لما أمَرَهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالتَّوْحِيد المَحْضِ ، أمَره أن يَذْكر ما يَجْرِي مُجْرى الدَّليل على صِحَّة هذا التَّوحِيد ، وتقريره من وجهين :
الأول : أنَّ أصناف المُشْرِكين أربعة ؛ لأنَّ عبدة الأصنام أشْرَكُوا باللَّه ، وعبدة الكواكِب أشْرَكُوا باللَّه ، والقَائِلون بيزدان وأهرمن أشركوا ، والقَائِلُون بأنَّ المسيح ابنُ اللَّه والملائكة بنات الله أشْرَكُوا ، فهؤلاء هم فِرَقُ المُشْرِكين ، وكلُّهم يَعْتَرفُون بأن اللَّه -سبحانه وتعالى- هو الخَالِق لِلكُلِّ ؛ لأن عبدة الأصنام معترِفُون بأن اللَّه -تعالى- خالقُ السماوات والأرْضِ وكلِّ ما في العالم من الموْجُودات وهُو الخالقُ للأصْنامِ والأكوان بأسْرِها .
وأما القَائِلُون بيزدان وأهرمن فهُم أيضاً معترِفُون بأنَّ الشَّيْطَان مُحْدَث ، وأنَّ مُحْدِثهُ هو اللَّه - تبارك وتعالى- .
وأمَّا القَائِلُون بالمسيح والملائكة ، فهُم أيضاً معتَرِفُون بأنَّ اللَّه - سبحانه وتعالى- خَلَق الكُلَّ ؛ فثبت أنَّ طوائِف المُشْرِكين أطْبَقُوا على أنَّ الله - تبارك وتعالى- خلق هؤلاء الشُّرَكَاء .
وإذا عُرِف هذا ، فاللَّه -سبحانه وتعالى- قال لرسُوله صلى الله عليه وسلم : قل يا مُحَمَّد أغير اللَّه أبْغِي ربّاً ، مع أنَّ هؤلاء الذين اتِّخَذُوا رَبّاً غيراللَّه ، أقَرُّوا بأن اللَّه تبارك وتعالى خالق تلك{[15688]} الأشْيَاء .
وهل يَدْخُل في العَقْل جعل المرْبُوب شَريكاً للرَّبِّ ، وجعل العَبْد شَرِيكاً للمَوْلَى{[15689]} ، وجَعْل المَخْلُوق شَريكاً للخَالِق ؟ ولمَّا كان الأمْر كذلك ، ثبت أنَّ إتَّخَاذّهُم رَباً غيْر اللَّه [ قول ] فاسدٌ ودينٌ{[15690]} بَاطِلٌ .
الثاني : أن الموجود إمَّا واجبٌ لِذَاته وإمَّا ممكن لِذَاته ، وثبت أن واجِبَ الوُجُود واحدٌ ، وثبت أنَّ ما سِوَاه مُمْكِنٌ لذاته ، وثَبَت أن المُمْكِن لذاته لا يُوجد إلاَّ بإيجَادِ الواجِبِ لذَاتِهِ ، وإن كان الأمْر كذلك ، كان اللَّه -تعالى- ربّاً لكُلِّ شَيْء .
وإذا ثبت هذا ، فَنقُول : صَرِيحُ العَقْل يَشْهَدُ بأنَّه لا يَجُوز جَعْلُ المرْبُوب شَريكاً للرَّبِّ ، وجَعْل المَخْلُوق شريكاً للخَالِق ، وهذا هو المُرَاد من قوله -تعالى- : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } .
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- معنى ربّاً : أي سيِّداً وهُو رب كُلِّ شيء ، وذلك أنَّ الكُفَّار كانوا يقُولون للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ارْجع إلى ديننا{[15691]} .
قال ابن عبَّاسٍ ، قال{[15692]} الوليدُ بن المُغيرَة : اتبعُوا سبيلي ، أحْمِل عَنْكُم{[15693]} أوْزَاركم ، فقال اللَّه -تبارك وتعالى- : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } ومعناه : أنَّ إثْمَ الجانِي عليه ، لا على غيره " ولا تَزِرُ وَازرةٌ وزْرَ أخرَى " أي : لا يُؤاخَذُ أحدٌ بذَنْب غيره .
قال القُرْطُبيُّ{[15694]}- رحمه الله - : وأصْل الوِزْر : الثِّقَل ، ومنه قوله – تعالى- : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ } [ الشرح : 2 ، 3 ] وهو هنا : الذنب ؛ كما قال -تعالى- : { يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } [ الأنعام : 31 ] وقد تقدَّم قول الأخْفَش : يُقَال : وَزِر يَوْزَر ، وَوَزَرَ يزر ، وَوُزِرَ يُوزَر وِزْراً .
قيل : نَزلَتْ رداً على العرب في الجاهليَّة من مُؤاخَذَة الرَّجُل بِأبيه ، وابْنِه ، وبجريرة حَلِيفِهِ{[15695]} .
قال القُرْطُبِي{[15696]} : يحتمل أنْ يكُون المُراد بِهَذَه الآية في الآخرة ، وكذلك الَّتِي قَبْلَها ، فأمَّا في الدنيا : فقد يُؤاخَذُ بعضُهم بِجُرْم بعضٍ ، ولا سيَّما إذا لم يَنْه الطَّائع العَاصِي ، كما تقدّم في حديث أبي بكر - رضي الله عنه - : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ المائدة : 105 ] وقال -تعالى- : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] .
وقالت زَيْنَب بِنْت جَحْش : " يا رسُول الله ، أنَهْلَكُ وفينا الصَّالِحُون ؟ قال : نعم ، إذا كَثُر الخَبَث " .
قال العلماء : معناه : أوْلاد الزِّنَّا ، والخبيث بفتح البَاء : اسمٌ للزِّنَا ، وأوْجَب اللَّه -تعالى- على لسان رسُوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - ديَة الخطأ على العَاقِلة ، حتى لا يُطل دمُ المُسْلِمِ وذلك بالإجْمَاع ؛ فَدَلَّ ذلك على ما قُلْنَاه . ثم بيَّن -تعالى- أنَّ رُجُوع هؤلاء المشركين إلى مَوْضِع لا حَاكِم ولا آمِر إلا اللَّه ، وهو قوله -تعالى- : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.