اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِي رَبّٗا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيۡءٖۚ وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَيۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (164)

لما أمَرَهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالتَّوْحِيد المَحْضِ ، أمَره أن يَذْكر ما يَجْرِي مُجْرى الدَّليل على صِحَّة هذا التَّوحِيد ، وتقريره من وجهين :

الأول : أنَّ أصناف المُشْرِكين أربعة ؛ لأنَّ عبدة الأصنام أشْرَكُوا باللَّه ، وعبدة الكواكِب أشْرَكُوا باللَّه ، والقَائِلون بيزدان وأهرمن أشركوا ، والقَائِلُون بأنَّ المسيح ابنُ اللَّه والملائكة بنات الله أشْرَكُوا ، فهؤلاء هم فِرَقُ المُشْرِكين ، وكلُّهم يَعْتَرفُون بأن اللَّه -سبحانه وتعالى- هو الخَالِق لِلكُلِّ ؛ لأن عبدة الأصنام معترِفُون بأن اللَّه -تعالى- خالقُ السماوات والأرْضِ وكلِّ ما في العالم من الموْجُودات وهُو الخالقُ للأصْنامِ والأكوان بأسْرِها .

وأما القَائِلُون بيزدان وأهرمن فهُم أيضاً معترِفُون بأنَّ الشَّيْطَان مُحْدَث ، وأنَّ مُحْدِثهُ هو اللَّه - تبارك وتعالى- .

وأمَّا القَائِلُون بالمسيح والملائكة ، فهُم أيضاً معتَرِفُون بأنَّ اللَّه - سبحانه وتعالى- خَلَق الكُلَّ ؛ فثبت أنَّ طوائِف المُشْرِكين أطْبَقُوا على أنَّ الله - تبارك وتعالى- خلق هؤلاء الشُّرَكَاء .

وإذا عُرِف هذا ، فاللَّه -سبحانه وتعالى- قال لرسُوله صلى الله عليه وسلم : قل يا مُحَمَّد أغير اللَّه أبْغِي ربّاً ، مع أنَّ هؤلاء الذين اتِّخَذُوا رَبّاً غيراللَّه ، أقَرُّوا بأن اللَّه تبارك وتعالى خالق تلك{[15688]} الأشْيَاء .

وهل يَدْخُل في العَقْل جعل المرْبُوب شَريكاً للرَّبِّ ، وجعل العَبْد شَرِيكاً للمَوْلَى{[15689]} ، وجَعْل المَخْلُوق شَريكاً للخَالِق ؟ ولمَّا كان الأمْر كذلك ، ثبت أنَّ إتَّخَاذّهُم رَباً غيْر اللَّه [ قول ] فاسدٌ ودينٌ{[15690]} بَاطِلٌ .

الثاني : أن الموجود إمَّا واجبٌ لِذَاته وإمَّا ممكن لِذَاته ، وثبت أن واجِبَ الوُجُود واحدٌ ، وثبت أنَّ ما سِوَاه مُمْكِنٌ لذاته ، وثَبَت أن المُمْكِن لذاته لا يُوجد إلاَّ بإيجَادِ الواجِبِ لذَاتِهِ ، وإن كان الأمْر كذلك ، كان اللَّه -تعالى- ربّاً لكُلِّ شَيْء .

وإذا ثبت هذا ، فَنقُول : صَرِيحُ العَقْل يَشْهَدُ بأنَّه لا يَجُوز جَعْلُ المرْبُوب شَريكاً للرَّبِّ ، وجَعْل المَخْلُوق شريكاً للخَالِق ، وهذا هو المُرَاد من قوله -تعالى- : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } .

قال ابن عبَّاس - رضي الله عنه- معنى ربّاً : أي سيِّداً وهُو رب كُلِّ شيء ، وذلك أنَّ الكُفَّار كانوا يقُولون للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ارْجع إلى ديننا{[15691]} .

قال ابن عبَّاسٍ ، قال{[15692]} الوليدُ بن المُغيرَة : اتبعُوا سبيلي ، أحْمِل عَنْكُم{[15693]} أوْزَاركم ، فقال اللَّه -تبارك وتعالى- : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } ومعناه : أنَّ إثْمَ الجانِي عليه ، لا على غيره " ولا تَزِرُ وَازرةٌ وزْرَ أخرَى " أي : لا يُؤاخَذُ أحدٌ بذَنْب غيره .

قال القُرْطُبيُّ{[15694]}- رحمه الله - : وأصْل الوِزْر : الثِّقَل ، ومنه قوله – تعالى- : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ } [ الشرح : 2 ، 3 ] وهو هنا : الذنب ؛ كما قال -تعالى- : { يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } [ الأنعام : 31 ] وقد تقدَّم قول الأخْفَش : يُقَال : وَزِر يَوْزَر ، وَوَزَرَ يزر ، وَوُزِرَ يُوزَر وِزْراً .

قيل : نَزلَتْ رداً على العرب في الجاهليَّة من مُؤاخَذَة الرَّجُل بِأبيه ، وابْنِه ، وبجريرة حَلِيفِهِ{[15695]} .

قال القُرْطُبِي{[15696]} : يحتمل أنْ يكُون المُراد بِهَذَه الآية في الآخرة ، وكذلك الَّتِي قَبْلَها ، فأمَّا في الدنيا : فقد يُؤاخَذُ بعضُهم بِجُرْم بعضٍ ، ولا سيَّما إذا لم يَنْه الطَّائع العَاصِي ، كما تقدّم في حديث أبي بكر - رضي الله عنه - : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ المائدة : 105 ] وقال -تعالى- : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد : 11 ] .

وقالت زَيْنَب بِنْت جَحْش : " يا رسُول الله ، أنَهْلَكُ وفينا الصَّالِحُون ؟ قال : نعم ، إذا كَثُر الخَبَث " .

قال العلماء : معناه : أوْلاد الزِّنَّا ، والخبيث بفتح البَاء : اسمٌ للزِّنَا ، وأوْجَب اللَّه -تعالى- على لسان رسُوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - ديَة الخطأ على العَاقِلة ، حتى لا يُطل دمُ المُسْلِمِ وذلك بالإجْمَاع ؛ فَدَلَّ ذلك على ما قُلْنَاه . ثم بيَّن -تعالى- أنَّ رُجُوع هؤلاء المشركين إلى مَوْضِع لا حَاكِم ولا آمِر إلا اللَّه ، وهو قوله -تعالى- : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .


[15688]:ينظر: الرازي 14/11.
[15689]:في أ: للمربي.
[15690]:ينظر: الرازي 14/11.
[15691]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (7/101).
[15692]:ينظر: القرطبي 7/102.
[15693]:انظر المصدر السابق.
[15694]:ينظر: القرطبي 7/102.
[15695]:ينظر: القرطبي 7/102.
[15696]:ينظر: القرطبي 7/102.