ثم قال { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ } .
فقوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكاءَ } ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره : فلما آتاهما صالحاً أجعلاً له شركاء فيما آتاهما ؟ : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذي يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - عليه الصلاة والسلام - ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك . فيقول المُنْعِمُ : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم يقابلني بالشَّرِّ ؟ إنه بريء عن ذلك .
فقوله : يقابلني بالشَّرِّ المراد منه : النفي والتبعيد فكذا ههنا .
ثانيها : إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ } ، أي : جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما : " آتاهُما " أي أولادهما ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف 82 ] أي أهل القريةِ .
فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله " جَعَلا لَهُ " ؟
قلنا : لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله " جَعَلا " المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع ، وهو قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وثالثها : سلَّمْنَا أن الضمير في قوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ } عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل : إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق ، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته ، وهذا العملُ ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة ، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين ، فلهذا قال اللَّهُ تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكياً عن اللَّهِ تعالى : " أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عملَ عملاً أشْركَ فيهِ غَيْرِي تركْتُه وشِرْكُه " {[17074]}
التأويل الرابع : سلَّمنا أنَّ القصَّة في آدم وحواء ، إلاَّ أنَّا نقولُ : إنَّما سموه بعيد الحارث لأنَّهُم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفَةِ والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المُسَمَّى بالحارث .
وقد يُسمى المُنْعَم عليه عبداً للمنعمِ ، كما يقالُ في المثل : أنا عبدُ من تعلَّمتُ منه حرفاً فآدم وحوَّاء إنما سمياهُ بعبد الحارث لاعتقادهم أنَّ سلامته من الآفات ببركة دعائه ، ولا يخرجه ذلك عن كونه عَبْداً لِلَّهِ من جهة أنَّهُ مملوكه ومخلوقه ، وقد ذكرنا أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين فلمَّا حصل الاشتراك في لفظ العبدِ لا جرم عُوتب آدم عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد .
قوله : " جَعَلا لَهُ " قيل : ثمَّ مضاف ، أي : جعل له أولادهما شركاء ، كما تقدَّم في التَّأويلِ السَّابق ، وإلاَّ فحاشا آدم وحواء من ذلك ، وإن جُعِل الضَّمير ليس لآدم وحواء ، فلا حاجة إلى تقديره كما مرَّ تقريره .
وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم{[17075]} شِرْكاً بكسر الشِّينِ وسكون الرَّاءِ وتنوين الكاف .
والباقون بضمِّ الشين ، وفتح الرَّاء ، ومدِّ الكاف مهموزةً ، من غير تنوين ، جمع " شَريك " .
فالشِّركُ مصدرٌ ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذوي شركٍ ، يعني : إشراك ، فهو في الحقيقةِ اسمُ مصدر ، ويكون المعنى : أحْدَثَا لَهُ إشراكاً في الولد ، وقيل : المرادْ بالشِّركِ : النصيبُ وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما ، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما ، فالضَّميرُ في لَهُ يعود على الولدِ الصَّالحِ .
وقيل : الضمير في لَهُ لإبليس ولم يَجرِ لهُ ذكر ، وهذان الوجهان لا معنى لهما .
وقال مكيٌّ وأبُو البقاءِ وغيرهما : إنَّ التقدير يجوز أن يكون : جعلا لغيره شِرْكاً .
قال شهابُ الدِّين{[17076]} : هذا الذي قدَّره هؤلاء قد قال فيه أبُو الحسن : كان ينبغي لمن قرأ شِرْكاً أن يقول المعنى : جعلا لغيره شِرْكاً ؛ لأنَّهُمَا لا يُنْكرانِ أنَّ الأصلَ للَّه فالشرك إنَّما يجعله لغيره .
قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } قيل : هذه جملةٌ استئنافيةٌ ، والضمير في : يُشْرِكُونَ يعودُ على الكُفَّارِ ، وأراد به إشراك أهلِ مكَّة والكلامُ قد تمَّ قبله ، وقيل : يعودُ على آدم وحواء وإبليس ، والمرادُ بالإشراكِ تَسْميتُهُمَا الولد الثالث ب " عبد الحارث " وكان أشَارَ بذلك إبليس ، فالإشراكُ في التَّسْمية فقط ، وقيل : راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم ، وهو قولُ الحسنِ ، وعكرمة ، أي : جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال :
{ ثُمَّ اتخذتم العجل } [ البقرة : 51 ] { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الفعل من آبائهم .
وقيل : لم يكن آدم عَلِمَ ، ويُؤيدُ الوجه الأول قراءة{[17077]} السّلمي : " عَمَّا تُشرِكُون " بتاء الخطاب وكذلك " أتُشْركُونَ " بالخطابِ أيضاً ، وهو التفات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.