اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَيَحۡزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ} (33)

قوله تعالى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ } " قد " هنا حرف تَحْقِيقٍ .

وقال الزمخشري{[13721]} والتبريزي : " قد نعلم " بمعنى رُبَّمَا التي تجيء لزيادة الفِعْلِ وكثرته ، نحو قوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** [ وَلَكِنَّهُ ]{[13722]} قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ{[13723]}

قال أبو حيَّان{[13724]} : وهذا القول غَيْرُ مَشْهورٍ للنحاة ، وإن قال به بعضهم مُسْتَدِلاً بقول [ القائل ]{[13725]} : [ البسيط ]

قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ *** كَأنَّ أثْوَابَهُ مُجَّتُ بِفِرْصَادِ{[13726]}

وقال الآخر في ذلك : [ الطويل ]

أخِي ثِقَةٍ لا تُتْلِفُ الخَمْرُ مَالَهُ *** ولَكنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ{[13727]}

والذي يظهر أن التكثير لا يفهم من " قد " ، وإنما فهم من سياق الكلام ؛ إذ التمدُّح بقتل قرن واحد غيرُ طائل ، وعلى تقدير ذلك فو متعذّر في الآية ؛ لآن علمه -تبارك وتعالى- لا يَقْبَلُ التكثير .

قال شهابُ الدين : قَدْ يُجَابُ عنه بأن التكثير في متعلِّقات العِلْمِ لا في العِلْمِ ، [ ثم قال ]{[13728]} : وقوله بمعنى " رُبَّمَا " التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهور أنَّ " رُبَّ " للتقليل{[13729]} لا للتَّكْثير ، وزيادةُ " ما " عليها لا يخرجها عن ذلك ، بل هي مُهيِّئَةٌ لدخولها على الفعِل ، و " ما " {[13730]} المهيِّئةُ لا تزيل الكَلِمَة عن معناها الأصلي ، كما لا تزيل{[13731]} " لَعَلَّ " ، عن الترجي ، ولا " كأنَّ " عن التشبيه ، ولا " ليت " عن التمني .

وقال ابن مالك : " قد " ك " رُبَّمَا " في التقليل والصَّرْفِ إلى معنى المضيّ ، وتكون في حينئذٍ للتَّحقيق والتوكيد ، نحو{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } [ الأنعام : 33 ] { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ } [ الصف :5 ] .

وقوله : [ الطويل ]

وَقَدْ تُدْرِكُ الإنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ *** وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الأرْضِ سَبْعِينَ وَادِيَا{[13732]}

وقد تخلو من التَّقلِيل ، وهي صَارِفَةٌ لمعنى المُضِيَّ ، نحو قوله :

{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } [ البقرة :144 ] .

وقال مكي : و " قد " هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء ، وإيجابه ، وتصديقه ، و " نَعْلَمُ " بمعنى عَلِمْنَا .

وقد تقدم الكلام في هذه الحروف وأنها مُتَردِّدَةٌ بين الحَرْفيَّةِ والاسميَّةِ .

وقال أبو حيَّان{[13733]} : هُنَا " قَدْ " حرف تَوَقُّع إذا دخلت على مُسْتَقْبَلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلّم ؛ كقولك : قد ينزل المَطَرُ شَهْر كذا ، وإذا كان مَاضِياً أو فِعْلَ حَالٍ بِمَعْنَى المضيّ كان التوقع عند السَّامِعِ .

وأمَّا المتكلِّم فهو مُوجب ما أخبر به ، وعبَّر هنا بالمُضَارع إذ المُرَادُ الاتِّصَافُ بالعِلْمِ واسْتِمْرَارُهُ ، ولم يُلْحَظْ فيه الزمانُ كقولهم : " هو يُعْطِي ويَمْنَعُ " .

" ليحزنك " سَادٌّ مَسَدّ المفعولين ، فإنها معلِّقَةٌ عن العمَلِ ، وكُسِرَتْ لدخول " اللام " في حَيِّزِهَا ، وتقدَّمَ الكلامُ في " ليحزنك " ، وأنه قُرِئَ بفتح{[13734]} الياءِ وضَمِّهَا من " حَزَنَهُ " و " أحْزَنَهُ " في آل عمران .

و " الَّذي يَقُولُون " فاعِلٌ ، وعائدُهُ محذوفٌ ، أي : الذي يَقُولونَهُ من نِسْبَتِهِمْ له إلى ما لا يَلِيقُ به ، والضَّميرُ في " إنه " ضمير الشَّأن والحديث والجُمْلَةُ بعدهُ خَبَرُهُ مُفَسِّرةٌ له ، ولا يجوزُ في هذا المُضَارع أن يقدر باسمِ فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّر في قولك : " إن زيداً يقوم أبوه " لئلاَّ يلزمُ تفسيرُ ضمير الشأن بمفردٍ .

وقد تقدَّمَ أنه مَمْنوعٌ عند البصرييّنَ .

فصل في سبب نزول الآية

قال السُّدِّيِّ : التقى الأخْنَسُ بن شريق ، وأبو جَهَل بن هشامٍ ، فسأله الأخنس أبَا جَهْلِ فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن مُحَمَّدٍ أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس ها هنا أحَدٌ يسمعُ كلامك غيري ؟ .

فقال أبو جَهْلٍ : والله إن محمَّداً لَصَادِقٌ ، وما كذَب قَطّ ، ولكن إذا ذَهَبَتْ بَنُو قُصَيِّ باللّوَاء والسِّقاية والحِجَابَةِ والندْوةِ ، والنُّبُوَّة ، فماذا يكون لِسَائِرِ قريشٍ ، فأنزل اللَّهُ هذه الآية{[13735]} .

وقال ناجيةُ بن كَعْبَ : قال أبو جَهْلِ للنبي صلى الله عليه وسلم : ما نَتَّهِمُكَ ولا نُكذِّبُكَ ، ولكنَّا نُكَذِّبُ الذي جئت به ، فأنزل الله -تعالى- هذه الآية{[13736]} .

وقيل : إنَّ الحارث بن عامر من قريشٍ قال : يا مُحَمَّدُ ، والله إن اتَّبَعْنَاكَ نُتَخَطَّفُ من أرْضِنَا ، فنحنُ لا نُؤمِنُ بك لهذا السَّببِ . واعلم أن فِرَقِ الكفار كانوا كثيرين ، فمنهم من ينكر نُبُوَّتَهُ ؛ لأنه ينكر أن يكون الرسولُ من البَشَرِ ، وقد تقدَّمَ شُبْهَتُهُمْ ، وأجابَ اللَّهُ عنها{[13737]} .

ومنهم من ينكر البَعْثَ ، ويقول : إن محمَّداً يخبر بالحَشْرِ والنَّشْرِ بعد الموت ، وذلك مُحَالٌ ، فيطعن في رسالة محمَّدٍ من هذا الوَجْهِ ، وقد ذكر الله شبههُمْ في هذه السُّورَةِ ، وأجاب عَنْهَا .

ومنهم من كان يُشَافِهُهُ بالسَّفَاهَةِ وهُوَ المذكورُ في هذه الآية .

واختلفوا في ذلك المُحْزِنِ .

فقيل : كانوا يَقُولوُنَ : ساحرٌ ، وشاعرٌ ، وكاهن ، ومجنون وهو قول الحسن{[13738]} .

وقيل : كانوا يُصَرِّحُونَ بأنهم لا يؤمنون به{[13739]} .

وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذبِ{[13740]} .

قوله : " فإنهم لا يكذبُونَكَ " .

قرأ{[13741]} نافع ، والكسائي " لا يكذبونك " مُخَفَّفاً من " أكْذَب " .

والباقون{[13742]} مثقَّلاً من " كذَّبَ " وهي قراءة عَلِيٍّ ، وابن عبَّاسٍ .

واختلف الناسُ في ذلك ، فقيل : هُمَا بمعنًى واحدٍ ، مثل : أكثر وكَثَّرَ وأنْزَلَ ونزَّلَ ، وقيل : بينهما فَرْقٌ .

قال الكسائي : العَرَبُ تقول : كَذّبت الرجل بالتَّشْديد إذا نُسِبَ الكذب إليه ، وأكذبته إذا نَسَبْتَ الكذب إلى ما جَاءَ بِهِ دُونَ أن تَنْسِبَهُ إليه ، ويقولون أيضاً : أكذبت الرَّجُلَ إذا وجدته كَاذِباً ، ك " أحْمَدْتُهُ " إذا وجدته محمُوداً ، فَمَعْنَى لا يُكذبونك مُخَفَّفاً : لا يَنْسِبُون الكَذِبَ إلَيْكَ ولا يجدونك كاذباً وهو واضحٌ .

وأمَّا التَّشديد فيكون خبراً مَحْضاً عن عدم تكذيبهم إيَّاه .

فإن قيل : هذا مُحالٌ ؛ لأن بَعْضَهُم قد وُجِدَ من تكذيب ضَرْورَةً .

فالجوابُ من وُجُوه :

الأول : أنَّ وإن كان مَنْسُوباً إلى جميعهم أعْنِي عدم التكذيب ، فهو إنما يُرَادُ بعضهم مجازاً ، كقولك : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء :105 ] { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء :160 ] وإن كان فيهم من لم يكذبه ، فهو عامٌّ يرادُ به الخَاصُّ .

والثاني : أنه نفي للتكذيب لانْتِفَاءِ ما يَتَرَتَّبُ عليه من المَضَارِّ ، فكأنه قيل : فإنهم لا يكذبونك تكذيباً يُبَالَى به ويضرك ؛ لأنك لَسْتَ بكاذبٍ ، فتكذيبُهُمْ كلا تَكْذِيبٍ ، فهو من نَفْيِ السَّبَبِ لانتفاء مسببه .

وقال الزمخشري{[13743]} : والمعنى أن تكذيبك أمْرٌ راجع إلى اللَّه تعالى ؛ لأنك رسُولُهُ المصدَّق ، فهم لا يكذبونك في الحقيقةِ ، إنَّما يكذِّبون اللَّهَ بجحود آياته ، فانْتَهِ عن حُزْنِكَ ، كقول السَّيِّدِ لغُلامِهِ وقد أهَانَهُ بعض الناسِ لم يُهينوك وإنما أهَانُونِي ، فهو نظير قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [ الفتح :10 ] .

الثالث : أن القوم ما كانوا يُكذِّبُون به في السِّرِّ كما تقدَّمَ في سبب النزول ، فيكون تقدير الآية : فإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بقلوبهم ، بل بظاهر قولهم .

ونظيره : قوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ } [ النمل :14 ] في قصة موسى عليه الصلاة والسلام .

الرابع : أنهم لا يقولون : أنْتَ كَذَّابٌ ؛ لأنهم جَرَّبُوكَ الدَّهْرَ الطويل وما وَجدُوا منك كذباً ألْبَتَّة ، وسَمَّوْك بالأمين ، وإنما جَحَدُوا صِحّةَ نُبُوَّتك ؛ لأنهم اعْتَقَدُوا أنَّ محمَّداً عرض له نوع خَبَلٍ ونُقْصَانٍ ، فلأجله تَخَيَّلَ في نفسه كونه رَسُولاً من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذبِ ، بل هو أمينٌ في كُلِّ الأمورِ إلاَّ في هذا الوجهِ الواحد .

الخامس : قال ابن الخطيب{[13744]} : المرادُ أنَّهُمْ لا يخصُّونك بالتكذيب ، بل ينكرُون دلالةَ المعجزة الظَّاهرة على الصدق مطلقاً لقوله : { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .

والمُرَادُ أنهم يقولون في كُلِّ معجزةٍ : إنها سِحْرٌ ، فالتقدير : أنهم لا يكذِّبونك على التِّعيين ، بل القَوْمُ يُكذِّبون جَمِيعَ الأنبياء والرُّسُلِ .

قوله : " بآيات اللَّهِ " يجوز في هذا الجَارِّ وجهان :

أحدهما : أنه مُتَعَلِّقٌ ب " يجحدونَ " وهو الظَّاهر ، وجوَّز أبُو البقاء{[13745]} أن يتعلق ب " الظَّالمين " قال : كقوله تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الإسراء :59 ] وهذا الذي قال ليس بجيِّدٍ لأن " الباء " هناك سَبَبِيَّةٌ ، أي : ظلموا بسببها ، و " الباء " هنا معناها التعدية ، وهنا شيء يتعلَّق به تعلُّقاً واضحاً ، فلا ضَرُورَةَ تَدْعُوا إلى الخروج عَنْهُ ، وفي هذه الآية إقامةُ الظاهر مُقَامَ المضمر ، إذا الأصل : " ولكنهم يَجْحَدُونَ بآياتِ الله " ، ولكنَّهُ نَبَّهَ على أن الظلم هو الحامل لهم على الجُحُودِ .

والجحود والجَحْدُ نفي ما في القَلْبِ ثَبَاتُهُ ، وأو إثْبَاتُ ما في القلبِ نَفْيُهُ .

وقيل : الجَحْدُ إنْكَارُ المعرفةِ ، فليس مُرَادفاً للنفي من كُلِّ وجهٍ .


[13721]:ينظر: الكشاف 2/17.
[13722]:سقط في ب.
[13723]:تقدم.
[13724]:ينظر: البحر المحيط 4/115.
[13725]:سقط في ب.
[13726]:تقدم.
[13727]:تقدم.
[13728]:سقط في ب.
[13729]:في ب: للتعليل.
[13730]:في ب: وأما.
[13731]:في ب: يزيل.
[13732]:البيت لأمية بن أبي الصلت. ينظر: ديوانه (70) الدر المصون 3/47، البحر المحيط 4/115.
[13733]:ينظر: البحر المحيط 4/115.
[13734]:ينظر: الكشاف 2/18، الدر المصون 3/47، حجة القراءات ص (246).
[13735]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/18) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن أبي يزيد المدني.
[13736]:أخرجه الترمذي (5/243) كتاب التفسير باب سورة الأنعام (3064) والحاكم (2/315) والطبري (5/181) عن ناجية بن كعب وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال: ما خرجا لناجية شيئا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/17 ـ 18) وزاد نسبته لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والضياء في المختارة من طريق ناجية بن كعب الأسدي عن علي بن أبي طالب. وناجية قال ابن معين: صالح وقال أبو حاتم: شيخ وقال العجلي وابن حبان: ثقة وانظر تهذيب التهذيب (10/399) وتقريب التهذيب (2/294) والكاشف (3/195) وتاريخ البخاري الكبير (8/107) والجرح والتعديل (8/2223) وميزان الاعتدال (4/239) ولسان الميزان (7/407) ومعرفة الثقات (1830).
[13737]:ينظر: الرازي 12/169.
[13738]:ينظر: الرازي 12/168.
[13739]:ينظر: المصدر السابق.
[13740]:ينظر: المصدر السابق.
[13741]:ينظر: الدر المصون 3/48، البحر المحيط 4/116، حجة القراءات ص (247)، الكشاف 2/18، النشر 2/257 ـ 258، إتحاف فضلاء البشر 2/10.
[13742]:ينظر: الدر المصون 3/48، البحر المحيط 4/116، الوسيط في تفسير القرآن المجيد 2/265 ـ 226، الحجة لأبي زرعة ص (247 ـ 249) السبعة ص (257)، النشر، 257 ـ 258، التبيان 1/491، الزجاج 2/266، المشكل 1/251، الفراء 1/331، الحجة لابن خالويه ص (138).
[13743]:ينظر: الكشاف 2/18.
[13744]:ينظر: الرازي 12/169.
[13745]:ينظر: الإملاء 1/240.