قوله تعالى : { يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } ؟ .
قال ابن الخطيب{[57136]} : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها ، وذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء ، واشتراك الخطاب في الطلاق في أول تلك السورة يشترك مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة ؛ لأن الطلاق في أكثر الصور يشتمل على تحريم ما أحل الله .
وأما تعلّق أول هذه السورة بآخر تلك السورة فلأن المذكور في آخر تلك السورة يدلّ على عظمة حضرة الله تعالى وعلى كمال قدرته وعلمه ، ولما كان خلق السماوات والأرض ، وما بينهما من العجائب والغرائب مما ينافي القدرة على تحريم ما أحلّ الله ، فلهذا قال : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } .
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكثُ عند زينب بنت جحش ، فيشرب عندها عسلاً ، قالت : فتواطأت أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلتقل : إني أجد ريح مغافير ، فدخل على إحداهما ، فقالت له ذلك ، فقال : بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له ، فنزل : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } إلى قوله : { إِن تَتُوبَا } لعائشة وحفصة »{[57137]} .
وعنها أيضاً قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، فكان إذا صلَّى العصر دار على نسائه ، فدخل على حفصة ، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدتْ لها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت منه رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة ، فقلت : أما - والله - لنحتالن له ، فذكرت ذلك لسَوْدَة ، وقلت إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك ، فقولي له : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ فإنه سيقول لك : لا ، فقولي له : ما هذه الريحُ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ؛ فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسلٍ ، فقولي : جَرَسَتْ نَحْلُهُ العُرفُطَ ، وسأقول ذلك له ، وقوليه أنت يا صفيةُ ، فلما دخل على سودة قالت سودة : والذي لا إله إلا هو ، لقد كدت أن أبادئه بالذي قالت لي ، وإنه لعلى الباب ، فرقاً منك ، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ، أكلت مغافير ؟ قال : لا ، قلت : فما هذه الريح ؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل ، قالت : جَرسَتْ نَحْلُهُ العُرْفُطَ ، فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك ، ثم{[57138]} دخل على صفيّة ، فقالت مثل ذلك ، فلما دخل على حفصة ، قالت له : يا رسول الله ، ألا أسقيك منه ؟ قال : لا حاجة لي به ، قالت : تقول سودة : سبحان الله ، لقد حرمناه ، قالت : قلت لها : اسكتي »{[57139]} .
ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صلى الله عليه وسلم العسل حفصة ، وفي الأولى زينب .
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أنه شربه عند سودة{[57140]} .
وقد قيل : إنما هي أمّ سلمة ، رواه أسباط عن السديِّ{[57141]} .
قال ابن العربي{[57142]} : «وهذا كله جهل ، أو تصور بغير علمٍ » .
فقال باقي نساه حسداً وغيرة لمن شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير .
والمغافير : بقلة أو صمغة متغيّرة الرائحة ، فيها حلاوة ، واحدها : مغفور .
وجَرَسَتْ : أكلت ، والعُرْفُطُ : نبت له ريح كريح الخمرِ .
وكان - عليه الصلاة والسلام - يعجبه أن يوجد منه الريح الطيبة ، ويكره الريح الخبيثة لمناجاة الملك .
وقال ابن عبَّاس : أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها ، والمرأة أم شريك ، قاله عكرمة{[57143]} .
وقيل : إن التي حرّم مارية القبطية ، وكان قد أهداها له المقوقس ملك «الإسكندرية » .
قال ابنُ إسحاق : هي من كورة «أنْصِنا » من بلد يقال له : «حفْن » ، فواقعها في بيت حفصة .
روى الدارقطني عن ابن عباسٍ عن عمر رضي الله عنهم قال : «دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده ، مارية في بيت حفصة ، فوجدته حفصة معها ، فقالت له : تدخلها بيتي ؟ ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك ، فقال لها : لا تذكري هذا لعائشة ، فهي عليّ حرام إن قربتها ، قالت حفصة : فكيف تحرم عليك وهي جاريتك ؟ فحلف لها ألا يقربها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تَذْكُرِيهِ لأَحدٍ " {[57144]} ، فذكرته لعائشة ، فآلى لا يدخل على نسائه شهراً ، فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلةً ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } » الآية{[57145]} .
قال القرطبي{[57146]} : أصح هذه الأقوال أولها ، وأضعفها أوسطها .
قال ابن العربي{[57147]} : «أما ضعفه في السند ، فلعدم عدالة رواته ، وأما ضعفه في معناه فلأن رد النبي صلى الله عليه وسلم الموهوبة ليس تحريماً لها ؛ لأن من رد ما وُهِبَ له لم يَحْرُمْ عليه ، إنما حقيقة التحريم بعد التحليل ، وأما ما روي أنه حرم مارية القبطية ، فهو أمثل في السند ، وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدون في الصحيح بل روي مرسلاً ، وإنما الصحيح أنه كان في العسل ، وأنه شربه عند زينب ، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة ، فحلف أن لا يشربه ، وأسر ذلك ، ونزلت الآية في الجميع » .
قوله تعالى : { لِمَ تُحرِّمُ } إن كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم ولم يحلف ، فليس ذلك بيمين ، ولا يحرم قول الرجل : «هذَا عليَّ حَرامٌ » شيئاً ، حاشا الزوجة .
وقال أبو حنيفة : أذا أطلق حمل على المأكول والمشروب ، دون الملبوس ، وكانت يميناً توجب الكفارة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.