قوله تعالى : { يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } .
قال ابن الخطيب{[56948]} : وجه تعلق هذه السورة بآخر ما قبلها ، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله : { عَالِمُ الغيب والشهادة } ، وفي أول هذه السورة أشار إلى كمال علمه بمصالح النِّساء ، والأحكام المخصوصة بطلاقهن ، فكأنه بيّن ذلك الكلي بهذه الجزئيات .
وهذا الخطاب فيه أوجه{[56949]} :
أحدهما : أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له ؛ كقوله : [ الطويل ]
4780 - فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِوَاكُمُ***وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْداً{[56950]}
الثاني : أنه خطاب له ولأمته ، والتقدير : يا أيها النبي وأمته إذا طلقتم فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه ، كقوله : [ الطويل ]
4781 - . . . *** إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا . . . . . . . . . . . . {[56951]}
كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبرد .
الثالث : أنه خطاب لأمته فقط بعد ندائه - عليه الصَّلاة والسلام - وهو من تلوين الخطاب ، خاطب أمته بعد أن خاطبه .
الرابع : أنه على إضمار قول ، أي : يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء .
قال القرطبي{[56952]} : قيل : إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب ، وذلك لغة فصيحة ، كقوله : { إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم }[ يونس : 22 ] ، والتقدير : يا أيها النبي قل لهم : إذا طلقتم النساء ، فطلقوهن لعدتهن ، وهذا هو قولهم : إن الخطاب له وحده ، والمعنى له وللمؤمنين ، وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله : { يا أيها النبي } ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال : { يا أيها الرسول } .
قال القرطبي{[56953]} : ويدلّ على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية .
روى أبو داود : أنها طُلِّقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلَّقة عدّة ، فأنزل الله - تعالى - العِدّة للطلاق حين طُلقت أسماء ، فكانت أولَّ من أُنزل فيها العدة للطلاق .
الخامس : قال الزمخشري{[56954]} : «خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعمّ بالخطاب ؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لترؤسه » في كلامٍ حسنٍ .
وهذا هو معنى القول الثالث المتقدم .
قال القرطبي{[56955]} : وقيل : المراد به نداء النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً له ، ثم ابتدأ : { إذا طلّقتم النساء } ، كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } [ المائدة : 90 ] الآية فذكر المؤمنين تكريماً لهم ، ثم افتتح فقال : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام }[ المائدة : 90 ] الآية .
وقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ } أي : إذا أردتم ، كقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة }[ المائدة : 6 ] { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن }[ النحل : 98 ] . وتقدم تحقيقه .
فصل في طلاق النبي صلى الله عليه وسلم
روى ابن ماجة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلّق حفصة ثم راجعها{[56956]} .
وعن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة - رضي الله عنها - فأتَتْ أهلها ، فأنزل الله تعالى عليه : { يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }{[56957]} ، وقيل له : راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة ، وهي من أزواجك في الجنة . ذكره القشيري والماوردي والثعلبي .
زاد القُشيريّ : ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } .
وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة ، فطلقها تطليقة ، فنزلت الآية{[56958]} .
وقال السُّديُّ : نزلت في عبد الله بن عمر ، طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، فإن أراد أن يطلقها فليطلِّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدَّة التي أمر اللَّه أن تطلق لها النساء{[56959]} .
وقد قيل : إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت الآية فيهم{[56960]} .
قال ابن العربي : وهذا كله وإن لم يكن صحيحاً فالقول الأول أمثل وأصح ، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ .
روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ مِنْ أبْغَضِ الحَلالِ إلى اللَّهِ الطَّلاقُ »{[56961]} .
وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «تَزَوَّجُوا ولا تُطَلِّقُوا ، فإنَّ الطَّلاقَ يَهْتَزُّ مِنْه العَرْشُ »{[56962]} .
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تُطلِّقُوا النِّساءَ إلاَّ من ريبَةٍ فإنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ ولا الذواقات »{[56963]} .
وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا حَلَفَ بالطَّلاقِ ولا اسْتَحْلَفَ بِهِ إلاَّ مُنَافِقٌ »{[56964]} . أسنده الثعلبي .
وروى الدارقطني عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَا مُعَاذُ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالَى شَيْئاً عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أحَبُّ إليْهِ مِنَ العِتَاقِ ، ولا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئاً أبْغَضَ إِليْهِ من الطَّلاقِ ، فإذَا قَالَ الرَّجُلُ لمَمْلُوكَهِ : أنتَ حُرٌّ - إن شَاءَ اللَّهُ - فَهُو حُرٌّ ولا اسْتِثْنَاءَ لَهُ ، وإذَا قَالَ الرَّجلُ لامْرأتِهِ : أنت طَالِقٌ إن شَاءَ الله فَلهُ اسْتِثْنَاؤهُ ، ولا طَلاقَ عَلَيْهِ »{[56965]} .
وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا أحَلَّ اللَّهُ شَيْئاً أبْغَضَ إلَيْهِ مِنَ الطَّلاقِ ، فَمَن طلَّقَ واسْتَثْنَى فَله ثنياه »{[56966]} .
قال ابن المنذر : واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق : فقالت طائفة بجوازه ، وهو مروي عن طاووس .
قال حماد الكوفي : والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي .
وقال مالك والأوزاعي : لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة{[56967]} .
قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول .
فصل في وجوه الطلاق{[56968]}
روى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : الطلاق على أربعة وجوه وجهان حلالان ، ووجهان حرامان .
فأما الحلال ، فأن يطلقها [ طاهراً ]{[56969]} من غير جماع ، وأن يطلّقها حاملاً متبيناً حملها ، وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً ، وأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أشْتَمَلَ الرَّحمُ على ولدٍ أمْ لاَ{[56970]} .
واعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة ، وكذلك في الطُّهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «وإن شَاءَ طلَّق قَبْلَ أن يمضي » .
وطلاق السُّنة : أن يُطلِّقها في طُهْرٍ لم يجامعها فيه ، وهذا في حقِّ المرأة يلزمها العدة بالأقراء .
وأما طلاق غير المدخول بها في حيضها ، أو الصغيرة التي لم تحض ، والآيسة بعدما جامعها ، أو طلق الحامل بعد ما جامعها ، أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيًّا ولا سنيًّا لقوله - عليه الصلاة والسلام - : «ثُمَّ ليُطلِّقْهَا طَاهِراً أو حَاملاً » .
والخُلْع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه فلا يكون بدعياً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ، ولولا جوازه في جميع الأحوال لاستفسره .
قال الزمخشري{[56971]} : «مستقبلات لعدتهن » ، كقولك : أتيته لليلة بقيت من المحرم أي : مستقبلاً لها ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من قبل عدتهن } انتهى .
وناقشه أبو حيان في تقدير الحال التي تعلق بها الجار كوناً خاصًّا .
وقال{[56972]} : «الجار إذا وقع حالاً إنما يتعلق بكون مطلق » .
وفي مناقشته نظر ، لأن الزمخشري لم يجعل الجار حالاً ، بل جعله متعلقاً بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام{[56973]} .
وقال أبو البقاء{[56974]} : «لعدَّتهنَّ » أي : عندما يعتد لهن به ، وهن في قبل الطهر . وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب .
وقال أبو حيان{[56975]} : «هو على حذف مضاف ، أي : لاستقبال عدتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : لقيته لليلة بقيت من شهر كذا » انتهى .
فعلى هذا تتعلق اللام ب «طلقوهن » .
وقال الجرجاني : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } صفة للطَّلاق .
كيف يكون ، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة{[56976]} ؟
للإضافة ، وهي أصلها ، أو لبيان السبب والعلة ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله }[ الإنسان : 9 ] .
أو بمعنى «عند » كقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس }[ الإسراء : 78 ] أي : عنده .
وبمنزلة «في » كقوله تعالى : { أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر }[ الحشر : 2 ] ، أي : في أول الحشر .
وهي في هذه الآية بهذا المعنى ، لأن المعنى : فطلقوهن في عدتهن ، أي : في الزمان الذي يصلح لعدتهن .
قال القرطبي{[56977]} : قوله : «لعدَّتِهِنَّ » يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن الأزواج ، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا }[ الأحزاب : 49 ] وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع منه ، وفي الطهر مأذون فيه ، وهذا يدل على أن القرء هو الطهر .
فإن قيل : معنى قوله : «فطَلِّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ » أي : في قُبُل عدتهن ، أو لقبل عدتهن وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عمر ، فقبول العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحَيْض ؟ .
قيل{[56978]} : هذا هو الدليل الواضح لمن قال : بأن الأقْراءَ هي الأطْهَار ، ولو كان كما قال الحنفي ، ومن تابعه لوجب أن يقال : إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقاً لقبل الحيض لأن الحيض لم يُقْبِل بعد ، وأيضاً إقبال الحيض يكون بدخول الحيض ، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض ، ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطراً قبل انقضاء النهار ثُمَّ إذا طلق في آخر الطهر فبقيّة الطهر قرء ، ولأن بعض القرء يسمى قرءاً ، كقوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ }[ البقرة : 197 ] ، يعني شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وكقوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ }[ البقرة : 203 ] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني .
وقال البغوي{[56979]} : معنى قوله «لِعدَّتهِنَّ » أي : لطهرهن الذي يحضنه من عدتهن ، وكان ابن عبَّاس وابن عمر يقرآن : { فطلقوهن في قبل عدتهن } ، والآية نزلت في عبد الله بن عمر .
فصل في الطلاق في الحيض{[56980]}
من طلق في طهر جامع فيه أو حائضاً نفذ طلاقه ، وأخطأ السُّنة .
وقال سعيد بن المسيب في آخرين : لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة ، وإليه ذهبت الشيعة .
قال عبد الله بن مسعود : طلاق السنة أن يطلقها في كل طُهْر تطليقة ، فإذا كان آخر ذلك ، فتلك العدّة التي أمر الله بها{[56981]} .
قال القرطبي{[56982]} : قال علماؤنا : طلاق السُّنة ما جمع شروطاً سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض طاهراً ، لم يمسّها في ذلك الطُّهر ، ولا تقدمه طلاق في حيض ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض ، وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمرو . وقال الشافعي : طلاق السُّنة : أن يطلقها في كل طُهْرٍ خاصة ، ولو طلقها ثلاثاً في طُهْر لم يكن بدعة .
قال ابن العربي{[56983]} : «وهذه غفلة عن الحديث الصحيح ، فإنه قال فيه : " مُرةُ فَليُرَاجِعْهَا " وهذا يدفع الثلاث » .
وفي الحديث أنه قال : " أرَأيْتَ لَوْ طَلقَّهَا ثلاثاً " ؟ قَال : " حَرُمَتْ عليْكَ ، وكَانَتْ مِنكَ بِمَعْصيَةٍ " {[56984]} .
وقال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحد سواء .
وهو مذهب الشافعي . لولا قوله بعد ذلك : { لاَ تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً }[ الطلاق : 1 ] ، وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية ، وبذلك قال أكثر العلماء .
قال القرطبي{[56985]} : وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية ، ولكن الحديث فسرها ، وأما قول الشعبي فمردود بحديث ابن عمر .
واحتج الشافعي بأن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، ولم يبلغنا أن أحداً من الصحابة عاب ذلك عليه .
وأن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، فأبانها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب ذلك عليه .
وبحديث عويمر العجلاني ، لما لاعن ، قال : يا رسول الله ، هي طالق ثلاثة ، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم .
فصل في نزول العدة للطلاق{[56986]}
روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية ، أنها طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكُن للمطلقة عدة فأنزل الله - تعالى - حين طلقت أسماء العدّة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق .
قوله : { وَأَحْصُواْ العدة } .
يعني في المدخول بها ، أي : احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق .
قيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً ، وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكن .
وفي المخاطب بالإحصاء أقوال{[56987]} .
قال ابن العربي{[56988]} : والصحيح أنهم الأزواج ؛ لأن الضمائر كلها من «طَلَّقتُمْ » ، و «أحْصُوا العِدَّة » و «لا تُخْرجُوهُنَّ » على نظام واحد ، فرجع إلى الأزواج ، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق ، لأن الزوج يُحْصِي ليراجع ، وينفق أو يقطع ، وليسكن أو يخرج ، وليلحق نسبه أو يقطع ، وهذه أمور كلها مشتركة بينه وبين المرأة ، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك وكذلك الحاكم يفتقر إلى إحصاء العدة للفَتْوَى عليها ، وفصل الخصومة عند المنازعة ، وهذه فوائد الأمر بإحصاء العدّة .
قوله : { واتقوا الله رَبَّكُمْ } . أي : لا تعصوه .
{ لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ } . أي : ليس للزَّوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدّة ، ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثِمَتْ ، ولا تنقطع العدّة{[56989]} .
فإن قيل : ما الحِكمةُ في قوله تعالى : { واتقوا الله رَبَّكُمْ } ولم يقتصر على قوله { واتقوا الله } ؟ .
فالجواب{[56990]} : إن في هذا من المبالغة ما ليس في ذاك ، فإن لفظ الرَّبِّ يفهم منه التربية ، وينبه على كثرة الإنعام بوجوه كثيرة ، فيبالغون في التَّقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية .
فصل في الرجعية والمبتوتة{[56991]} .
والرجعية والمبتوتة في هذا سواء ، وذلك لصيانة ماء الرجل ، وهذا معنى إضافة البيوت إليهن ، كقوله تعالى :{ واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ }[ الأحزاب : 24 ] ، وقوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ }[ الأحزاب : 33 ] فهو إضافة إسكان لا إضافة تمليك ، وقوله { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } يقتضي أن يكون حقًّا على الأزواج ، وقوله : { ولا يخرجن } يقتضي أنه حق على الزوجات ، فلا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها ، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت ، فإن وقعت ضرورة أو خافت هدماً أو غرقاً ، فلها أن تخرج إلى منزل آخر ، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غَزْل أو شراء قطن ، فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً ؛ فإن رجالاً استشهدوا ب «أحد » ، فقالت نساؤهم : نستوحش في بيوتنا فإذِنَ لهن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن ، فإذا كان وقت الليل تأوي كل امرأة إلى بيتها .
وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لخالة جابر لما طلقها زوجها أن تخرج لجداد نخلها .
وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد ذاهبة وجائية ، والبدوية تَنْتَوي حيث يَنْتَوي أهلها في العدة ، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم .
وقال أبو حنيفة : ذلك في المتوفى عنها زوجها ، وأما المطلقة فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً . وهذا مردود بحديث فاطمة بنت قيس «لما قدمت أرسل زوجها أبو حفص بن عمرو بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ، وأرسل إليها وكيله بشير فسخطته ، فقال لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة : والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملاً ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما ، فقال : لا نفقة لك » ، وفي رواية : «ولاَ سَكَنَ » ، فاستأذنت في الانتقال ، فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، فلما انقضت عدتها أنكحها النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد ، فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث ، فحدثته ، فقال مروان : لم نسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصْمَةِ التي وجدنا النَّاس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : فبيني وبينكم القرآن ، قال الله عز وجل : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } ، قالت : هذا لما كانت له رجعة ، لقوله : { لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً } ، فأي أمر يحدث بعد الثَّلاث ؟ فكيف تقولون : «لا نَفقَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ حامِلاً ، فعلام تَحبسُونهَا » لفظ مسلم .
فبين أن الآية في تحريم الإخراج ، والخروج إنما هو في الرجعية .
فاستدلّت فاطمة أن الآية إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج في كل وقت .
وأما البائن فليس له شيء في ذلك ، فيجوز أن تخرج إذا دعتها لذلك حاجة .
قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } .
قال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، والشعبي ، ومجاهد : هو الزِّنا ، فتخرج{[56992]} ويقام عليها الحد .
وعن ابن عباس أيضاً : أنه البذاء على أحمائها ، فيحل لهم إخراجها{[56993]} .
وعن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها النبي - عليه الصلاة والسلام - أن تنتقل{[56994]} .
وفي كتاب أبي داود ، قال سعيد : تلك امرأة فتنت النَّاس ، إنها كانت لسنةً فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى .
قال عكرمة : في مصحف أبيٍّ { إلا أن يفحشن عليْكم }{[56995]} .
ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : اتَّقي الله ، فإنك تعلمين لم أخرجت .
وعن ابن عبَّاس أيضاً : أن الفاحشة كل معصية كالزِّنا والسرقة والبذاء على الأهل{[56996]} ، وهو اختيار الطبري .
وعن ابن عباس أيضاً والسدي : «الفاحشة خروجها من بيتها في العدة »{[56997]} .
وتقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة لخروجهن من بيوتهن بغير حق ، أي : لو خرجت كانت عاصية .
وقال قتادة : «الفاحشة » النشوز ، وذلك أن يطلقها على النُّشوز ، فتتحول عن بيته{[56998]} .
وقال ابن العربي{[56999]} : أما من قال : إنه الخروج للزنا ، فلا وجه له ؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القَتْل والإعدام ، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام ، وأما من قال : إنه البذاء ، فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس ، وأما من قال : إنه كل معصية فوهم ، لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج ، وأما من قال : إنه الخروج بغير حقًّ فهو صحيح ، وتقدير الكلام : لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدِّياً .
ومعناه : أن الفاحشة إذا تفكَّرت فيها تبين أنها فاحشة .
وقرئ{[57000]} : بفتح الياء المشددة .
والمعنى : أنها مبرهنة بالبراهين ، ومبينة بالحُجَجِ .
قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } .
أي : هذه الأحكام المبينة أحكام الله على العباد ، وقد منع التجاوز عنها ، فمن تجاوزها فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك{[57001]} .
قوله : { لاَ تَدْرِي لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } .
الأمر الذي يحدث الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليها فيراجعها .
وقال جميع المفسرين{[57002]} : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ، ومعنى الكلام : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد للرجعة سبيلاً .
وقال مقاتل : «بعد ذلك » أي بعد طلقة أو طلقتين «أمراً » أي : المراجعة من غير خلاف .
هذه الجملة مستأنفة ، لا تعلُّق لها بما قبلها ، لأن النحاة لم يعدوها في المعلقات{[57003]} .
وقد جعلها أبو حيَّان مما ينبغي أن يعد فيهن{[57004]} ، وقرر ذلك في قوله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ }[ الأنبياء : 111 ] .
فهناك يطلب تحريره{[57005]} .