اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَـٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ} (165)

فيه وُجُوه :

أحدها : أنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النَّبِيِّين ، فَخَلَفَتْ أمَّتْه سَائِرَ الأمَم ، والخلائف : جَمْع خليفة ؛ كالوَصَائف جَمْع وَصِيفَة ، وكُلُّ من جَاءَ تبعاً له ، فهو خَلِيفةَ ؛ لأنه يَخْلُفُه ، أي : أهْلَك القُرُون المَاضِيَة ، وجَعَلَكُم يا مُحمَّد صلى الله عليه وسلم خُلَفَاء مِنْهُم ، تَخْلُفونهم في الأرْضِ وتَعْمرُونها بعدهم .

وثانيها : جعلهُم يَخلُف بعضُهم بعضاً{[15697]} .

وثالثها : أنَّهُم خُلَفَاء اللَّه في أرْضِه ، يَمْلِكُونها ويتَصَّرفُون فيها{[15698]} .

قوله : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } : في الشَّرف ، والعَقْل والمال ، والجاه ، والرِّزْقِ ، { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } ليختبركُمْ فيما رَزَقَكُم ، يَعْنِي : يَبْتَلِي الغَنِيَّ ، والفَقِيرَ ، والشَّريف ، والوَضِيعَ ، والحُر ، والعَبْدَ ، ليُظْهِر مِنْكُم ما يكُون عليه الثَّواب والعِقَاب ، ثمَّ قال-تعالى- : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب } لأنّ ما هُو آتٍ هو سريعٌ قريب .

وقيل : هو الهلاك في الدنيا " وإنَّه لغَفُورٌ رَحِيمٌ " .

قال عطاء : سَريع العقاب لأعْدَائه ، غَفُور رحيمٌ لأوْلِيائه رحيم بهم{[15699]} ، وأكد قوله : " لَغَفُورٌ " [ باللام ]{[15700]} دلالَة على سِعَة رَحْمَتِه ، ولمْ يؤكد سُرْعة العِقَاب بذلك هُنَا ، وإن كان قد أكَّد ذلك في سُورَة الأعْراف ؛ لأنَّ هناك المقام مقام تَخْويفٍ وتهديد ، وبعد ذِكْر قصَّة المُعْتَدين في السَّبْت وغيره ، فَنَاسب تَأكِيد العِقَاب هُنَاك ، وأتى بِصِيغَتَي الغُفْرَان والرَّحْمة ، لا بصيغَةٍ واحِدَة ؛ دلالة على حِلْمِه ، وسِعَة مغفرته ، ورَحْمَتِه .

ختام السورة:

روى جابر بْن عبد الله - رضي الله عنه - عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ قَرأ ثلاث آيات في أوَّل سُورة الأنعام إلى قوله : { وَيْعَلَم ما تَكْسِبون " وكل اللَّه به أرْبَعين ألْف ملكٍ ، يَكْتُبُون لَهُ مِثْل أعمالهم إلى يوم القيامة ، ويَنْزِلُ ملكٌ من السَّماء السَّابِعَة ، ومعهُ مَرْزبة من حَديد ، فإن أرادَ الشَّيْطان أن يُوسوسَ أو يُوحِي إلى قَلْبه ، ضربه بها ضرباً ، فكان بَيْنَه وبَيْنَه سبْعُون حِجَاباً ، فإذا كان يَوْم القيامة يَقُول الرَّبُّ -سبحانه وتعالى- امْش في ظِلِّي ، وكُل من ثِمَار جَنَّتي ، واشرب من مَاءِ الكَوْثَرِ ، واغْتَسِل من مَاء السَّلْسَبيل ، وأنْتَ عَبْدِي وأنَا ربُّك " {[1]} .

والله -سبحانه وتعالى- أعْلَم بالصَّواب ، وإليْه المَرْجع والمآبُ ، وكان اخْتِتَام هذا الجُزء المُبارك في يَوْم الأرْبعاء المُبارك ، والموافق لأحْدى عَشر يَوماً خلَت من شَهْر مُحَرَّم ، الَّذي هو ابْتِداء شهور سنة 1271 ، إحْدى وسَبْعين ومائَتَين وألْف من الهِجْرة النَّبَويَّة على صَاحِبها أفْضل الصَّلوات ، وأزْكَى السَّلام ، على يد كَاتِبها أفْقَر العباد ، وأحوَجهِم إلى ربِّه الغَنِيَ المُعْطي إبراهيم مُحَمَّد الأرْنَؤُوطِي ، غَفَر اللَّه لَهُ ، ولِوَالِدَيْه ، ولِمَن دَعَا لَهُمَا بالمَغْفِرة ، ولِلْمُسْلِمين والمُسْلِمَات الأحْيَاء مِنْهُم والأمواتِ ، إنَّه سميع قَريبٌ مُجِيب الدعوات .

آمين يا رب العالمين .

وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[15697]:ينظر: الفخر الرازي 14/12.
[15698]:ينظر: المصدر السابق.
[15699]:تقدم.
[15700]:سقط في ب.