اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلۡخَالِصُۚ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ مَا نَعۡبُدُهُمۡ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلۡفَىٰٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ فِي مَا هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ كَٰذِبٞ كَفَّارٞ} (3)

المراد بإخلاص الدين الطاعة ، { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } قال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله . واعلم أنّ العبادة فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول يؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب الانقياد له وأما الإخلاص فهو أن أن يكون الداعي إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد الانقياد والامتثال ، واحتج قَتَادَهُ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ حِصْنِي ، وَمَنْ دَخَلَ حَصْنِي أَمِنَ عَذَابِي وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا ينتفع بالطاعة مع الكفر » وقال الأكثرون الآية متناولة لكل ما يخلق الله به من الأوامر والنواهي لأن قوله تعالى «فاعبد الله » عام .

ورُوِيَ أن امرأة الفَرَزْدَق لما قَرُبَتْ وفاتها أوصت أن يصلي الحسن البصري عليها ، فلما دفنت قال الحسن للفرزدق : أبا فِرَاس ما الذي أعددت لهذا الأمر ؟ قال شهادة أن لا إله إلاّ الله . قال الحسن : هذا العمود فأي الطُّنُب ؟ فبين هذا اللفظ الوجيز أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة . قال القاضي : فأما ما يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ وأبي الدرداء : وإنْ زَنَا وإنْ سَرقَ على رغم أنف أبي الدرداء فإن صح فإنه يجب أن يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يَجُز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن ، ولأنه يوجب أن يكون الإنسان مزجوراً عن الزّنا والسَّرقة ويكون إغراء له بفعل القبيح ، وذلك ينافي حكمة الله ، وهذا يدل على أن اعتقاد فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين ، هذا تمام قول القاضي .

قال ابن الخطيب : فقال له : أمّا قولك : إن القول بالمغفرة مخالفٌ للقرآن فليس كذلك بل القرآن يدل عليه قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] وقال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] كما يقال : رأيت الأمير على أكله وشربه أي حين كونه آكلاً وشارباً . وقال : { ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] وأما قوله : إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح فيقال له : إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلاً . وهذا مذهب البَغْدَاديّ من المعتزلة ، وأنت لا تقول به لأن مذهب البصريين غفرانُ الذنب جائز عقلاً ، وأيضاً فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة لأنه إذا علم أنه إذا أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر ، وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضر ( ه ) ذلك الذنب البتة . ثم نقول : مَذْهَبُنَا أنّا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة إلا أنه تعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من يشَاء وإذا كان الأمر كذلك كان الخوف حاصلاً والله أعلم .

قوله : { والَّذِينَ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن يكون «الذين » مبتدأ ، وخبره قول مضمر حذف وبقي معموله وهو قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ } والتقدير : يَقُولُون مَا نَعْبُدُهُمْ .

الثاني : أن يكون الخبر قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ويكون ذلك القول المضمر في محل نصب على الحال أي والَّذين اتخذوا قَائِلينَ كذا إِنًّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُم .

الثالث : أن يكون القول المضمر ) بدلاً من الصلة التي هي «اتخذوا » والتقدير : والذين اتخذوا قالوا ما نعبدهم ، والخبر أيضاً : إنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ . و «الَّذِينَ » في هذه الأقوال عِبَارَةٌ عن المشركين المتخذين غيرهم أولياء .

الرابع : أن يكون «الَّذين » عبارة عن الملائكة وما عبدوا من دون الله كعُزَيْرٍ ، واللاَّتِ والعُزَّى ويكون فاعل «اتَّخَذَ » عائداً على المشركين ومفعول الاتّخاذ الأول محذوف هو عائد الموصول ، والمفعول الثاني هو : «أَوْليَاء » والتقدير : والذين اتخذهم المشركون أولياء . ثم لك في خبر هذا المبتدأ وجهان :

أحدهما : القول المضمر والتقدير والَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ المشرِكُونَ أولياء يقول فيهم المشركون ما نعبدهم إلا .

الثاني : أن الخبر هي الجملة من قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وقرئ : «ما نُعْبُدُهُمْ » بضم النون إتباعاً للباء ، ولا يعتدُّ بالساكن .

قوله : { زلفى } مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه مُلاَقٍ لعامله في المعنى ، والتقدير والمعنى : ليزْلِفُونا زلفى ولِيُقَرِّبُونَا قُرْبَى . وجوز أبو البقاء أن يكون حالاً مؤكدة .

فصل :

والذين اتخذوا من دونه أي من دون الله أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله . وهذا الضمير عائد إلى الأشياء التي عبدت ، وهذا الكلام إنما يليق بالعقلاء لأن الضمير في «نَعْبُدُهُمْ » ضمير العقلاء فيحمل على المسيح وعُزَيْر والملائكة لكي يشفعوا لهم عند الله . ويمكن أن يُحْمَل على الأصنام أيضاً لأن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجرٌ ، وإنما يعبد ربه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الملائكة أو تماثيل الصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى أصحاب تلك الصور .

ولما حكى الله تعالى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه :

الأول : أنه اقتصر في الجواب على مجرد القول فقال : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .

واعلم أن المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وأصرّ عليه فعلاجه أن يحتال بحِيلةٍ توجب زَوَالَ الإصرار عن قلبه ، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يذكر له الدليل الدالَّ على بُطْلاَنِهِ فيكون هذا الطريق أفضى إلى المقصود كما يقول الأطباء : لا بد من تقديم المُنْضج على سقي المُسهل ، فإن تناول المنضج يصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال ، فإذا سقي المُسهل بعد ذلك حصل النقَاء التامّ فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مَجْرَى سَقْي المنضج أولاً ، وإسماع الدليل ثَانِياً يجْرِي مَجْرَى المُنْضج المسهل ثانياً . فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد .

ثم قال اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي من أصر على الكذب والكفر بقي مَحرُوماً من الهداية . والمراد بهذا الكذب وصفهم للأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة ، ويحتمل أن يكون المراد بالكفار كفران النعمة لأن العبادة نهاية التعظيم وذلك لا يليق إلا ممن5 يصدر عنه غاية الإنعام وهو الله تعالى ، والأوثان لا مدخل لها في الإنعام فعبادتها توجب كفران نعمة المنعم الحق .

قوله : { كَاذِبٌ كَفَّارٌ } قرأ الحسنُ والأَعْرَجُ- وتُرْوَى عن أنس - كَذَّاب كفار ، وزيدُ بنُ عَليٍّ كَذُوبٌ كفورٌ .