اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالُواْ هَٰذِهِۦٓ أَنۡعَٰمٞ وَحَرۡثٌ حِجۡرٞ لَّا يَطۡعَمُهَآ إِلَّا مَن نَّشَآءُ بِزَعۡمِهِمۡ وَأَنۡعَٰمٌ حُرِّمَتۡ ظُهُورُهَا وَأَنۡعَٰمٞ لَّا يَذۡكُرُونَ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا ٱفۡتِرَآءً عَلَيۡهِۚ سَيَجۡزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ} (138)

وهذا نوع ثَالِثٌ من أحْكَامِهم الفَاسِدةِ ، و هو أنَّهُم قسموا أنْعَامهم أقْسَاماً :

فأولها : قولهم : هذه أنْعَام وحرْثٌ حِجْر " لا يَطْعَمُها " .

قرا الجمهور{[15328]} " أنْعَام " بصِيغَة الجَمْعِ وأبان بن عثمان " نَعَمٌ " بالإفْرَاد ، وهو قَرِيبٌ لأن اسْم الجِنْس يقُوم مقام الجَمْعِ ، وقرأ الجمهور{[15329]} : " حِجْر " بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم .

وقرأ الحسن وقتادة والأعْرَج : بضم الحَاءِ وسُكُون الجيم .

ونقل عن الحسن وقتادة أيضاً : فتح الحضاءِ وسكن الجيم ، ونقل عن أبان بن عُثْمَان : ضمُّ الحاء الجيم معاً .

وقال هَارُون : كان الحسن يَضُمَّ الحاء من " حِجْر " حيث وقع في القُرْآن إلاَّ موضعاً واحداً [ وهو ] : { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ]

والحاصل : أن هذه المادَّة تدل على المَنْع والحَصْر ؛ ومنه : فلان في حِجْر القَاضِي أي : في مَنْعِه ، وفي حِجْري ، أي : ما يَمْنَع من الثُّوْاب أن ينْفَلِت منه شَيْءٌ ، وقد تقدم تَحْقِيق ذلك في النِّسَاء .

فقوله : " وحَرْث حِجْر " أي : مَمْنُوع ف " فِعْل " بمعنى مَفْعُول ؛ كالذَّبْح والنَّطْح بمعنى مَذْبُوح ومَنْطُوح .

فإن قيل : قد تقدَّم شيئان : وهما أنْعَام وحَرْث ، وجيء بالصَّفَة مفردة .

فالجواب : أنه في الأصْل يُذكَّر ويُوحَّد مطلقاً .

قال الزَّمَخْشَري{[15330]} : " ويستوي في الوَصْف به المذكَّر والمؤنَّث والواحد والجمع ؛ لأن حكمه حكم الأسْمَاء غير الصِّفاتِ " يعني بكونه حُكْمُه حكم الأسْمَاء : أنه في الأصْل مصْدَر لا صِفَة ، فالاسم هنا يُرَادُ به المَصْدَر{[15331]} ، وهومُقَابِلُ الصِّفة .

وأما بقية القراءات : فقال أبُو البقاء{[15332]} : " إنها لُغَاتٌ في الكَلِمَةِ " وفسر معناها بالممْنُوع .

قال شهاب الدين{[15333]} : ويجوز أن يكُون المَضْمُوم الحاء والجيم مَصْدراً ، وقد جاء من المصادر للثُّلاثي ما هُو على وَزْن " فُعُل " بضمِّ الفاء والعَيْن ، نحو : حُلُم ، ويجُوز أن يكون جَمْع " حَجْر " بفتح الحاءِ وسكون الجيم ، و " فُعُل " قد جاء قَلِيلاً جمعاً " لفَعْل " نحو : سَقْف وسُقُف ، ورَهْن ورُهُن ، وأن يكون جَمْعاً ل " فِعْل " بكسر الفاء ، و " فُعُل " أيضاً قد جَاء جمعاً " لفِعْل " بكسر الفاءِ وسُكُون العين ، نحو : حِدْج وحُدُج ، وأما حُجْر بضمِّ الحاء وسُكون الجيم : فهو مخَفَّفٌ من المضمُومة ، فيجوز أن يكُون مصدرا وأن يكون جَمْعاً لحَجْر أو حِجْر .

وقرأ أبَيّ بن كَعْب{[15334]} ، وعبد الله بن العبَّاس ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد اللَّه بن الزُّبَيْر ، وعِكْرِمَة ، وعمرو بن دِينَار ، والأعمش : حِرج بكسْر الحاَء وراء سَاكِنَة مقدَّمة على الجيم ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أنَّهَا من مادة الحَرَج وهُو التَّضْييق .

قال أبو البقاء{[15335]} : واصلُه " حَرِج " بفتح الحاء وكسر الراء ، ولكنه خُفِّف ونُقِل ؛ مثل فَخْذ في فَخِذ .

قال شهاب الدِّين{[15336]} : ولا حَاجَة إلى ادِّعاء ذلك ، بل هذا جَاءَ بطَريق الأصَالة على وَزْن فِعْل .

والثاني : أنه مَقْلُوب من حجر ، قُدِّمَتْ لامُ الكَلِمَة على عَيْنها ، ووزنه " فِلْع " ؛ كقولهم : نَاء في نَأى ، ومعيق في عَمِيق ، والقَلْب قليل في لسانهم ، وقد قدَّمت منه جُمْلَة في المائدة عند قوله - تبارك وتعالى- : { أَشْيَاءَ } [ المائدة : 101 ] .

قوله : " لا يَطْعَهُما إلى مَنْ نَشَاءُ " هذه الجُمْلَة في محلِّ رفْع نَعْتًا ل " أنعام " وصفوه بوَصْفَيْن :

أحدهما : أنه حِجْرٌ .

والثاني : أنه لا يَأكُلُه إلا من شَاءُوا ، وهم الرِّجال دُون النِّساء ، أو سَدَنة الأصْنَام .

قال مُجَاهد - رضي الله عنه- : يعني بالأنْعَام : البَحِيرة والسَّائِبَة والوصِيلَة والحَامِي ، لا يَطْعَمُهَا ولا يأكُلها إلا الرِّجَال دُون النِّساء .

وقال غيره : الأنْعام ما جَعَلُوها للَّه ولآلهتهم على ما تقدم [ " ومَنْ نَشَاءُ " فاعل ب " يَطْعَمُهَا " وهو استِثْنَاء مفرَّغ ، و " بزعمهم " : حالٌ كما تقدَّم ]{[15337]} في نظيره .

قوله : " وأنْعَامٌ حُرِّمتْ ظُهُورُهَا " وهي البَحَائِر والسَّوائب والحَوَامِي ، و هذا هو القَسْم الثَّاني وقد تقدَّم في المَائِدةَ ، والقسم الثالث : أنعام لا يَذْكُرُون اسْم اللَّه عليها بالذَّبْح ، وإنما يَذْكُرُون عليها أسْمَاء الأصْنَام .

وقيل : لا يَحُجُّون عليها ، ولا يُلَبُّون على ظُهُورهِا ، ولا يَرْكَبُونها لفعل الخَيْرِ ؛ لأنه لما جرت العادة بِذِكْر اسْم اللَّه على فِعْل الخَيْر .

قوله : " افْتِرَاءٌ " فيه أربعة أوجه :

أحدها- وهو مذهب سيبويه{[15338]} - : أنه مَفْعُول من أجْلِه ، أي : قالوا ما تقدَّم لأجْل الافْتِرَاء على البَاري - تبارك وتعالى- أي : يزْعُمُون أن الله أمرهُم به افْتِرَاء عليه .

الثاني : مَصْدر على غير الصَّدْر ؛ لأن قَوْلَهُم المحْكي عنهم افْتِرَاء ، فهو نَظير " قَعَد القُرْفُضَاء " وهو قول الزَّجَّاج{[15339]} .

الثالث : أنه مصدر عامله من لَفْظِه مُقَدَّر ، أي : افْتَروا ذلك افْتِرَاء .

الرابع : أنه مَصْدَر في موضع الحالِ ، أي : قالوا ذلك حَال افْتِرَائهم ، وهي تُشْبِه الحال المؤكِّدة ؛ لأن هذا القَوْل المَخْصُوص لا يَكُون قَائِلُه إلا مُفْتَرِياً .

وقوله : " عَلَى اللَّه " يجوز تعلُّقه ب " افْتِرَاءً " على القول الأوَّل والرَّابع ، وعلى الثاني والثَّالث ب " قالوا " لا ب " افْتِرَاءً " ؛ لأن المصدر المؤكد لا يَعْمَل ، ويجُوز أن يتعلَّق بمحذُوف صِفَة ل " افْتِراءً " وهذا جَائِزٌ على كل الأقوالِ .

قوله : { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } والمقصود منه الوعيد ، و " الباء " في قوله : " بِمَا " سببيّة ، و " مَا " مَصْدَريَّة ، أو موصُوفة ، أو بمَعْنَى الَّذِي .


[15328]:ينظر: الدر المصون 3/195، البحر المحيط 4/233.
[15329]:ينظر: الدر المصون 3/195، البحر المحيط 4/233.
[15330]:ينظر: الكشاف 2/71.
[15331]:في ب: العدد.
[15332]:ينظر: الإملاء 1/262.
[15333]:ينظر: الدر المصون 3/195.
[15334]:ينظر: الدر المصون 3/195.
[15335]:ينظر: الإملاء 1/262.
[15336]:ينظر: الدر المصون 3/196.
[15337]:سقط في أ.
[15338]:ينظر: الكتاب 1/164.
[15339]:ينظر: معاني القرآن 2/323.