اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِيٓ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيۡرٗا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَيَجۡعَل لَّكَ قُصُورَۢا} (10)

قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك } الآية وهذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة{[35404]} ، أي : تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ الذي قالوا ، وأفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، أي : أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه ، ولكنه تعالى يعطي عباده بحسب المصالح ، أو على وفق المشيئة{[35405]} ، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله{[35406]} .

قال ابن عباس : { خَيْراً مِّن ذلك } أي : مما عيَّروك بفقد الجنة الواحدة ، وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة . وقال في رواية عكرمة : { خَيْراً مِّن ذلك } أي : من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش{[35407]} .

وقوله : «إِنْ شَاءَ » معناه : أنه تعالى قادرٌ على ذلك لا أنه شاكٌّ ، لأن الشك لا يجوز على الله تعالى . وقيل : «إِنْ » ههنا بمعنى ( قَدْ ) ، أي : قد{[35408]} جعلنا لك في الآخرة جنات ومساكن ، وإنما أدخل ( إن ) تنبيهاً للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته ، وأنه معلق على محض مشيئته ، وليس لأحد من العباد حق على الله لا في الدنيا ولا في الآخرة{[35409]} .

قوله : «جَنَّاتٍ » . يجوز أن يكون بدلاً من «خَيْراً »{[35410]} وأن يكون عطف بيان لذلك الخير عند من يجوزه في النكرات{[35411]} ، وأن يكون منصوباً بإضمار أعني . و { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } صفة .

قوله : «وَيَجْعَل لَكَ » قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع «يَجْعَلُ » ، والباقون بإدغام لام «يَجْعَل » في لام «لك »{[35412]} وأما الرفع ففيه وجهان :

أحدهما : أنه مستأنف{[35413]} .

والثاني : أنه معطوف على جواب الشرط . قال الزمخشري{[35414]} : لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع ، كقوله :

وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ *** يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ{[35415]}

قال الزمخشري{[35416]} : وليس هذا مذهب سيبويه بل مذهبه أن الجواب محذوف ، وأن هذا المضارع مَنْوِيٌّ به التقديم{[35417]} ، ومذهب المبرد والكوفيين أنه جواب على حذف الفاء{[35418]} ، ومذهب آخرين أنه جواب لا على حذفها بل لما كان الشرط ماضياً ضعف تأثير ( إن ) فارتفع{[35419]} . فالزمخشري بنى قوله على هذين المذهبين . ثم قال أبو حيان : وهذا التركيب جائز فصيح ، وزعم بعض أصحابنا أنه لا يجيء إلا في ضرورة{[35420]} . وأما القراءة الثانية فتحتمل وجهين :

أحدهما : أن سكون اللام للجزم عطفاً على محل ( جعل ){[35421]} ؛ لأنه جواب الشرط{[35422]} .

والثاني : أنه مرفوع ، وإنما سكن لأجل الإدغام . قاله الزمخشري{[35423]} وغيره{[35424]} . وفيه نظر من حيث إن من جملة من قرأ بذلك وهو نافع والأخوان وحفص ليس من أصولهم الإدغام حتى يدعى لهم في هذا المكان . نعم أبو عمرو أصله الإدغام وهو يقر هنا بسكون اللام فيحتمل ذلك على قراءته ، وهذا من محاسن علم النحو والقراءات معاً{[35425]} وقال{[35426]} الواحدي{[35427]} : وبين القراءتين فرق في المعنى ، فمن جزم فالمعنى : إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا ، ولا يحسن الوقف على «الأَنْهَارُ » ومن رفع حسن الوقف ( على «الأَنْهَار{[35428]} » ) واستأنف { وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } في الآخرة .

وقرأ ابن سليمان{[35429]} وطلحة بن سليمان{[35430]} «وَيَجْعَلَ » بالنصب{[35431]} ، وذلك بإضمار أن على جواب الشرط ، واستضعفها ابن جنيّ{[35432]} ، ومثل هذه القراءة قوله{[35433]} :

فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ *** رَبيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ

وَنَأْخُذ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ *** أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ{[35434]}

بالتثليث في ( نأخذ ) .

فصل

القصور جماعة القصر ، وهو المسكن الرفيع . قال المفسرون : القصور هي البيوت المشيدة ، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً . ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومنتزهاً ، ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة .

وقال مجاهد : «إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ جَنَّاتٍ » في الآخرة وقصوراً في الدنيا{[35435]} .

روي أنه - عليه السلام {[35436]}- قال : «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكة ذَهَباً ، فقلتُ : لا يَا رَبِّ ، وَلكِنْ أَشْبَعُ يَوْماً وأَجُوعُ يَوْماً - أَوْ{[35437]} قال ثَلاثاً ، أَوْ نَحْوَ هَذَا - فإِذا جعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَدَعَوْتُكَ ، وإذا شَبِعْت حَمِدْتُك وشَكَرْتُكَ »{[35438]} وروت عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لو شئتُ لسارت معي جبالُ الذهب جاءني ملكٌ فقال : إنَّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول إِنْ شِئْتَ كنت نبياً عبداً ، وإن شئْتَ نبياً مَلكاً ، فنظرت إلى جبريل - عليه السلام - فأشار إليَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ ، فقلت : نبياً عبداً قالت : وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لا يأكل متكئاً ، ويقول : آكل كما يَأْكُلُ العبدُ وأجلس كما يجلس العبد{[35439]} وعن ابن عباس قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس وجبريل - عليه السلام - معه فقال جبريل : «هذا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ استأْذَنَ رَبَّهُ فِي زِيَارَتك » فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاءَ المَلَكُ وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : «إِنَّ اللَّهَ يُخيركَ أَنْ يُعْطِيكَ مفاتيحَ كلِّ شيءٍ لَمْ يُعْطَ أحد قبلك ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما أداك شيئاً » فقال عليه السلام{[35440]} : بل يجمعهما لي جميعاً في الآخرة فنزل { تَبَارَكَ الذي إِن شَاءَ } الآية{[35441]} .


[35404]:الشبهة: مكرر في الأصل.
[35405]:في ب: السنة.
[35406]:انظر الفخر الرازي 24/53.
[35407]:المرجع السابق.
[35408]:قد: سقط من ب.
[35409]:انظر الفخر الرازي 24/ 53 – 54.
[35410]:انظر التبيان 2/981.
[35411]:وهو مذهب الكوفيين والفارسي والزمخشري. الهمع 2/121.
[35412]:السبعة (462)، الحجة لابن خالويه (264)، الكشف 2/144، النشر 2/233، الاتحاف (327).
[35413]:انظر البيان 2/202، التبيان 2/981.
[35414]:الكشاف 3/90.
[35415]:البيت من بحر البسيط، قاله زهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان وهو في ديوانه (153)، الكتاب 3/ 66، المقتضب 2/ 68، المحتسب 2/ 65، الانصاف 2/ 625، المغني 2/ 422، شذور الذهب 349. المقاصد النحوية 4/429، التصريح 2/249، الهمع 2/60، شرح شواهد المغني 2/838، الأشموني 4/17 الخليل: الفقير. المسألة: السؤال، ويروى مسغبة أي مجاعة حرم: ممنوع. أورده الزمخشري شاهدا على رفع المضارع الواقع جزاء الشرط إذا كان فعل الشرط ماضيا. ومذهب سيبويه رفع (يقول) على نية التقديم، وتقديره: يقول إن أتاه خليل، وجاز هذا لأن (إن) غير عاملة في اللفظ، فسيبويه يرى أن هذا المضارع ليس هو جواب الشرط، ولكنه دليل على الجواب ومذهب المبرد أنه جواب الشرط على حذوف الفاء.
[35416]:ليس القائل الزمخشري، وإنما قائل ذلك أبو حيان ردا على الزمخشري ولعله سهو من الناسخ.
[35417]:قال سيبويه: (وقد تقول: إن أتيتني آتيك، أي: آتيك إن أتيتني، قال زهير: وإن أتاه خليل يوم مسألة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم ولا تحسن إن تأتني آتيك من قبل أن إن هي العاملة، وقد جاء في الشعر قال جرير بن عبد الله البجلي: يا أقرع بن حابس يا أقرع *** إنك إن يصرع أخوك تصرع أي إنك تصرع إن يصرع أخوك) الكتاب 3/66 – 67.
[35418]:قال المبرد: (فمن ذلك قول زهير: وإن أتاه خليل يوم مسألة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم فقوله: (يقول) على إرادة الفاء على ما ذكرت لك) المقتضب 2/68. وانظر الهمع 2/60-61، الأشموني 4/17 – 18.
[35419]:لم ينسب هذا المذهب إلى نحاة مخصوصين. انظر البحر المحيط 6/484، الهمع 2/6، الأشموني 4/18.
[35420]:البحر المحيط 6/484.
[35421]:في ب: يجعل. وهو تحريف.
[35422]:انظر التبيان 2/981، البحر المحيط 6/484.
[35423]:قال الزمخشري: (ويجوز في "ويجعل لك" إذا أدغمت أن تكون اللام في تقدير الجزم والرفع جميعا) الكشاف 2/90.
[35424]:قال أبو البقاء: (ويجوز أن يكون من جزم سكن المرفوع تخفيفا وأدغم) التبيان 2/981.
[35425]:انظر البحر المحيط 6/484.
[35426]:في ب: قال.
[35427]:تقدم.
[35428]:ما بين القوسين سقط من ب.
[35429]:صوابه: عبيد الله بن موسى كما في المحتسب 2/118، وتفسير ابن عطية 11/9 -10 والبحر المحيط 6/484. وابن سليمان هو: عبيد الله بن سليمان أبو القاسم النحامي البغدادي مقرئ، روى قراءة يعقوب عن محمد بن هارون التمار عن محمد بن المتوكل. طبقات القراء 1/487 – 488.
[35430]:هو طلحة بن سليمان السمان مقرئ، أخذ القراءة عرضا عن فياض بن غزوان عن طلحة بن مصرف، وله شواذ تروى عنه، روى القراءة عنه إسحاق بن سليمان أخوه، وغيره. طبقات القراء 1/341.
[35431]:المحتسب 2/118، تفسير ابن عطية 11/9 – 10، البحر المحيط 6/484.
[35432]:قال ابن جني: (نصبه على أنه جواب الجزاء، كقولك: إن تأتيني آتك وأحسن إليك، وجازت إجابته بالنصب لما لم يكن واجبا إلا بوقوع الشرط من قبله، وليس قويا مع ذلك، ألا تراه بمعنى قولك: أفعل كذا إن شاء الله) المحتسب 2/118.
[35433]:قوله: سقط من الأصل.
[35434]:البيتان من بحر الوافر قالهما النابغة الذبياني. وقد تقدما.
[35435]:انظر الفخر الرازي 24/54.
[35436]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[35437]:في ب: و.
[35438]:أخرجه الترمذي (زهد) 4/6، أحمد 5/254، وانظر البغوي 6/160 والفخر الرازي 24/54.
[35439]:انظر البغوي 6/160- 161، والفخر الرازي 24/54.
[35440]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[35441]:انظر الفخر الرازي 24/54، والدر المنثور 5/63 – 64.