اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (159)

وقرأ الأخوان{[15646]} : " فَارَقُوا " من المُفَارَقة .

قال القرطبي{[15647]} - رحمه الله عليه - : " وهي قِرَاءة عليِّ بن أبي طالب- رضي الله عنه - من المُفَارقة والفِرَاق ، على مَعْنَى : أنَّهُم تركوا دينَهُم وخَرَجُوا عنه ، وكان عَلِيٌّ - كرم الله وجهه - يقول : والله ما فَرَّقُوه ، ولكن فَارَقُوه " .

وقال شهاب الدِّين{[15648]} : فيها وجهان :

أحدهما : أن " فَاعَل " بمعنى : فعَّل ، نحو : ضاعَفْتُ الحساب ، وضعَّفته .

وقيل : هي من المُفَارَقَة ، وهي التَّرْك ، والتَّخْلِية ، ومن فرَّق دينَهُ ؛ فآمن بِبَعْض وكفر ببعض ، فقد فَارَقَ الدِّين القيم .

وقرأ الباقون : " فرَّقوا " بالتَّشْديد ، وقرأ الأعمش ، وأبو صالح ، وإبراهيم ، : " فرَقُوا " مخفف الراء .

قال أبو البقاء : " وهو بمعنى المُشَدَّد ، ويجُوز أن يكُون بمعنى : فَصَلُوه عن الدِّين الحقِّ " وقد تقدَّم معنى الشِّيع ، أي : صَارُوا فِرقاً مختلفة .

قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : يريد : المُشْركين ، بعضهُم يَعْبُدون الملائكة ، ويَزْعُمون أنَّهم بنات اللَّه ، وبعضُهم يَعْبدون الأصْنَام ، ويقولون : " هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ{[15649]} الله " و " كانوا شِيَعاً " أي : فِرَقاً وأحزاباً في الضَّلالة .

وقال مُجاهدٌ ، وقتادة : هم اليَهُود والنَّصَارى ؛ لأن النَّصَارى تفرَّقوا فِرَقاً ، ويُكَفِّر بعضهم بعضاً ، واليهُود أخَذُوا ببعض الكتاب ، وتركوا بعضه{[15650]} .

وقيل : هم أهْل البِدَع والشُّبُهَات من هذه الأمَّة وروى عُمَر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة - رضي الله عنها - : " يا عائشةُ ! إنَّ الذينَ فَرَّقُوا دينَهُم وكانُوا شِيعَاً هُمْ أصْحَابُ البدعِ وأصْحَابُ الأهْوَاءِ من هذه الأمَّةِ " {[15651]} .

وروى عبد الله بن عمر- رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ تفرَّقَتْ على اثْنَيْنِ وسَبْعِين ملَّة ، وتفرَّفَت أُمَّتِي على ثلاثٍ وسبْعين ملَّة كُلُّها في النَّارِ إلاَّ واحِدة ، قال : من هِيَ يا رسُول الله ؟ قال : " ما أنا عَلَيه وأصْحَابي " {[15652]} .

قوله : " لست منهم في شيء " .

" لَسْت " : في محلِّ رفع خبراً ل " إنّ " ، و " مِنْهُم " : هو خبر " لَيْسَ " إذ بِه تتم الفَائِدة ؛ كقول النابغة : [ الوافر ]

إذا حَاوَلْتَ فِي أسَدٍ فُجُورا *** فإنِّي لَسْتُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي{[15653]}

ونظيرُه [ في الإثْبَات ]{[15654]} : " { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] .

وعلى هذا ، فيكُون " فِي شَيْءٍ " متعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به مِنْهُم ، أي : ليست مُسْتَقِرّاً منهم في شيء ، أي مِنْ تَفْرِيقهم . [ ويجُوز أن يَكُون " فِي شيءٍ " : الخبر ، و " مِنْهُم " : حال مُقدَّمة عليه ، وذلك على حَذْفِ مُضافٍ ، أي : لَسْت في شيءٍ كَائِن من تَفْرِيقهم ]{[15655]} ، فلمَّا قُدِّمت الصِّفَة نصبت حالاً .

فصل في المراد بالآية

في المَعْنَى قولان :

الأول : إذا أُريد أهل الأهْوَاء ، فالمَعْنَى : أنت بَرِيءٌ منهم ، وهم مِنْكَ بَرَاءُ ، أي : إنَّك بعيد عن أهْوَائِهِهم ومَذاهِبِهم ، والعِقَابُ اللاَّزم على تِلْك الأبَاطيل مَقْصُورة عَلَيْهم لا يتعدَّاهم .

وإن أُريد اليَهُود والنَّصَارى .

قال السُّدِّيُّ : " معناه : يقولون يُؤمَر بِقتَالِهم ؛ فلما أمر بِقِتَالِهِم نُسِخ " وهذا بعيد ؛ لأن المعنى : لَسْت من قِتَالِهِم في هذا الوَقْتِ في شَيْءٍ ؛ فوُرُده الأمْر بالقِتَال في وَقْتٍ آخَر ، لا يُوجب النَّسْخ . ثم قال : " إنَّما أمْرُهُم إلى اللَّه " يعني : في الجَزَاء ، والمُكَافأة ، والإمْهَال ، " ثم يُنَبِّئُهُم بما كَانُوا يَفْعَلُون " والمراد : الوعيد .


[15646]:ينظر: النشر 2/266 السبعة 274 الحجة لأبي زرعة 278 ولابن خالويه 152 ومعاني الفراء 1/366 والدر المصون 3/25 إعراب القراءات 1/173.
[15647]:ينظر: القرطبي 7/97.
[15648]:ينظر: الدر المصون 3/225.
[15649]:ذكره الرازي في "تفسيره" (14/7 ـ 8).
[15650]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/413) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/118) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[15651]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/414).
[15652]:تقدم.
[15653]:تقدم.
[15654]:سقط في ب.
[15655]:سقط في ب.