قال الكَلْبِيُّ{[13430]} : أتى أهْلُ " مكة " رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أرِنَا من يشهد بأنك رسول اللَّهِ ، فإنَّا لا نَرَى أحَداً يُصَدِّقك ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى ، فزعموا أنه ليس لك عِنْدَهُمْ ذكرٌ ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } أي : أعظم شهادة ، فإن أجَابُوكَ ، وإلاَّ فقل : { اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُم } على ما أقول لأني أوحي إليَّ هذا القُرْآن مُعَجزاً لأنكم أنتم البُلَغَاءُ والفصحاء ، وقد عجزتم عن مُعَارضته ، فكان مُعْجِزاً ، وإذا كان مُعْجِزاً كان إظهار الله -تعالى- له على وَفْقِ دَعْواي شهادة من اللَّهِ على كوني صادقاً في دَعْوَاي .
قوله تعالى : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ } مبتدأ وخبرٌ ، وقد تقدَّمَ أن " أيًّا " بعض ما تضاف إليه ، فإذا كانت استفهامية اقتضى الظَّاهِرُ أن يكون مُسَمَّى باسم ما أضيف إليه .
قال أبو البقاء{[13431]} - رحمه الله - : " وهذا يُوجِبُ أن يُسَمّى اللَّهُ تعالى " شيئاً " ، فعلى هذا تكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف [ والتقدير : الله أكبر شَهَادَةً ، و " شهيد " على هذين القولين خَبَرُ مبتدأ محذوف ]{[13432]} أي : ذلك الشيء هو الله تعالى ، ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف أي : هو شهيدٌ بيني وبينكم ، والجملةُ من قوله : " قل اللَّه " على الوَجْهَيْنِ المتقدمين جواب ل " أي " من حَيْثُ اللفظ والمعنى ، ويجوز أن تكون الجلالةُ مبتدأ ، و " شهيد " خبرها ، والجملة على هذا جواب ل " أيّ " من حيث المعنى ، أي : إنها دالّةٌ على الجواب ، وليست به .
قوله : " شَهَادَةً " نَصْبٌ على التمييز ، وهذا هو الذي لا يَعْرِفُ النحاةُ غيره .
وقال ابن عطية{[13433]} - رضي الله عنه - : ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ " أكثر " على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذا ساقط جدّاً ؛ إذ نصَّ النحويون على أن معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنّث وتُثَنَّى ، وتُجْمَعُ ، وأفعلُ مِنْ لا تُؤنَّثُ ولا تُثَنَّى ولا تُجْمَعُ ، فلم يُشبه اسم الفاعل ، حتَّى إنَّ أبا حيَّان{[13434]} نَسَبَ هذا الخِبَاطَ إلى النَّاسخِ دون أبي محمد .
قوله : " بيني وبينكم " متعلِّقٌ ب " شهيد " ، وكان الأصل : قل اللَّهُ شهيدٌ بيننا ، فكُرِّرت " بين " توكيداً ، وهو نظير قوله : [ الوافر ]
فَأيِّي ما وأيُّكَ كَانَ شَرًّا *** فَسيقَ إلى المَقَامَةِ لا يَرَاهَا{[13435]}
يَا ربَّ مُوسَى أظْلَمِيَ وأظْلَمُه *** أرسل عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ{[13436]}
فَلَئِنْ لَقيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ *** أيِّي وَأيُّك فَارِسُ الأحْزَابِ{[13437]}
والجامع بينهما : أنَّهُ لمَّا أضاف إلى " الياء " وَحْدَها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف .
ويجوزُ أبو البقاء{[13438]} أن يكون " بيني " متعلّقاً بمحذوف على أنَّهُ صفة ل " شهيد " ، فيكون في مَحَلّ رفع ، والظاهر خلافُهُ .
قوله : " وأوْحِيَ " {[13439]} الجمهور على بِنَائِهِ للمفعول ، وحُذِف الفاعل للعلم به ، وهو الله تبارك وتعالى .
وقرأ أبو نهيك{[13440]} ، والجحدري ، وعكرمة ، وابن السَّمَيْفَع : " وأوْحَى " ببنائه للفاعل ، " القرآن " نَصْباً على المفعول به .
و " لأنْذِرَكُمْ " متعلِّقٌ ب " أوحي " .
قيل : وثمَّ مَعْطُوف حُذِفَ لدلالة الكلام عليه ، أي : لأنذركم به وأبَشِّركم به ، كقوله تعالى : { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل :81 ] ، وتقدم فيه نظائرُ ، وقيل : لا حاجة إليه ، لأن المقام مَقَامُ تخويف .
والمعنى : اللَّهُ شهيدٌ بيني وبينكم أنِّي قد أبلغتكم وصدّقْتُ فيما قلته وادَّعَيْتُهُ من الرسالة ، والقرآن أيضاً شَاهِدٌ بنبوَّتي لأنذركم به يا أهل " مكة " ، ومن بلغه القرآن العظيم .
قوله تعالى : " ومَنْ بَلَغَ " فيه ثلاثةُ أقوال :
أحدهما : أنه في مَحَلِّ نَصْبٍ عطفاً على المنصوب في " لأنْذِرَكُمْ " ، وتكون " مَنْ " موصولةً ، والعائِدُ عليها من صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ .
أعني : ولأنذر الذي بلغه القرآن الكريم من العَرَبِ والعَجَمِ .
وقيل : من بَلَغَهُ [ من القرآن الكريم ]{[13441]} إلى يوم القيامةِ .
وعن سعيد بن جبير : " من بلغه من القرآن ، فكأنما رأى مُحَمَّداً عليه الصَّلاة والسَّلامُ " {[13442]} .
الثاني : أنَّ في " بَلَغَ " ضميراً مرفوعاً يَعُودُ على " مَنْ " ، ويكون المفعول محذوفاً ، وهو منصوب المَحَلّ أيضاً نَسَقاً على مَفْعُول " لأنذركم " والتقدير : ولأنذر الذي بَلَغَ الحُلُمَ{[13443]} ، فالعَائِدُ هنا مُسْتَتِرٌ في الفعل .
الثالث : أنّ " مَنْ " مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضَّميرِ المرفوع في " لأنذركم " ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ الفصل بالمفعول والجارِّ والمجرور أغْنَى عن تأكيده ، والتقديرُ : لأنذركم به ، ولينذركم الذي بَلَغَهُ القرآن .
قوله : " أإنًّكُمْ " الجمهور{[13444]} على القراءة بهمزتين : أولاهما للاستفهام ، وهو استفهامُ تَقريعٍ وتوبيخ .
قال الفراء{[13445]} - رحمه الله تعالى - : ولم يَقُل آخر لأن الآلهة جمع ، والجمع يقع عليه التأنيث ، كقوله : { وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }
[ الأعراف : 180 ] وقوله : { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى } [ طه :51 ] [ ولم يقل الأوّل ، ولا الأوّلين وكل ذلك صوابٌ ] وقد تقدَّم الكلامُ في قراءاتٍ مثل هذا .
قال أبو حيَّان{[13446]} : " وبِتَسْهيلِ الثانية ، وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المُسَهَّلَة ، روى هذه الأخيرة الأصمعي{[13447]} عن أبي عمرو ، ونافع " انتهى .
وهذا الكلام يؤذن بأنها قراءةٌ مُسْتَغْرَبَةٌ ، وليس كذلك ، بل المَرْوِيُّ عن أبي عمرو- رضي الله عنه - المَدُّ بين الهَمْزَتَيْنِ ، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك .
وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملةٌ للاستفهام ، وإنَّما حُذِفَتْ لفهم المعنى ، ودلالة القراءة الشهيرة عليها ، وتحتمل الخبر المَحْضَ .
ثم هذه الجملة الاستفهامية ، يحتمل أن تكون مَنْصُوبَةَ المَحَلّ لكونها في حَيِّزِ القول ، وهو الظَّاهر ، كأنه أُمِرَ أن يقول : أيُّ شيء أكْبَرُ شَهَادةً ، وأن يقول أإنّكم لتشهدون .
ويحتمل أن تكون داخلَةً في حيِّزه فلا مَحَلّ لها حينئذٍ ، و " أخرى " صفةٌ ل " آلهة " ؛ لأن ما لا يَعْقِل يُعَامَلُ جَمْعُهُ مُعاملةَ الواحدةِ المؤنّثة ، كقوله : { مَآرِبُ أُخْرَى } [ طه :18 ] ، و{ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }
[ الأعراف : 180 ] كما تقدَّم .
قوله : " إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ " [ يجوز ]{[13448]} في " ما " هذه وجهان :
أظهرهما : أنها كافَّةٌ ل " إنَّ " عن عملها ، و " هو " مبتدأ ، و " إله " خبر ، و " واحد " صفته .
والثاني : أنها مَوْصُولَةٌ بمعنى " الذي " ، وهو مبتدأ ، و " إله " خبره ، وهذه الجملةُ صلَةٌ وعائد ، والموصول في مَحَلِّ نصب اسماً ل " إن " و " واحد " خبرها .
والتقدير : إنَّ الذي هو إله واحد ، ذكره أبو البقاء{[13449]} ، وهو ضعيف ، ويَدُلُّ على صِحَّةِ الوجه الأوَّلِ تعيُّنُه في قوله تبارك وتعالى : { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ النساء :171 ] ، إذ لا يجوز فيه أن تكون مَوْصُولَةً لخلوِّ الجملة عن ضمير الموصول .
وقال أبو البقاء{[13450]} في هذا الوَجْهِ : وهو ألْيَقُ مما قبله .
قال شهابُ الدِّين{[13451]} : - رضي الله عنه - : ولا أدري ما وجه ذلك ؟
اعلم أنَّ هذا الكلام دَلَّ على إيجاب التَّوحيدِ ، والبراءةِ من الشِّرْكِ من ثلاثة أوجه{[13452]} :
أولها : قوله : " قُلْ لا أشْهَدُ " بما تذكرونه من إثبات الشُّرَكَاءِ .
وثانيها : قوله : " قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ " ، وكلمة " إنَّمَا " تفيد الحَصْرَ ، ولفظ الواحد صريحٌ في التوحيد ، ونفي الشركاء .
وثالثها : قوله تبارك وتعالى : { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } ، وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشُّرَكَاءِ .
قال العلماء{[13453]} : يُسْتَحَبُّ لمن أسلم ابتداءً أن يأتي بالشهادتين ، ويبرأ من كل دينٍ سوى دين الإسلام .
ونصَّ الشَّافعي - رحمه اله تعالى - على استحباب ضَمِّ التَّبَرِّي إلى الشهادة ، كقوله تبارك وتعالى : { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } عقيب التّصريح بالتوحيد{[13454]} .