قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ } أي : مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { على أَمْرٍ جَامِعٍ } يجمعهم من حرب حضرت{[131]} ، أو صلاة جمعة ، أو عيد ، أو جماعة ، أو تشاور في أمر نزل . فقوله{[132]} «أَمْرٍ جَامِع » من الإسناد المجازي ( لأنه لما كان سبباً في جمعهم نسب الفعل ){[133]} إليه مجازاً{[134]} .
وقرأ اليماني : { عَلَى أَمْرٍ جَميعٍ }{[135]} فيحتمل أن يكون صيغة مبالغة بمعنى «مُجمع » وألا يكون . والجملة الشرطية من قوله : «وَإِذَا كَانُوا » وجوابها عطف على الصلة من قوله : «آمَنُوا » .
والأمر الجامع : هو الذي يعم ضرره أو نفعه ، والمراد به : الخطب الجليل الذي لا بُدَّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أرباب التجارب ( والآراء ) {[136]} ليستعين بتجاربهم ، فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يَشُق على قلبه{[137]} .
فصل
قال الكلبي : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعَرِّضُ في خطبته بالمنافقين ويعيبهم{[138]} ، فينظر المنافقون يميناً وشمالاً ، فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً ، فنزلت الآية ، فكان المؤمن بعد نزول هذه الآية لا يخرج لحاجته حتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان المنافقون يخرجون بغير إذن{[139]} .
فصل
قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلاّ بإذن ، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام ، ( فإن حدث سبب يمنعه من المقام ) {[140]} بأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة ، أو يجنب رجل ، أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان{[141]} .
فصل
قال الجبائي : دلَّت الآية على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ، ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان .
والجواب : هذا بناء على أن كلمة «إنما » للحصر ، وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافاً ، وذلك كفر{[142]} .
قوله : { إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ } تعظيماً لك ورعاية للأدب { أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } أي : يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه . قال الضحاك ومقاتل : المراد : عمر بن الخطاب ، وذلك أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله ، فأذن له ، وقال : «انطلق ، فوالله ما أنت بمنافق » يريد أن يُسْمِع المنافقين ذلك الكلام ، فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد{[143]} إذا استأذنه أصحابه أذن لهم ، وإذا استأذناه أبى ، فوالله ما نراه يعدل {[144]} .
قال ابن عباس : «إن عمر استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العمرة ، فأذن له ، ثم قال : «يا أبا حفص{[145]} لا تنسنا في صالح دعائك »{[146]} .
قوله : «لِبَعْض شَأْنِهِمْ » تعليل ، أي : لأجل بعض حاجتهم . وأظهر العامةُ الضادَ عند الشين . وأدغمها أبو عمرو فيها ، لما بينهما من التقارب ، لأن الضاد من أقصَى حافة اللسان والشين من وسطه{[147]} . وقد استضعف جماعة من النحويين{[148]} هذه الرواية واستبعدوها عن أبي عمرو - رأس الصناعة - من حيث إن الضادَ أقوى من الشين ، ولا يدغم الأقوى في الأضعف وأساء الزمخشري{[149]} على راويها السوسيّ{[150]} . وقد أجاب الناس عنه ، فقيل : وجه الإدغام أن الشين أشد استطالة من الضاد ، وفيها تَفَشِّي{[151]} ليس في الضاد ، فقد صارت الضاد أَنْقَصَ منها ، وإدغام الأنقص في الأزْيَدِ جائز ، قال{[152]} : ويُؤَيّد هذا أن سيبويه حكى عن بعض العرب «اطَّجَع » في «اضْطَجع »{[153]} ، وإذا جاز إدغامها في الطاء فإدغامها في الشين أولى .
والخصم لا يسلم جميع ما ذكر ، ومستند المنع واضح .
فصل{[154]}
{ فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أمرهم { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } بالانصراف ، أي : إن شئت فأذن وإن شئت فلا تأذن ، { واستغفر لَهُمُ الله } وهذا تنبيه على أن الأولى ألا يستأذنوا وإن أذن ، لأن الاستغفار يكون عن ذنب . ويحتمل أن يكون أمره بالاستغفار لهم مقابلة على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان{[155]} .
فصل
قال مجاهد : قوله : فأذن لمن شئت منهم نسخت هذه الآية . وقال قتادة : نسخت هذه الآية بقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }{[156]} [ التوبة : 43 ] . والآية تدل على أنه تعالى فوض إلى رسول الله بعض أمر الدين ليجتهد فيه رأيه{[157]} .
[131]:- ذكره السيوطي في الدر المنثور 1/5 وعزاه لسعيد بن منصور في "السنن" والبيهقي في "الشعب"، والقرطبي في التفسير 1/112، والعجلوني في كشف الخفاء 2/106، 107.
[132]:- أخرجه الدارمي في السنن (2/445) باب فضل فاتحة الكتاب وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم 499، 2500.
[133]:-أخرجه البخاري في الصحيح (10 /198-199) كتاب الطب (76) باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب (34) حديث رقم (5737). ومتفق عليه من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه البخاري في الصحيح 10/209 كتاب الطب باب النفث في الرقبة (39) حديث رقم (5749) واللفظ له ومسلم في الصحيح 4/1728 كتاب السلام باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (23) حديث رقم (66/2201) وابن حبان في الموارد حديث رقم (1131)- والدارقطني في السنن 3/65- والبيهقي في السنن (1/430)، (6/124)، (7/243).
[134]:- حذيفة بن اليمان، واسمه "حسيل" مصغرا العبسي، أبو عبد الله الكوفي، حليف بني عبد الأشهل، صحابي جليل من السابقين، أعلمه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بما كان وما يكون إلى يوم القيامة من الفتن والحوادث. روى عنه أبو الطفيل والأسود بن يزيد وزيد بن وهب وربعي بن جراش. مات سنة ست وثلاثين. وقال عمرو بن علي: بعد قتل عثمان بأربعين ليلة.
[136]:-ذكره العجلوني في كشف الخفا: 1/256.
[137]:-الحسنبن أبي الحسن البصري مولى أم سلمة والربيع بنت النضر وزيد بن ثابت أبو سعيد الإمام أحد أئمة الهدى والسنة، عن جندب بن عبد الله وأنس وعبد الرحمن بن سمرة ومعقل بن يسار قال سعيد: لم يسمع منه وأرسل عن خلق من الصحابة، وروى عنه أيوب وحميد ويونس وقتادة ومطر الوراق وخلائق قال ابن علية: مات سنة عشر ومائة. قيل: ولد سنة إحدى وعشرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
ينظر تهذيب الكمال: 1/255، تهذيب التهذيب: 2/263، تقريب التهذيب: 1/165، وخلاصة تهذيب الكمال: 1/210، الكاشف: 1/220، تاريخ البخاري الكبير: 2/289، الجرح والتعديل: 3/177، ميزان الاعتدال 1/483.
[138]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور (1/24) وعزاه للبيهقي في "شعب الإيمان".
[139]:- أبي بن كعب بن قيس بن عبيدة بن يزيد بن معاوية بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر المدني، سيد القراء، كتب الوحي وشهد بدرا وما بعدها، له مائة وأربعة وستون حديثا اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بسبعة. وعنه ابن عباس وأنس وسهل بن سعد وسويد بن علقمة ومسروق وخلق كثير. وكان ربعة نحيفا أبيض الرأي واللحية، وقد أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقرأ عليه رضي الله عنه. وكان ممن جمع القرآن، وله مناقب جمة رحمه الله تعالى. وتوفي سنة عشرين أو اثنتين وعشرين أو ثلاثين أو اثنتين وثلاثين أو ثلاث وثلاثين. وقال بعضهم: صلى عليه عثمان رضي الله عنه.
وينظر ترجمته في أسد الغابة: ت 23، تهذيب التهذيب: 1/187، تقريب التهذيب: 1/48، الإصابة: 1/16، الثقات: 3/5، تاريخ ابن معين: 4/156، الجرح والتعديل: 2/290، سير أعلام النبلاء: 10/389، مشاهير علماء الأمصار: 12، تلقيح الفهوم: 364، أسماء الصحابة الرواة: 25 .
[140]:- في ب: يقول الله تعالى.
[142]:-أخرجه الترمذي في السنن (5/143-144) كتاب فضائل القرآن (46) باب ماء جاء في فصل فاتحة الكتاب (1) حديث رقم (2875) والنسائي في السنن (2/139) كتاب الافتتاح باب تأويل قول الله عز وجل ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم رقم (914) وابن ماجة في السنن (2/244) كتاب الأدب حديث رقم (3785) ومالك في الموطأ ص 85.
[143]:- عمرو بن شرحبيل الهمداني أبو مسيرة الكوفي أحد الفضلاء. عن عمر وعلي. وعنه أبو وائل والقاسم بن مخيمرة مات قديما. ينظر: الخلاصة 2/287.
[144]:- ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، من قريش: حكيم جاهلي، اعتزل الأوثان قبل الإسلام، وامتنع من أكل ذبائحها، وتنصر، وقرأ كتب الأديان، وكان يكتب اللغة العربية بالحرف العبراني أدرك أوائل عصر النبوة ولم يدرك الدعوة. وهو ابن عم خديجة أم المؤمنين. ينظر الأعلام: 8/115، الروض الأنف: 1/124-127، 156، 157، والإصابة: ت9133، وتاريخ الإسلام: 1/ 68.
[145]:ذكوان المدني أبو صالح السمان عن سعد وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وخلق. وعنه بنوه سهيل وعبد الله وصالح وعطاء بن أبي رباح. وسمع منه الأعمش ألف حديث. قال أحمد: ثقة ثقة شهد الدار. قال محمد بن عمر الواقدي: توفي سنة إحدى ومائة.
ينظر ترجمته في: تهذيب التهذيب: 3/219، تقريب التهذيب: 1/238، تاريخ البخاري الكبير: 3/260، الجرح والتعديل: 3/54، طبقات ابن سعد: 5/222، معجم طبقات الحفاظ: 88.
[146]:- ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (1/19) وعزاه لابن أبي شيبة وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في "دلائل النبوة" والواحدي والثعلبي في تفسيرهما.
[147]:-ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (1/20) وعزاه للثعلبي ووكيع في تفسيرهما.
[148]:-متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
أخرجه البخاري في الصحيح (1/435-436) كتاب التيمم (7) باب (1) حديث رقم (335) واللفظ له، ومسلم في الصحيح 1/370 كتاب المساجد (5) حديث رقم (3/521) والنسائي في السنن (1/20، 211) كتاب الغسل والتيمم-والدارمي في السنن (2/224) كتاب السير باب الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا.
[150]:-الحسين بن علي بن فتح الإمام الحبر أبو عبد الله ويقال: أبو علي الجعفي، مولاهم الكوفي الزاهد أحد الأعلام. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت أفضل من حسين الجعفي، وقال قتيبة بن سعيد: قالوا لسفيان بن عيينة: قدم حسين الجعفي فوثب قائما وقال: قدم أفضل رجل يكون قط، وقال موسى بن داود: كنت عند ابن عيينة فأتاه حسين الجعفي، فقام سفيان فقبل يده، وكان يقول: الحسين الجعفي هذا أفضل رجل في الأرض، وروى أبو هشام الرفاعي عن الكسائي قال: قال لي الرشيد: من أقرأ الناس اليوم؟ قلت: حسين الجعفي، مات في ذي القعدة سنة ثلاث ومائتين عن أربع وثمانين سنة.
نيظر الغابة: 1/247.
[151]:-أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري القرطبي، ولد سنة 578هـ بقرطبة فقيه مالكي، من رجال الحديث، يعرف بـ"ابن المزين". كان مدرسا بالاسكندرية. من كتبه: "المفهم لما أشكل من نلخيص كتاب مسلم" و "اختصار صحيح البخاري" و "مختصر الصحيحن". وتوفي بـ"الإكندرية" سنة 656هـ.
ينظر: البداية والنهاية 13/ 213، نفح الطيب 2/643، الأعلام: 1/186.
[152]:-عبد الله بن مسعود بن غافل بمعجمة ثم فاء مكسورة بعد الألف ابن حبيب ين شمخ بفتح المعجمة الأولى وسكون الميم ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل الهذلي أبو عبد الرحمان الكوفي: أحد السابقين الأولين وصاحب النعلين شهد بدرا والمشاهد وروى ثمانمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا. اتفقا على أربعة وستين وانفرد البخاري بأحد وعشرين ومسلم بخمسة وثلاثين. وعنه خلق من الصحابة. ومن التابعين علقمة ومسروق والأسود وقيس بن أبي حازم والكبار تلقى من النبي صلى الله عليه وسلم سبعين سورة . قال علقمة: كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه ودله وسمته. قال أبو نعيم: مات بالمدينة ستة اثنتين وثلاثين عن بضع وستين سنة.
وينظر ترجمته في تهذيب الكمال: 2/740، تهذيب التهذيب: 6/27 (42)، تقريب التهذيب: 1/450 (630)، خلاصة تهذيب الكمال: 2/99، الكاشف: 2/130، تاريخ البخاري الكبير: 5/2، أسد الغابة 3/384، تجريد أسماء الصحابة: 1/334، الإصابة: 2/36، 4/233، الاستيعاب (3-4) 987 الوافي بالوفيات 17/406، الحلية: 1/375. طبقات ابن سعد: 9/1
[153]:- مسلم الحجاج بن مسلم القشيري أبو الحسين النيسابوري الحافظ أحد الأئمة الأعلام وصاحب الصحيح والطبقات. قال أحمد بن سلمة: رأيت أبا حاتم وأبا زرعة يقدمان مسلما في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما وقال أبو عبد الله بن الأحزم: توفي لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين، ومولده سنة أربع. ينظر الخلاصة: 3/24.
[154]:- أخرجه مسلم في الصحيح (4/300) كتاب الصلاة (4) باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (14) حديث رقم (53/400)- وأبو داود في السنن حديث رقم '784) وذكره ابن كثير في التفسير 8/519 – والهندي في كنز العمال حديث رقم 39127.
[157]:- ستأتي في سورة الصافات.