اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ ثُمَّ جَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۚ يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ لَهُ ٱلۡمُلۡكُۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُصۡرَفُونَ} (6)

ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل السفلية فبدأ بذكر الإنسان فقال : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم .

قوله : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا } في «ثم » هذه أوجه :

أحدها : أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك أنه يروى أنه تعالى أخرجنا من ظهر آدم كالذَّرِّ ، ثم خلق حواء بعد ذلك بزمانٍ .

الثاني : أنها على بابها أيضاً ولكن لمَدْرَكٍ آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله «وَاحِدَةٍ » إذ التقدير من نفس وحِّدَتْ أي انفردت ثم جعل منها زوجها .

الثالث : أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل : كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها .

الرابع : أنها للترتيب في الأحوال والرُّتَب ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ما وجه قوله : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وما تعْطيه من التراخي ؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالاً على وحدانيته وقدرته بتشعيب هذا الخلق الثابت للحصر من نفس آدم عليه ( الصلاة و ) السلام وخلق حواء من قُصَيْرَاه إلا أنّ إحديهما جعلها الله عادة مستمرةً والأخرى لم تجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قُصَيْرَى رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجْلَبَ لعَجَب السامع فعطفها «بِثُمَّ » على الآية الأولى للدلالة على مُبايَنَتِهَا فضلاً ومزيًّة وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهي مِنَ التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود .

قال ابن الخطيب : إن كلمة «ثمَّ » كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر أحد المكانين عن الآخر كقول القائل : بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ اليَوْمَ ثم ما صَنَعْتَ أَمْسِ أعْجَبُ ، وأَعْطَيْتُكَ اليَوْمَ شَيْئاً ثُمَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ أَمْس أَكْثر .

قوله : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } عطف على «خَلَقَكُمْ » . والإنزال يَحْتَمِلُ الحقيقةَ ، يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها . وَيحْتَمِلُ المجاز . وله وجهان :

أحدهما : أنها لما لم تعش إلا بالنبات والماء والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزل عليها وهو في الحقيقة مطلق على سبب السبب كقوله :

أَسْنِمَةُ الآبالِ فِي رَبَابِهِ*** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله :

صَارَ الثَّرِيدُ في رُؤُوسِ العِيدَانِ*** . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله :

إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِاَرْضِ قَوْمٍ*** رَعَيْنَاهُ وإِنْ كَانُوا غِضَابَا

والثاني : أن قضاياه وأحكامه منزلةً من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ ، وهو أيضاً سبب في إيجادها . وقال البغوي : معنى الإنزل ههنا الإحداث والإنشاء كقوله : { أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } [ الأعراف : 26 ] ، وقيل : معناه : أنزل لكم من الأنعام جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى ثمانية أزواج أي ثمانية أصناف ، وهي الإبل والبَقَر والضَّأن والمَعِز ، وتقدَّم تفسيرها في سورة الأنْعَام .

قوله : { يَخْلُقُكُمْ } هذه الجملة استئنافية ، ولا حاجة إِلى جَعلهَا خبر مبتدأ مضمر بل استؤنفت للإخبار بجملة فعلية ، وقد تقدم خلاف القراء في كسر الهمزة في «اُمَّهَاتِكُمْ » .

قوله : «خَلْقاً » مصدر «خَلَقَ » وقوله : { مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } صفة له فهو لبيان النوع من حيث إنه لما وصف زاد معناه على معنى عامله ، ويجوز أن يتعلق «مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ » بالفعل قبله ، فيكون خلقاً لمجرد التوكيد .

قوله : { فِي ظُلُمَاتٍ } متعلق «بخَلْقٍ » الذي قبله ، ولا يجوز تعلقه «بخَلْقاً » المنصوب ، لأنه مصدر مؤكد ، وإن كان أبو البقاء جوزه ثم منعه بما ذكرت فإنه قال : و «في » يَتَعَلَّق به ، أي «بخَلْقاً » أو «بخَلْق » الثاني ، لأن الأول مؤكد فلا يعمل ، ولا يجوز تعلقه بالفعل قبله لأنه قد تعلق به حرف مثله ، ولا يتعلق حرفان متحدان لفظاً ومعنى إلا بالبَدَلِيَّةِ أو العطف ، فإن جعلت «في ظلمات » بدلاً من { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } بدل اشتمال لأن البطون مشتملة عليها وتكون بدلاً بإعادة العامل جاز ذلك أعني تَعَلُّقَ الجَارَّين ب «يخْلُقكم » ولا يضر الفَصْلُ بين البَدَل والمبدل منه بالمصدر لأنه من تَتِمَّة العامل فليس بأجنبيِّ .

فصل :

هذه الحالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات ، وقوله : «خلقاً من بعد خلق » معناه ما ذكر الله تعالى في قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } الآيات [ المؤمنون : 12-14 ] .

وقوله : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } قال ابن عباس : ظلمة البطن ، وظلمة الرَّحِم ، وظلمة المشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن . ووجه الاستدلال بهذه الآيات مذكور في قوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } [ آل عمران : 6 ] .

قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يجوز أن يكون «الله » خبراً «لِذَلِكُمْ » و «ربُّكُمْ » نعت لِلَّه أو بيان له أو بدل منه . ويجوز أن يكونَ «الله » بدلاً من «ذلكم » و «ربكم » خبره ، والمعنى : ذَلِكُمُ اللَّهُ الذي خلق هذه الأشياء رَبُّكُمْ .

قوله : { لَهُ الملك } يجوز أن يكون مستأنفاً ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون «الله » بدلاً من «ذلكم » و «ربكم » نعت لله أو بدل منه ، والخبر الجملة من «له الملك » . ويجوز أن يكون الخبر نفس الجار والمجرور وحده ، و «المُلْكُ » فاعل به فهو من باب الإخبار بالمفرد .

قوله : { لا إله إِلاَّ هُوَ } يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون خبراً بعد خبر .

فصل :

قوله : «له الملك » يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره ، ولما ثبت أنه لا مُلْكَ إلا له وجب القول بأن لا إله إلا هو .

ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته وحكمته ورحمته زَيَّف طريقة المشركين وقال : { فأنى تُصْرَفُونَ } عن طريق الحق بعد هذا البيان ، وهذا يدل على أنهم لم يصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفهم عنها غيرُهم وما ذلك الغير إلا الله وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل أحد يريد تحصيل الحق والصواب فلمَّا لم يحصل ذلك فإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه . واستدلت المعتزلة بهذه الآيات أيضاً لأن قوله تعالى : { فأنى تُصْرَفُونَ } تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله لم يبق لهذا التعجب معنى .