34416]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[34417]:أخرجه أبو داود (أدب) 5/374، وانظر الفخر الرازي 23/199 الدر المنثور 5/39.
[34418]:في ب: الاستئذان. وهو تحريف.