اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} (76)

قوله تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى } الآية ، قال المفسرون كان ابن عمه ، لأنه قارون بن يصهر{[40744]} بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى ابنُ عمران بن قاهث{[40745]} وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى كان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السَّامري{[40746]} وكان يسمى المنوَّر{[40747]} لحسن صورته{[40748]} .

وقال{[40749]} ابن عباس : إنه كان ابن خالته{[40750]} ، فبغى عليهم ، وقيل : كان عاملاً{[40751]} لفرعون على بني إسرائيل ، وكان يبغي عليهم ويظلمهم{[40752]} ، وقال قتادة : «بَغَى عَلَيْهِمْ » بكثرة المال{[40753]} ( ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء ){[40754]} .

وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك{[40755]} ، وقال القفال : طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده{[40756]} ، وقال ابن عباس : تكبّر عليهم وتجبر{[40757]} ، وقال الكلبي : حسد هارون على الحبورة ، وروي أن موسى عليه السلام{[40758]} لما قطع الله له البحر ، وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة والحبورة وكان له القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة ، فوجد قارون لذلك في نفسه ، وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست في شيء ، لا أصبر أنا على هذا ، فقال موسى : والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله فقال قارون له : فو الله لا أصدِّقك أبداً حتى تأتيني بآية{[40759]} يعرف بها أن جعل ذلك لهارون ، قال : فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كلُّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها ، فألقاها موسى عليه السلام{[40760]} في قبة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى ربه أن يريهم بيان ذلك ، فباتوا يحرسون عصيهم ، فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر{[40761]} وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى لقارون : ألا ترى ما صنع الله لهارون ، فقال : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، فاعتزل قارون ومعه ناس كثير وولي هارون الحبورة والمذبح والقربان ، وكانت بنو إسرائيل يأتون بهَدَايَاهُمْ إلى هارون{[40762]} فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها ، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتَّبَع من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ قارُونَ كانَ من السَّبْعِينَ المُخْتَارَة الَّذِينَ سَمِعُوا كلامَ اللَّه »{[40763]} .

قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } ما موصولة بمعنى الذي صلتها ( إنَّ ) وما في حيّزها ولهذا كسرت{[40764]} ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع الوصل بإنَّ وكان يستقبح ذلك عنهم ، يعني لوجوده في القرآن{[40765]} ، والمفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الذي يفتح به الباب قاله قتادة ومجاهد وجماعة{[40766]} ، وقيل : مفاتحه خزائنه كقوله { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب } [ الأنعام : 59 ] أي : خزائنه .

قوله : «لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ » فيها وجهان :

أحدهما : بأن الباء للتعدية ، كالهمزة ولا قلب في الكلام ، والمعنى : لتُنيء المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول : أَجَأْتُهُ وَجئْتُ به ، وأَذْهَبْتُه وَذَهَبْتُ به{[40767]} ، ومعنى ناء بكذا : نهض به بثقل ، قال :

4017 - تَنُوءُ بِأُخْرَاهَا فَلأْياً قِيَامُهَا *** وَتَمْشي الهُوَيْنَا{[40768]} عن قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ{[40769]}

وقال أبو زيد : نُؤْتُ بالعمل أي : نهضت به{[40770]} ، قال :

4018 - إذَا وَجَدْنَا خَلْفاً بِئْسَ الخَلَفْ *** عَبْداً إذَا مَا نَاءَ بالحِمْلِ وَقَفْ{[40771]}

وفسره الزمخشري بالأثقال ، قال : يقال : ناء به الحمل حتى أثقله{[40772]} وأماله{[40773]} ، وعليه ينطبق المعنى أي : لتثقل{[40774]} المفاتح العصبة .

والثاني : قال أبو عبيدة{[40775]} إنَّ في الكلام قلباً ، والأصل : لتنوء العصبة بالمفاتح أي : لتنهض بها{[40776]} لقولهم : عرضت الناقة على الحوض{[40777]} ، وتقدم الكلام في القلب وأن فيه ثلاثة مذاهب ، وقرأ بديل بن ميسرة{[40778]} : لينوء بالياء من تحت والتذكير{[40779]} ، لأنه راعى المضاف المحذوف ، إذ التقدير حملها أو ثقلها{[40780]} ، وقيل الضمير في «مَفَاتِحَه » ل «قَارُونَ » فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير ، كقولهم : ذهبت أهل اليمامة ، قاله الزمخشري{[40781]} ؛ يعني كما اكتسب «أَهْل » التأنيث اكتسب هذا التذكير ، و «العُصْبَةُ » : الجماعة الكثيرة ، والعصابة مثلها ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى الأربعين{[40782]} ؛ لقول إخوة يوسف { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم وقيل : أربعون رجلاً{[40783]} وقيل سبعون{[40784]} روي عن ابن عباس : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال{[40785]} ، وروى جرير{[40786]} عن منصور{[40787]} عن خيثمة{[40788]} قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح منها كنز{[40789]} ، وطعن بعضهم في هذا القول من وجهين الأول : أنَّ مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكان لها أعداد قليل من المفاتيح ، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح ؟ الثاني : أن المكنوز هي الأموال{[40790]} المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتح .

وأجيب عن الأول أن المال إذا كان من جنس ( العروض لا من جنس النقد ){[40791]} جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد ، وأيضاً أن قولهم تلك المفاتح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن ، فلا تقبل هذه الرواية ، وعن الثاني أن الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق{[40792]} وحمل ابن عباس والحسن المفاتح على نفس{[40793]} المال وهذا أبين ، قال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء{[40794]} ، وقال أبو مسلم المراد من المفاتح العلم والإحاطة ، كقوله تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] والمراد : آتيناه من الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ما يتعب القائمين أن يحفظوها{[40795]} .

قوله : «إذْ قَالَ » فيه أوجه : أن يكون معمولاً ل «تَنُوءُ » قاله{[40796]} الزمخشري{[40797]} ، أو ل «بَغَى » قاله ابن عطية{[40798]} ، وردَّه أبو حيان بأن المعنى ليس على التقييد بهذا الوقت{[40799]} أو ل «آتَيْنَاهُ » قاله أبو البقاء{[40800]} وردَّه أبو حيان بأن الإيتاء لم يكن ذلك الوقت{[40801]} .

أو لمحذوف ، فقدَّره{[40802]} ، أبو البقاء : بغى عليهم{[40803]} وهذا ينبغي أن يردّ بما ردَّ به قول ابن عطية . وقدَّره الطبري : اذكر{[40804]} وقدره أبو حيان أظهر الفرح{[40805]} وهو مناسب ، واعلم أنه كان في قومه من وعظه بأمور :

أحدها : قوله : لاَ تَفْرَح إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ ، وقرى الفارحين - حكاها عيسى الحجازي{[40806]} - والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة ، قال بعضهم : إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها ، وأمَّا من يعلم أنَّه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح . وما أحسن قول المتنبي :

4019 - أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ *** تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ{[40807]}

( وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى ){[40808]} { لِكَيْلاَ تَأْسَوْا على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركاً ، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى{[40809]} .


[40744]:في ب: بصرم.
[40745]:انظر البغوي 6/360-361، الفخر الرازي 25/14.
[40746]:انظر البغوي 6/361.
[40747]:في النسختين: النور.
[40748]:انظر الفخر الرازي 25/14.
[40749]:في ب: وعن.
[40750]:انظر الفخر الرازي 25/14.
[40751]:في ب: غلاماً.
[40752]:وهو قول يحيى بن سلاَّم وابن المسيب. انظر القرطبي 13/310.
[40753]:انظر البغوي 6/361.
[40754]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[40755]:انظر البغوي 6/361.
[40756]:انظر الفخر الرازي 25/15.
[40757]:انظر الفخر الرازي 25/15.
[40758]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40759]:في ب: بحجة.
[40760]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[40761]:أخضر: تكملة من الفخر الرازي.
[40762]:في ب: قارون.
[40763]:انظر الفخر الرازي 25/15.
[40764]:انظر البيان 2/236، التبيان 2/1025.
[40765]:قال النحاس: (وسمعت عليَّ بن سليمان يقول: ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات إنه لا يجوز أن يكون صلة الذي وإخوته (أن)، وما علمت فيه وفي القرآن "ما إن مفاتحه" إعراب القرآن 3/242.
[40766]:انظر البغوي 6/361.
[40767]:انظر إعراب القرآن للنحاس 3/242، التبيان 2/1025، البحر المحيط 7/132.
[40768]:الهوينا: سقط من النسختين.
[40769]:البيت من بحر الطويل قاله ذو الرُّمة في وصف الناقة وهو في ديوانه 2/624 القرطبي 13/312، اللسان (نوأ)، البحر المحيط 7/132، المفضليات (342)، تنوء: يقال: ناء بالحمل، إذا نهض به مثقلاً، وناء به الحمل، إذا أثقله. لأياً، يقال: ألأى يلأى لأياً، والتأى يلتأي إذا أبطأ. ومعناه: إن آخرها وهي عجيزتها، تنيئها إلى الأرض لضخمها وكثرة لحمها في أردافها.
[40770]:لم أعثر عليه في النوادر، وهو في القرطبي 13/312، البحر المحيط 7/132.
[40771]:بيتان من الرجز لم أهتد إلى قائلهما، وهما في الكامل 3/1311، أساس البلاغة (خصف) والرواية فيهما: أنشدني الرياشي لأعرابي يذم رجلاً اتخذ وليمة: إنَّا وجدنا خلفاً بئس الخلف *** أغلق عنَّا بابه ثمَّ حلف لا يدخل البوَّاب إلاَّ من عرف *** عبداً إذا ما ناء بالحمل خضف والقرطبي 13/312، البحر المحيط 7/132. والشاهد فيه قوله: (ناء بالحمل) أي: نهض به.
[40772]:في ب: حين أفعله. وهو تحريف.
[40773]:والعبارة في الكشاف: (ويقال: ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله) الكشاف 3/178.
[40774]:في ب: اشتغل. وهو تحريف.
[40775]:قال أبو عبيدة: سقط من الأصل.
[40776]:وعبارة أبي عبيدة: (ما إنَّ العصبة ذوي القوة لتنوء بمفاتح نعمه...) مجاز القرآن 2/111.
[40777]:انظر مجاز القرآن 2/111.
[40778]:لم أقف له على ترجمة.
[40779]:المحتسب 2/153، الكشاف 3/178، البحر المحيط 7/132.
[40780]:انظر البحر المحيط 7/132.
[40781]:انظر الكشاف 3/178. بتصرف.
[40782]:وهو قول قتادة. انظر البغوي 6/361.
[40783]:انظر البغوي 6/361.
[40784]:المرجع السابق.
[40785]:المرجع السابق.
[40786]:هو جرير بن حازم الأزدي، أبو النصر البصري، أحد الأعلام، أخذ عن الحسن، وابن سيرين، وطاووس، وغيرهم، وأخذ عنه أيوب، وابن عون، وابنه وهب بن جرير، وغيرهم، مات سنة 170 هـ. تهذيب التهذيب 2/69-72.
[40787]:هو منصور بن زاذان الثقفي مولاهم أبو المغيرة الواسطي، أخذ عن أنس وأبي العالية، وجماعة، وأخذ عنه جرير بن حازم، وخلف بن خليفة وطائفة، مات سنة 131 هـ. تهذيب التهذيب 10/306.
[40788]:هو خيثمة بن أبي خيثمة البصري، أبو نصر، أخذ عن أنس، والحسن البصري، وأخذ عنه الأعمش، ومنصور، وجابر الجعفي. تهذيب التهذيب 3/178.
[40789]:أخرجه سعيد بن منصور وابن منذر عن خيثمة- رضي الله عنه- انظر الدر المنثور 5/136.
[40790]:في ب: هذه الأمور. وهو تحريف.
[40791]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[40792]:انظر الفخر الرازي 25/16-17.
[40793]:في ب: تفسير. وهو تحريف.
[40794]:انظر الفخر الرازي 25/17.
[40795]:انظر الفخر الرازي 25/17.
[40796]:في ب: قال.
[40797]:قال الزمخشري: (ومحل "إذ" منصوب بـ "تنوء") الكشاف 3/178.
[40798]:قال ابن عطية: (وقوله تعالى: "إذ قال له قومه" متعلق بقوله: "فبغى") تفسير ابن عطية 11/335.
[40799]:يعني وقت قوله له: "لا تفرح"، فإنه قال ردّاً على الزمخشري: (وهذا ضعيف جداً، لأن أثقال المفاتح ليس مقيداً بوقت قول قومه له: لا تفرح)، وقال رداً على ابن عطية: (وهو ضعيف أيضاً، لأن بغيه عليهم لم يكن مقيداً بذلك). البحر المحيط 7/132.
[40800]:قال أبو البقاء: (و: "إذ قال له" ظرف لـ "آتيناه") التبيان 2/1025.
[40801]:البحر المحيط 7/132.
[40802]:في ب: أو بمحذوف قدره.
[40803]:وعبارته: (ويجوز أن يكون ظرفاً لفعلٍ محذوفٍ دل عليه الكلام، أي: بغى إذ قال له قومه) التبيان 2/1025.
[40804]:لم يذكر الطبري هذا، وإنما هو قول الحوفي نقله عنه أبو حيان. البحر المحيط 7/132.
[40805]:قال أبو حيان: ( ويظهر أن يكون تقديره: فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز إذ قال له قومه لا تفرح) البحر المحيط 7/132.
[40806]:المختصر (114)، البحر المحيط 7/133.
[40807]:البيت من بحر الوافر، قاله المتنبي، وهو في ديوانه 3/224، الكشاف 3/178، الفخر الرازي 25/26، البحر المحيط 7/132، شرح شواهد الكشاف (100). يقول: أشدُّ الغم عندي وقف السرور الذي تيقن صاحبه الانتقال عنه وهكذا سرور الدنيا كله.
[40808]:كذا في الفخر الرازي، وفي النسختين: وقال.
[40809]:انظر الفخر الرازي 25/16.