قال ابن الخطيب{[57077]} : { أَسْكِنُوهُنَّ } وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله { وَمَن يَتَّقِ الله } كأنه قيل : كيف يعمل بالتقوى في جنس المعتدات ؟ فقيل : «أسكنوهُنَّ » .
قوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } . فيه وجهان :
قال الزمخشري{[57078]} : «مبعضها محذوف معناه : أسكنوهن مكاناً من حيثُ سكنتم ، أي : بعض مكان سُكناكم ، كقوله تعالى : { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [ النور : 30 ] أي : بعض أبصارهم » .
قال قتادةُ : إن لم يكن إلا بيت واحد ، فأسكنها في بعض جوانبه{[57079]} .
قال ابن الخطيب{[57080]} : وقال في الكشاف : «من » صلة ، والمعنى أسكنوهن من حيث سكنتم .
والثاني : أنها لابتداء الغاية . قاله الحوفي ، وأبو البقاء .
قال أبو البقاء{[57081]} : والمعنى تسبّبوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم ودلّ عليه قوله «مِن وُجْدِكُم » ، والوُجْد : الغِنَى .
قوله : «من وجدكم » . فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بدل من قوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } بتكرار العامل ، وإليه ذهب أبو البقاء .
كأنه قيل : أسكنوهن من سعتكُم .
والثاني : أنه عطف بيان لقوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ، وإليه ذهب الزمخشري ، فإنه قال بعد أن أعرب «مِنْ حَيْثُ » تبعيضية ، قال{[57082]} : «فإن قلت : فقوله " مِنْ وُجْدِكُمْ " قلت : هو عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ومفسّر له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم{[57083]} مما تطيقونه ، والوُجْد : الوسع والطاقة » .
وناقشه أبو حيان{[57084]} بأنه لم يعهد في عطف البيان إعادة العامل ، إنما عهد هذا في البدل ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً .
وقرأ العامة : «وجدكم » بضم الواو .
والحسن ، والأعرج ، وأبو حيوة{[57085]} : بفتحها .
والفياض بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب{[57086]} : بكسرها .
يقال : وجدت في المال أجد وُجْداً وجدة ، والوُجْد : الغِنَى والقُدرة ، والوَجْد بفتح الواو : الحُزْن أيضاً والحب والغضب .
قال القرطبي{[57087]} : روى أشهب عن مالك : يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل لقوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ } ، فلو كان معها ما قال أسكنوهن .
وقال ابن نافع : قال مالك في قوله تعالى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } يعني المطلقات اللاتي بنَّ من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن ، وليست حاملاً ، فلها السُّكنَى ، ولا نفقة لها ولا كُسْوة ؛ لأنها بائن منه ، ولا يتوارثان ولا رجعة له عليها ، وإن كانت حاملاً فلها الكسوة والنفقة والمسكن حتى تنقضي عدتها .
قال البغوي{[57088]} : ونعني بالكسوة مؤونة السكن ، فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكاً للزوج وجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها ، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة ، وإن كانت عاريةً فرجع المعير فيها فعليه أن يكتري لها داراً تسكنها ، فأما من لم تَبِنْ منه ، فإنها امرأته يتوارثان ، ولا تخرج إلا بإذن زوجها ما دامت في العدة ولم يؤمر بالسكن لهما لأن ذلك لازم للزوج مع النفقة والكسوة حاملاً كانت أو غير حامل ، وإنما أمر الله بالسكن للبائن ، قال تعالى : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } فجعل الله - عز وجل - للحوامل البائنات من أزواجهن السكنى والنفقة .
قال ابن العربي{[57089]} : «إن الله - تعالى - لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة ، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل ، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها » .
قال القرطبي{[57090]} : اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال : فمذهب مالك والشافعي : أن لها السَّكنى ولا نفقة لها .
ومذهب أبي حنيفة وأصحابه : أن لها السكنى والنفقة .
ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور : لا نفقة لها ولا سُكنى ، لحديث فاطمة بنت قيس قالت : «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي ، فقلت : إن زوجي طلقني ، وإن هذا يزعم أنه ليس لي سُكْنَى ولا نفقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل لك السُّكنى والنفقة ، قال : إن زوجها طلَّقها ثلاثاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنَّمَا السُّكْنَى والنَّفقةُ على من لَهُ عليْهَا رَجْعَةٌ{[57091]} ، فَلمَّا قدمتُ " الكُوفَة " طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك ، وإن أصحاب عبد الله يقولون : إن لها السكنى والنفقة » .
وعن الشعبي قال : لقيني الأسود بن يزيد ، فقال : يا شعبي ، اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيسٍ ، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة ، قلت : لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتدَّ في بيت ابن أم مكتومٍ .
وأجيب عن ذلك بما روت عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها{[57092]} .
وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها{[57093]} .
وقال قتادة وابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للرجعية ، لقوله تعالى : { لاَ تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ، وقوله تعالى : { أَسْكِنُوهُنَّ } راجع إلى ما قبله ، وهي المطلقة الرجعية .
قال البغوي{[57094]} : «وأما المُعتدَّة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بِعيْبٍ أو خيار عتق ، فلا سُكْنَى لها ولا نفقة ، وإن كانت حاملاً ، والمعتدة من وفاة زوج لا نفقة لها حاملاً كانت أو حائلاً عند أكثر العلماء ، وروي عن عليٍّ أن لها النفقة إن كانت حاملاً من التركة حتى تضع ، وهو قول شريح والشعبي والنخعي والثوري . واختلفوا في سكناها :
أحدهما : لا سكنى لها بل تعتدّ حيث شاءت ، وهو قول علي وابن عبَّاس وعائشة ، وبه قال عطاء والحسن ، وهو مذهب أبي حنيفة .
والثاني : لها السكنى ، وهو قول عمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وبه قال مالك ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، لما روى كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب أن الفُريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - «أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف " القدوم " لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة ، فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نَعَمْ " ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحُجْرة أو في المسجد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بي فدعيت له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كَيْفَ قُلْتِ ؟ " قالت : فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : " امْكُثِي حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ " ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهُر وعَشْراً ، قالت : فلما كان عثمان أرسل إليّ فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتبعه وقضى به »{[57095]} .
فمن قضى بهذا القول قال : إذنه لفريعة أولاً بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله : «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حتَّى يبلغ الكِتَابُ أجَلَهُ » ، ومن لم يوجب السُّكنى قال : أمرها بالمكث آخراً استحباباً لا وجوباً .
قوله : { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } .
قال مجاهد : في المسكن{[57096]} .
وقال مقاتل : في النَّفقة{[57097]} . وهو قول أبي حنيفة .
وعن أبي الضحى : أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ، ثم طلقها .
قوله : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
هذا في وجوب النَّفقة والسُّكنى للحامل المطلقة ثلاثاً أو أقل حتى تضع حملها ، فأما الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال علي ، وابن عمر وابن مسعود ، وشريح ، والنخعي ، والشعبي ، وحماد ، وابن أبي ليلى ، وسفيان ، وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع .
وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وجابر بن عبد الله ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : لا ينفق عليها إلا من نصيبها ، وقد مضى في «البقرة » .
قوله : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } .
يعني المُطلَّقات ، أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهنّ وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يَبِنَّ ، ويجوز عند الشافعي . وتقدم القول في الرضاع في «البقرة » .
افتعلوا من الأمر ، يقال : ائتمر القوم وتأمّروا ، أي : أمر بعضهم بعضاً .
وقال الكسائي : «ائتمروا » تشاوروا ؛ وتلا قوله تعالى : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ }[ القصص : 20 ] وأنشد قول امرئ القيس : [ الطويل ]
4782ب – . . . *** ويَعْدُو عَلَى المَرْءِ مَا يَأتَمِرْ{[57098]}
الخطاب في قوله : «وائتمروا » للأزواج والزوجات ، أي : وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل ، والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع .
وقيل : ائتمروا في إرضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار .
وقيل : معناه لا تضار والدة بولدها ، ولا مولود له بولده .
قيل : هو خبر في معنى الأمر ، والضمير في «له » للأب ، لقوله تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } والمفعول محذوف للعلم به ، أي : فسترضع الولد لوالده امرأة أخرى ، والظَّاهر أنه خبر على بابه .
قوله : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الأم أجرة رضاعها ، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها وليستأجر غير أمه .
وقيل : معناه إن تضايقتكم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها .
وقال الضحاك : إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجْرة .
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد .
فقال مالك : إرضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية ، إلا لشرفها وموضعها ، فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله .
وقال أبو حنيفة : لا يجب على الأم بحال .
فإن طلقها فلا يجب عليها إرضاعه إلا أن لا يقبل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع ، فإن اختلفا في الأجرة ، فإن دعت إلى أجرة المثل وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعة ، وإن دعا الأب إلى أجرِ المثل ، وامتنعت الأم لتطلب شططاً ، فالأب أولى به ، فإن أعسر الأب بأجرتها أجبرت على رضاع ولدها .