قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } الآية .
لما ذكر حكم الرمي والقذف ذكر ما يليق به ، لأن أهل الإفك ( إنما توصلوا ) {[34369]} إلى بهتانهم لوجود الخلوة ، فصارت كأنها طريق التهمة ، فأوجب الله تعالى ألا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام ، لأن الدخول على غير هذا الوجه يوقع التهمة ، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به{[34370]} .
قوله : «تَسْتَأنِسُوا » يجوز أن يكون من الاستئناس ، لأنَّ الطارق يستوحش من أنه هل يؤذن له أو لا{[34371]} ؟ فزال استيحاشه ، وهو رديف الاستئذان فوضع موضعه .
وقيل : من الإيناس ، وهو الإبصار ، أي : حتى تستكشفوا الحال{[34372]} .
وفسره ابنُ عباس : «حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا » وليست قراءة ، وما ينقل عنه أنه قال : «تَسْتَأنِسُوا » خطأ من الكاتب ، إنما هو ( تَسْتَأْذِنُوا ) فشيء مفترى عليه{[34373]} .
وضعفه بعضهم{[34374]} بأن هذا يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ، ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر ، وفتح{[34375]} هذين البابين{[34376]} يطرق الشك إلى كل القرآن وإنه{[34377]} باطل{[34378]} .
وروي عن الحسن البصري أنه قال : «إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فالمعنى : حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا » . وهذا أيضاً خلاف الظاهر{[34379]} .
وفي قراءة عبد الله : { حَتَّى تُسَلِّمُوا وَتَسْتَأْذِنُوا }{[34380]} وهو أيضاً خلاف الظاهر{[34381]} .
واعلم أن هذا نظير ما تقدم في الرعد : ( في ) {[34382]} { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا }{[34383]} [ الرعد : 31 ] وتقدم القول فيه{[34384]} . والاستئناس : الاستعلام ( والاستكشاف ، من أنس الشيء : إذا أبصره ، كقوله : { إني آنَسْتُ نَاراً{[34385]} } [ طه : 10 ] ، والمعنى : حتى تستعلموا الحال ، هل يراد دخولكم {[34386]} ؟ ){[34387]} قال :
كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا *** يَوْمَ الجَلِيلِ على مُسْتَأْنِسٍ وَحَدِ{[34388]}
وقيل : هو من «الإنْس » بكسر الهمزة ، أي : يَتَعرَّف هل فيها إنْسٌ{[34389]} أم لا ؟
وحكى الطبري أنه بمعنى : «وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ »{[34390]} .
قال ابن عطية : وتصريف الفعل يَأْبَى أن يكونَ مِنْ «أَنَس »{[34391]} .
قال الخليل : الاستئناس : الاستبصار من ( أنس الشيء إذا أبصره{[34392]} ) كقوله{[34393]} : «آنسْتُ نَاراً »{[34394]} أي : أبصرت .
وقيل : هو أن يتكلم بتسبيحة أو تكبيرة أو بتنحنح يؤذن أهل البيت . وجملة{[34395]} حكم الآية أنه لا يدخل بيت الغير إلا بعد السلام والاستئذان{[34396]} .
واختلفوا : هل يقدم الاستئذان أو السلام ؟
فقيل : يقدم الاستئذان ، فيقول : أأدخل{[34397]} ؟ سلام عليكم ، لقوله : «حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا » أي : تستأذنوا { وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } . والأكثرون على أنه يقدم السلام فيقول : سلام عليكم ، أأدخل ؟ ( لما روي أن رجلاً دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسلم ولم يستأذن ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ارجع فقُل : السلام عليكم ، أأدخل »{[34398]} ){[34399]} وروى ابن عمر أن رجلاً استأذن عليه فقال : أأدخل{[34400]} ؟ فقال ابن عمر : لا ، فأمر بعضهم الرجل أن يسلم ، فسلَّم ، فأذِنَ له .
وقيل إن وقع بصره على إنسان قدم السلام ، وإلاّ قدم الاستئذان ثم يسلم{[34401]} . والحكمة في إيجاب تقديم الاستئذان ألاَّ يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة ، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه من الأحوال{[34402]} .
عدد الاستئذان ثلاثاً لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الاستئذان ثلاثٌ ، الأولى{[34403]} يستضيئون ، والثانية يستصلحون ، والثالثة يأذنون{[34404]} أو يردون » وعن أبي سعيد الخدري قال : «كُنت جالساً في مجلس الأنصار ، فجاء أبو موسى فزعاً ، فقلنا له : ما أفزعك ؟ فقال : أخبرني عمر أن آتيه فأتيته ، فاستأذنت ثلاثاً ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي ، وقد قال عليه السلام {[34405]}- : «إذا استأذنَ أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع » . فقال : لتأتيني ( على هذا ) {[34406]} بالبينة ، أو لأعاقبنك{[34407]} ، فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا صغير القوم ، قال : فقام أبو سعيد ، فشهد له »{[34408]} .
وفي بعض الروايات أن عمر قال لأبي موسى : لم أتهمك ، ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله{[34409]} .
وعن قتادة : «الاستئذانُ ثلاثةٌ : الأول ليسمع الحي ، والثاني ليتهيأ ، والثالث إن شاء أذن وإن شاء ردّ » .
وهذا من محاسن الآداب ، لأنه في أول كرَّة{[34410]} ربما منعهم بعض الأشغال{[34411]} من الإذن ، وفي الثانية ربما كان هناك ما يمنع ، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع . ويجب أن يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما .
فأما قرع الباب بعنف ، والصياح بصاحب الدار فذاك حرام ، لأنه إيذاء ، وكذا قصة بني أسد وما نزل فيها من قوله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ{[34412]} }{[34413]} [ الحجرات : 4 ] .
روى أبو سعيد قال : استأذن رجلٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل الباب ، فقال عليه السلام{[34414]} : «لا تستأذِنْ وأنت مستقبلُ البابِ »{[34415]} .
وروي أنه عليه السلام{[34416]} كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فيقول : «السلامُ عليكُمْ » وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور{[34417]} .
كلمة » حَتَّى «للغاية ، والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها ، فقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ } يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن .
والجواب أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس{[34418]} ، ولا يحصل إلا بعد الإذن .
وأيضاً فإنّا علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان ألا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه ، فإنّ ذلك مما يسوؤه ، وهذا المقصود لا يحصل إلا بعد الإذن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.