وهذا نوع ثَالِثٌ من أحْكَامِهم الفَاسِدةِ ، و هو أنَّهُم قسموا أنْعَامهم أقْسَاماً :
فأولها : قولهم : هذه أنْعَام وحرْثٌ حِجْر " لا يَطْعَمُها " .
قرا الجمهور{[15328]} " أنْعَام " بصِيغَة الجَمْعِ وأبان بن عثمان " نَعَمٌ " بالإفْرَاد ، وهو قَرِيبٌ لأن اسْم الجِنْس يقُوم مقام الجَمْعِ ، وقرأ الجمهور{[15329]} : " حِجْر " بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم .
وقرأ الحسن وقتادة والأعْرَج : بضم الحَاءِ وسُكُون الجيم .
ونقل عن الحسن وقتادة أيضاً : فتح الحضاءِ وسكن الجيم ، ونقل عن أبان بن عُثْمَان : ضمُّ الحاء الجيم معاً .
وقال هَارُون : كان الحسن يَضُمَّ الحاء من " حِجْر " حيث وقع في القُرْآن إلاَّ موضعاً واحداً [ وهو ] : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ]
والحاصل : أن هذه المادَّة تدل على المَنْع والحَصْر ؛ ومنه : فلان في حِجْر القَاضِي أي : في مَنْعِه ، وفي حِجْري ، أي : ما يَمْنَع من الثُّوْاب أن ينْفَلِت منه شَيْءٌ ، وقد تقدم تَحْقِيق ذلك في النِّسَاء .
فقوله : " وحَرْث حِجْر " أي : مَمْنُوع ف " فِعْل " بمعنى مَفْعُول ؛ كالذَّبْح والنَّطْح بمعنى مَذْبُوح ومَنْطُوح .
فإن قيل : قد تقدَّم شيئان : وهما أنْعَام وحَرْث ، وجيء بالصَّفَة مفردة .
فالجواب : أنه في الأصْل يُذكَّر ويُوحَّد مطلقاً .
قال الزَّمَخْشَري{[15330]} : " ويستوي في الوَصْف به المذكَّر والمؤنَّث والواحد والجمع ؛ لأن حكمه حكم الأسْمَاء غير الصِّفاتِ " يعني بكونه حُكْمُه حكم الأسْمَاء : أنه في الأصْل مصْدَر لا صِفَة ، فالاسم هنا يُرَادُ به المَصْدَر{[15331]} ، وهومُقَابِلُ الصِّفة .
وأما بقية القراءات : فقال أبُو البقاء{[15332]} : " إنها لُغَاتٌ في الكَلِمَةِ " وفسر معناها بالممْنُوع .
قال شهاب الدين{[15333]} : ويجوز أن يكُون المَضْمُوم الحاء والجيم مَصْدراً ، وقد جاء من المصادر للثُّلاثي ما هُو على وَزْن " فُعُل " بضمِّ الفاء والعَيْن ، نحو : حُلُم ، ويجُوز أن يكون جَمْع " حَجْر " بفتح الحاءِ وسكون الجيم ، و " فُعُل " قد جاء قَلِيلاً جمعاً " لفَعْل " نحو : سَقْف وسُقُف ، ورَهْن ورُهُن ، وأن يكون جَمْعاً ل " فِعْل " بكسر الفاء ، و " فُعُل " أيضاً قد جَاء جمعاً " لفِعْل " بكسر الفاءِ وسُكُون العين ، نحو : حِدْج وحُدُج ، وأما حُجْر بضمِّ الحاء وسُكون الجيم : فهو مخَفَّفٌ من المضمُومة ، فيجوز أن يكُون مصدرا وأن يكون جَمْعاً لحَجْر أو حِجْر .
وقرأ أبَيّ بن كَعْب{[15334]} ، وعبد الله بن العبَّاس ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد اللَّه بن الزُّبَيْر ، وعِكْرِمَة ، وعمرو بن دِينَار ، والأعمش : حِرج بكسْر الحاَء وراء سَاكِنَة مقدَّمة على الجيم ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنَّهَا من مادة الحَرَج وهُو التَّضْييق .
قال أبو البقاء{[15335]} : واصلُه " حَرِج " بفتح الحاء وكسر الراء ، ولكنه خُفِّف ونُقِل ؛ مثل فَخْذ في فَخِذ .
قال شهاب الدِّين{[15336]} : ولا حَاجَة إلى ادِّعاء ذلك ، بل هذا جَاءَ بطَريق الأصَالة على وَزْن فِعْل .
والثاني : أنه مَقْلُوب من حجر ، قُدِّمَتْ لامُ الكَلِمَة على عَيْنها ، ووزنه " فِلْع " ؛ كقولهم : نَاء في نَأى ، ومعيق في عَمِيق ، والقَلْب قليل في لسانهم ، وقد قدَّمت منه جُمْلَة في المائدة عند قوله - تبارك وتعالى- : { أَشْيَاءَ } [ المائدة : 101 ] .
قوله : " لا يَطْعَهُما إلى مَنْ نَشَاءُ " هذه الجُمْلَة في محلِّ رفْع نَعْتًا ل " أنعام " وصفوه بوَصْفَيْن :
والثاني : أنه لا يَأكُلُه إلا من شَاءُوا ، وهم الرِّجال دُون النِّساء ، أو سَدَنة الأصْنَام .
قال مُجَاهد - رضي الله عنه- : يعني بالأنْعَام : البَحِيرة والسَّائِبَة والوصِيلَة والحَامِي ، لا يَطْعَمُهَا ولا يأكُلها إلا الرِّجَال دُون النِّساء .
وقال غيره : الأنْعام ما جَعَلُوها للَّه ولآلهتهم على ما تقدم [ " ومَنْ نَشَاءُ " فاعل ب " يَطْعَمُهَا " وهو استِثْنَاء مفرَّغ ، و " بزعمهم " : حالٌ كما تقدَّم ]{[15337]} في نظيره .
قوله : " وأنْعَامٌ حُرِّمتْ ظُهُورُهَا " وهي البَحَائِر والسَّوائب والحَوَامِي ، و هذا هو القَسْم الثَّاني وقد تقدَّم في المَائِدةَ ، والقسم الثالث : أنعام لا يَذْكُرُون اسْم اللَّه عليها بالذَّبْح ، وإنما يَذْكُرُون عليها أسْمَاء الأصْنَام .
وقيل : لا يَحُجُّون عليها ، ولا يُلَبُّون على ظُهُورهِا ، ولا يَرْكَبُونها لفعل الخَيْرِ ؛ لأنه لما جرت العادة بِذِكْر اسْم اللَّه على فِعْل الخَيْر .
قوله : " افْتِرَاءٌ " فيه أربعة أوجه :
أحدها- وهو مذهب سيبويه{[15338]} - : أنه مَفْعُول من أجْلِه ، أي : قالوا ما تقدَّم لأجْل الافْتِرَاء على البَاري - تبارك وتعالى- أي : يزْعُمُون أن الله أمرهُم به افْتِرَاء عليه .
الثاني : مَصْدر على غير الصَّدْر ؛ لأن قَوْلَهُم المحْكي عنهم افْتِرَاء ، فهو نَظير " قَعَد القُرْفُضَاء " وهو قول الزَّجَّاج{[15339]} .
الثالث : أنه مصدر عامله من لَفْظِه مُقَدَّر ، أي : افْتَروا ذلك افْتِرَاء .
الرابع : أنه مَصْدَر في موضع الحالِ ، أي : قالوا ذلك حَال افْتِرَائهم ، وهي تُشْبِه الحال المؤكِّدة ؛ لأن هذا القَوْل المَخْصُوص لا يَكُون قَائِلُه إلا مُفْتَرِياً .
وقوله : " عَلَى اللَّه " يجوز تعلُّقه ب " افْتِرَاءً " على القول الأوَّل والرَّابع ، وعلى الثاني والثَّالث ب " قالوا " لا ب " افْتِرَاءً " ؛ لأن المصدر المؤكد لا يَعْمَل ، ويجُوز أن يتعلَّق بمحذُوف صِفَة ل " افْتِراءً " وهذا جَائِزٌ على كل الأقوالِ .
قوله : { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } والمقصود منه الوعيد ، و " الباء " في قوله : " بِمَا " سببيّة ، و " مَا " مَصْدَريَّة ، أو موصُوفة ، أو بمَعْنَى الَّذِي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.