قوله عز وجل : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ } يجوز أن يكون من المُبَالَغَةِ جَعْلُ الحَيَاةِ نَفْسَ اللَّعِبِ واللَّهوِ كقول [ القائل ]{[13675]} : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** -َإنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ{[13676]}
وهذا أحسن ، ويجوز أن يكون في الكلام حَذْفٌ ، أي : وما أعمال الحياة .
وقال الحسن البصري : " وما أهْلُ الحياة الدنيا إلاَّ أهل لَعِبٍ " فقدَّر شيئين محذوفين .
واللَّهْوُ : صَرْفُ النَّفْسِ عن الجِدِّ إلى الهَزَلِ ، ومنه لَهَا يَلْهُو .
وأمَّا لَهِيَ عن كذا فمعناه صَرَفَ نَفْسَهُ ، والمَادَّةُ واحدة انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها ، نحو : شَقِيَ ورَضِيَ .
وقال المهدوي : " الذي معناه{[13677]} الصَّرْفُ لامُه ياء ، بدليل قولهم : " لَهْيَان " ، ولام الأول واو " .
قال أبو حيَّان{[13678]} : " وليس بشيء ؛ لأن " الواو " في التثنية انْقَلَبَتْ ياءً ، فليس أصلها الياء ألا ترى تثنية " شَجٍ " : " شجيان " وهو من الشَّجْو " انتهى .
يعني : أنهم يقولون في اسم فاعله : " لهٍ " ك " شَجٍ " والتثنيةُ مَبْنيَّةٌ على المفرد ، وقد انقلبت في المُفْرَدِ فلتنقلب في المثنى .
قال شهابُ الدين{[13679]} : فلنا فيه بحث حَسَنٌ أوْدَعْنَاهُ " التفسير الكبير " ولله الحمد [ قال : وبهذا ]{[13680]} يظهر فَسَادُ ردِّ المهدوي على الرُّمَّاني ، فإنَّ الرُّمَّاني قال : " اللَّعِبُ عَمَلٌ يُشْغِلُ النفس عما تنتفعُ به ، واللَّهْوُ صَرْفُ النفس من الجدِّ إلى الهَزَل ، يقال : لَهَيْتُ عنه ، أي صَرَفْتُ نفسي عنه " .
قال المهدوي - رحمه الله - : " وفيه ضَعْفٌ وبُعْدٌ ، لأنَّ الذي فيه معنى الصَّرْفِ لامه ياء ، بدليل قولهم في التَّثْنية لَهْيَان " انتهى .
وقد تقدَّم فَسَادُ هذا الرَّدِّ .
وقال الراغب{[13681]} : " اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإنسانَ عما يَعْنيهِ ويَهُمُّهُ ، يقال : لَهَوْتُ بكذا أوْ لَهَيْتُ عن كذا : استغلْتُ عنه بِلَهْو " . وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حمل المهدوي على التَّفْرِقَةِ بين المَادَّتَيْنِ .
اعلم أن منكري البعث تعْظُمُ رغبتهم في الدُّنيا ، فَنَبَّه اللَّهُ -تعالى- في هذه الآية الكريمة على خَسَاسَتِهَا .
واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها ؛ لأن اكتساب السَّعَادات الأخروية لا تصح إلا فيها ، فلهذا السبب حصل في تفسير الآية قولان :
الأول : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد حَيَاةَ أهل الشرك والنفاق{[13682]} ؛ لأن حياة المؤمن يحصل فيها أعْمَالٌ ]{[13683]} صالحة .
والثاني : أنه عَامٌ في حياة المؤمن والكافر وإنما سماها باللعب واللَّهْوِ ؛ لأن الإنسان حال اشتغاله باللَّعِبِ واللهو ، فإنه يَلْتَذُّ به ، وعند انْقِضَائِهِ لا يبقى منه إلاَّ النَّدامَةُ ، [ فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقضائها إلاَّ النَّدامَةُ ]{[13684]} ، وفي تسمية هذه الحياة باللعب واللَّهْوِ وجوه :
أحدها : أن مُدَّة اللَّعِبِ واللَّهْوِ قليلةٌ سريعةُ الانقضاء ، وكذلك هذه الحياة الدنيا .
وثانيها : أنَّ اللعب واللهو إنما يَحْصُلُ عند الاغتِرَارِ بَظَوَاهِرِ الأمور ، وأمَّا عند التَّأمُّلِ التَّامِّ لا يبقى اللعب واللهو أصْلاً ، وكذلك فإن اللعب واللهو إنما يَحْصُلُ للصِّبْيَان والجُهَّال والمُغَفَّلِينَ .
وأمَّا العقلاءُ والحُصفَاء فَقلّما يحصلُ لهم خوضٌ في اللعب واللهو وكذلك الالتذَادُ بطيبات الدنيا لا يحصل إلا للمغفّلين الجُهَّال بحَقَائق الأمور .
وأما المحققون فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غُرُورٌ وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرةٌ .
قوله : " وللدَّارُ الآخرةُ " قرأ الجمهور{[13685]} بلامين ، الأولى لام الابتداء ، والثانية للتعريف ، وقرأوا{[13686]} " الآخرةُ " رفعاً على أنها صَفَةٌ ل " الدار " و " خَيْرٌ " خبرها .
وقرأ{[13687]} ابن عامر : " ولَدَارُ " بلامٍ واحدة هي لام الابتداء ، و " الآخرةِ " جرٌّ بالإضافة ، وفي هذا القراءة تأويلان :
أحدهما : قول البصريين ، وهو [ أنه ]{[13688]} من باب حَذْفِ الموصوف ، وإقامة الصفة مُقَامَهُ ، والتقدير : ولَدَارُ السَّاعةِ الآخرة ، أو لَدَارُ الحياة الآخرة ، يَدُلُّ عليه { وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا } ومثله قولهم : حَبَّةُ الحمقاء ، ومَسْجِدُ الجامع ، وصلاةُ الأولى ، ومكان الغربي ، [ التقدير : حبَّةُ البَقْلَةِ الحَمْقَاءِ ، ومَسْجِدُ المَكَانِ الجَامِعِ ، وصلاةُ السَّاعَةِ الأولَى ، ومكانُ الجَانِبِ الغَرْبِيّ ]{[13689]} .
وحَسَّن ذلك أيضاً في الآية الكريمة كونُ هذه الصفة جَرَتْ مجرى الجوامد في إيلائها العوامل كثيراً ، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّمَ فيه إضَافَةُ الموصوف إلى صفته ، وإنما احتاجوا إلى ذلك [ كثيرا لئلا يلزم ]{[13690]} إضافة الشيء إلى نفسه وهو ممتنعٌ ؛ لأن الإضافة إمَّا للتعريف ، أو للتخصيص ، والشيء [ لا يعرّف نفسه ]{[13691]} ولا يُخَصِّصُهَا ، وهذا مَبْنِيُّ على أنَّ الصِّفَةَ نفس الموصوف ، وهو مشكل ، لأنه لا يعقل تصور الموصوف مُنْفَكّاً عن الصِّفَةِ ، ولو كانت الصفة عين الموصوف لكان [ ذلك ]{[13692]} مُحَالاً .
والثاني - وهو قول الكُوفيين - أنه إذا اختلف لَفْظُ الموصوف وصِفَتُهُ جازت إضافته إليها ، وأوردوا ما قدَّمْتُهُ من الأمثلة .
قال الفرَّاء{[13693]} : هي إضافة الشيء إلى نفسه ، كقولك : " بَارِحَةُ الأولى " و " يوم الخميس " و " حَقُّ اليقين " ، وإنما يجوز عند اختلاف اللَّفْظَيْنِ وقراءة ابن عامر موافقة لمُصْحَفِهِ ، فإنها رسمت في مصاحف الشَّاميين بلامٍ واحدة .
واختارها بعضهم لموافقتها لما أُجْمِعَ عليه في " يوسف "
{ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } [ يوسف :109 ] ، وفي مَصَاحِفِ غيرهم بلامين . و " خَيْرٌ " يجوز أن يكون للتفضيل ، وحُذِفَ المُفَضَّلُ عليه لِلْعِلْم به ، أي : خَيْرٌ من الحياة الدنيا ، ويجوز أن يكون لِمُجَرَّدِ الوَصْفِ بالخيرية كقوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان :24 ] و " للذين يتَّقون " متعلّق بمحذوف ؛ لأنه صِفَةٌ ل " خير " والذي ينبغي - [ أو يتعيَّن ]{[13694]} - أن تكون " اللام " للبيان{[13695]} ، أي : أعني للذين ، وكذا كُلُّ ما جاء من نَحْوهِ ، نحو : { خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى } [ الضحى :4 ] .
ذكروا في وَجْهِ هذه الخَيْريَّةِ وجوهاً :
أحدها : أنَّ خيرات الدنيا [ خسيسة وخيرات الآخرة شريفة وبيان ذلك من وُجُوه :
الأوَّل : أن خيرات الدنيا ]{[13696]} ليس إلاَّ قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ ، وهي في نهاية الخَسَاسَةٍ ؛ لأن الحيوانات الخَسِيسَة تشارك الإنسان فيها ، بل ربما [ كان ]{[13697]} أمرُ تلك الحيوانات فيها أكْمَلَ من أمْرِ الإنسان ، فالجَمَلُ أكثر أكْلاً ، والدِّيكُ والعصفور أكثر وقاعاً ، والذَّئْبُ أقوى على الفَسَادِ والتَّمْزِيقِ ، والعَقْرَبُ أقوى على الإيذَاءِ{[13698]} ، ومما يَدُلُّ على خَسَاسَتِهَا أنها لو كانت شَرِيفةً لكان الإكثار منها يوجبُ زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان الذي أذهب عمره في الوِقَاعِ والأكْلِ أشْرَفَ الناس وأعْلاهُمْ دَرَجَةً ، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمْرُ كذلك ، بل مثلُ هذا الإنسان يكون [ ممقوتاً ]{[13699]} مُسْتَحْقَراً ، يوصفُ بأنه بَهِيمَةٌ أو كَلْبٌ ، أو أخَسُّ ، وذلك لأن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال ، بل يُخْفُونَهَا ، ولذلك عادة العُقَلاءِ عند الاشتغال بالوقَاعِ يختفون{[13700]} عن النَّاسِ ، وأيضاً فإن الناس إذا شَتَمَ بعضهم بعضاً لا يذكرون فيه إلاَّ الألفَاظ الدَّالة على الوِقَاعِ ، وأيضاً فإن هذه [ اللَّذات ]{[13701]} سَرِيعَةُ الانْقِضَاءِ والاسْتِحَالَةِ ، فثبت بهذه الوجود خَسَاسَةُ هذه المَلَذَّاتِ .
وأما السَّعادات الرُّوحانية ، فإنها سعادات عالية شريفةٌ ، باقيةٌ مُقَدَّسَةٌ ، ولذلك فإن جميع الخَلْقِ إذا تَخَيَّلُوا في إنسان كثرة العِلْمِ والدِّين وشدِّة الانقباض عن اللِّذاتِ الجسمانية ، فإنهم بالطَّبْعِ يجيبونه ويخدمونه ، ويعدون [ أنفسهم ]{[13702]} عَبِيداً لذلك الإنسان ، وأشقياء بالنسبة إليه ، وذلك يَدُلُّ عليه خَسَاسَةِ اللَّذاتِ الجسمانية ، وكمال مرتبة اللذات الروحانية .
الأمر الثاني : في [ بيان ]{[13703]} أنَّ خَيْرَاتِ الآخرة أفْضَلُ من خيرات الدُّنْيَا ، وهو أن يقال : هَبْ أنَّ هذين النوعين تَشَارَكَا في الفَضْلِ إلاَّ أن الوُصُولَ إلى الخيرات الموعودة في [ غد القيامة معلوم قطعاً ، وأمَّا الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد ]{[13704]} الدنيا فغيرُ مَعْلوم ، بل ولا مظنونٍ ، فكم من سُلْطَانِ قاهر في بُكْرَةِ اليوم صار تحت التُّرَابِ في آخر ذلك [ اليوم ]{[13705]} .
الأمر الثالث : هَبْ أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوماً آخر في الدنيا إلاَّ أنه لا يَدْرِي هل يمكنه الانْتِفَاعُ بما جمعه من الأموال والطيبات واللَّذاتِ أم لا ؟ . أمَّا كل ما جمعه من السَّعادات ، فإنه يعلم قَطْعاً أنه ينتفعُ به في الآخرة .
الأمر الرابع : هَبْ أنه ينتفع بها إلا أن انْتِفَاعَهُ بخيرات الدنيا لا يَخْلُو عن شَوَائِبِ المكروهات [ والانتفاع بخيرات ]{[13706]} الآخرة خالٍ [ عن ]{[13707]} شوائب المكروهات .
الأمر الخامس : هَبْ أنه ينتفع بتلك الأمْوَالِ والطيبات من غير شائبة إلا أن ذلك الانتفاع [ مُنْقَرِضٌ ]{[13708]} ذاهبٌ والمنافِعُ المُنَقَرِضَةُ{[13709]} تحزن الإنسان لمفارقتها ، وكلما كانت تلك المَنَافِعُ أكمل وألَذّ ، كانت [ تلك ]{[13710]} الأحزانُ الحاصلة عن انقراضها وانقطاعها{[13711]} أقْوَى وأكمل .
فصل في المراد بقوله : " وللآخرة خير "
قال ابن عباس : المراد بالآخرة الجنَّة ، وأنها خير لمن اتَّقَى الكُفْرَ والمعاصي{[13712]} .
وقال الحَسَنُ : المراد نفس دار الآخرة خَيْرٌ{[13713]} .
وقال الأصم : التمسُّكُ بِعَمَلِ الآخرة خير{[13714]} .
وقال آخرون : نعيم الآخرة خيْرٌ من نعيم الدنيا للذين يتَّقُون المعاصي والكبائر ، فأمَّا الكَافِرُ والفَاسِق فلا [ ؛ لأن الدنيا ]{[13715]} بالنسبة إليه خير من الآخرة لقوله عليه السلام : " الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ " {[13716]} .
قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُون } قد تقدَّم الكلامُ في مِثْلِ هذه الهمزة الداخلة على " الفاء " وأختها " الواو " و " ثم " .
وقرأ ابن{[13717]} عامر - رضي الله عنه - ونافع وحفص عن عاصم : " تَعْقِلُون " خطاباً لمن كان بحضرته - عليه السَّلام - وفي زمانه .
والباقون{[13718]} بياء الغَيْبَةِ ردَّاً على ما تقدَّمَ من الأسماء الغائبة{[13719]} ، وحُذِفَ مفعول " تعقلون " لِلْعِلمِ به ، أي : فلا تعقلون أنَّ الأمر كما ذكر فَتَزْهَدُوا{[13720]} في الدنيا ، أو أنها خَيْرٌ من الدنيا .