قوله تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى } الآية ، قال المفسرون كان ابن عمه ، لأنه قارون بن يصهر{[40744]} بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى ابنُ عمران بن قاهث{[40745]} وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى كان أخا عمران وهما ابنا يصهر ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السَّامري{[40746]} وكان يسمى المنوَّر{[40747]} لحسن صورته{[40748]} .
وقال{[40749]} ابن عباس : إنه كان ابن خالته{[40750]} ، فبغى عليهم ، وقيل : كان عاملاً{[40751]} لفرعون على بني إسرائيل ، وكان يبغي عليهم ويظلمهم{[40752]} ، وقال قتادة : «بَغَى عَلَيْهِمْ » بكثرة المال{[40753]} ( ولم يرع لهم حق الإيمان بل استخف بالفقراء ){[40754]} .
وقال الضحاك : بغى عليهم بالشرك{[40755]} ، وقال القفال : طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده{[40756]} ، وقال ابن عباس : تكبّر عليهم وتجبر{[40757]} ، وقال الكلبي : حسد هارون على الحبورة ، وروي أن موسى عليه السلام{[40758]} لما قطع الله له البحر ، وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة والحبورة وكان له القربان والمذبح وكان لموسى الرسالة ، فوجد قارون لذلك في نفسه ، وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ، ولست في شيء ، لا أصبر أنا على هذا ، فقال موسى : والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله فقال قارون له : فو الله لا أصدِّقك أبداً حتى تأتيني بآية{[40759]} يعرف بها أن جعل ذلك لهارون ، قال : فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كلُّ رجل منهم بعصاه فجاءوا بها ، فألقاها موسى عليه السلام{[40760]} في قبة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى ربه أن يريهم بيان ذلك ، فباتوا يحرسون عصيهم ، فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر{[40761]} وكانت من شجر اللوز ، فقال موسى لقارون : ألا ترى ما صنع الله لهارون ، فقال : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ، فاعتزل قارون ومعه ناس كثير وولي هارون الحبورة والمذبح والقربان ، وكانت بنو إسرائيل يأتون بهَدَايَاهُمْ إلى هارون{[40762]} فيضعها في المذبح وتنزل نار من السماء فتأكلها ، واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال والتَّبَع من بني إسرائيل ، فما كان يأتي موسى ولا يجالسه .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ قارُونَ كانَ من السَّبْعِينَ المُخْتَارَة الَّذِينَ سَمِعُوا كلامَ اللَّه »{[40763]} .
قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ } ما موصولة بمعنى الذي صلتها ( إنَّ ) وما في حيّزها ولهذا كسرت{[40764]} ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين منع الوصل بإنَّ وكان يستقبح ذلك عنهم ، يعني لوجوده في القرآن{[40765]} ، والمفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو الذي يفتح به الباب قاله قتادة ومجاهد وجماعة{[40766]} ، وقيل : مفاتحه خزائنه كقوله { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب } [ الأنعام : 59 ] أي : خزائنه .
قوله : «لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ » فيها وجهان :
أحدهما : بأن الباء للتعدية ، كالهمزة ولا قلب في الكلام ، والمعنى : لتُنيء المفاتح العصبة الأقوياء كما تقول : أَجَأْتُهُ وَجئْتُ به ، وأَذْهَبْتُه وَذَهَبْتُ به{[40767]} ، ومعنى ناء بكذا : نهض به بثقل ، قال :
4017 - تَنُوءُ بِأُخْرَاهَا فَلأْياً قِيَامُهَا *** وَتَمْشي الهُوَيْنَا{[40768]} عن قَرِيبٍ فَتَبْهَرُ{[40769]}
وقال أبو زيد : نُؤْتُ بالعمل أي : نهضت به{[40770]} ، قال :
4018 - إذَا وَجَدْنَا خَلْفاً بِئْسَ الخَلَفْ *** عَبْداً إذَا مَا نَاءَ بالحِمْلِ وَقَفْ{[40771]}
وفسره الزمخشري بالأثقال ، قال : يقال : ناء به الحمل حتى أثقله{[40772]} وأماله{[40773]} ، وعليه ينطبق المعنى أي : لتثقل{[40774]} المفاتح العصبة .
والثاني : قال أبو عبيدة{[40775]} إنَّ في الكلام قلباً ، والأصل : لتنوء العصبة بالمفاتح أي : لتنهض بها{[40776]} لقولهم : عرضت الناقة على الحوض{[40777]} ، وتقدم الكلام في القلب وأن فيه ثلاثة مذاهب ، وقرأ بديل بن ميسرة{[40778]} : لينوء بالياء من تحت والتذكير{[40779]} ، لأنه راعى المضاف المحذوف ، إذ التقدير حملها أو ثقلها{[40780]} ، وقيل الضمير في «مَفَاتِحَه » ل «قَارُونَ » فاكتسب المضاف من المضاف إليه التذكير ، كقولهم : ذهبت أهل اليمامة ، قاله الزمخشري{[40781]} ؛ يعني كما اكتسب «أَهْل » التأنيث اكتسب هذا التذكير ، و «العُصْبَةُ » : الجماعة الكثيرة ، والعصابة مثلها ، قال مجاهد : ما بين العشرة إلى الأربعين{[40782]} ؛ لقول إخوة يوسف { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [ يوسف : 8 ] وكانوا عشرة لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم وقيل : أربعون رجلاً{[40783]} وقيل سبعون{[40784]} روي عن ابن عباس : كان يحمل مفاتحه أربعون رجلاً أقوى ما يكون من الرجال{[40785]} ، وروى جرير{[40786]} عن منصور{[40787]} عن خيثمة{[40788]} قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح منها كنز{[40789]} ، وطعن بعضهم في هذا القول من وجهين الأول : أنَّ مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ولو أنا قدرنا بلدة مملوءة من الذهب والجواهر لكان لها أعداد قليل من المفاتيح ، فأي حاجة إلى تكثير هذه المفاتيح ؟ الثاني : أن المكنوز هي الأموال{[40790]} المدخرة في الأرض فلا يجوز أن يكون لها مفاتح .
وأجيب عن الأول أن المال إذا كان من جنس ( العروض لا من جنس النقد ){[40791]} جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد ، وأيضاً أن قولهم تلك المفاتح بلغت ستين حملاً ليس مذكوراً في القرآن ، فلا تقبل هذه الرواية ، وعن الثاني أن الكنز وإن كان من جهة العرف ما قالوا فقد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق{[40792]} وحمل ابن عباس والحسن المفاتح على نفس{[40793]} المال وهذا أبين ، قال ابن عباس كانت خزائنه يحملها أربعون رجلاً أقوياء{[40794]} ، وقال أبو مسلم المراد من المفاتح العلم والإحاطة ، كقوله تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] والمراد : آتيناه من الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها ما يتعب القائمين أن يحفظوها{[40795]} .
قوله : «إذْ قَالَ » فيه أوجه : أن يكون معمولاً ل «تَنُوءُ » قاله{[40796]} الزمخشري{[40797]} ، أو ل «بَغَى » قاله ابن عطية{[40798]} ، وردَّه أبو حيان بأن المعنى ليس على التقييد بهذا الوقت{[40799]} أو ل «آتَيْنَاهُ » قاله أبو البقاء{[40800]} وردَّه أبو حيان بأن الإيتاء لم يكن ذلك الوقت{[40801]} .
أو لمحذوف ، فقدَّره{[40802]} ، أبو البقاء : بغى عليهم{[40803]} وهذا ينبغي أن يردّ بما ردَّ به قول ابن عطية . وقدَّره الطبري : اذكر{[40804]} وقدره أبو حيان أظهر الفرح{[40805]} وهو مناسب ، واعلم أنه كان في قومه من وعظه بأمور :
أحدها : قوله : لاَ تَفْرَح إنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ ، وقرى الفارحين - حكاها عيسى الحجازي{[40806]} - والمراد لا يلحقه من البطر والتمسك بالدنيا ما يلهيه عن أمر الآخرة ، قال بعضهم : إنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها ، وأمَّا من يعلم أنَّه سيفارق الدنيا عن قريب لم يفرح . وما أحسن قول المتنبي :
4019 - أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدِي في سُرُورٍ *** تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ{[40807]}
( وأحسن وأوجز منه ما قال تعالى ){[40808]} { لِكَيْلاَ تَأْسَوْا على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] قال ابن عباس : كان فرحه ذلك شركاً ، لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى{[40809]} .