اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَمَّآ ءَاتَىٰهُمَا صَٰلِحٗا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَىٰهُمَاۚ فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (190)

ثم قال { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ } .

فقوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكاءَ } ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره : فلما آتاهما صالحاً أجعلاً له شركاء فيما آتاهما ؟ : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذي يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - عليه الصلاة والسلام - ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك . فيقول المُنْعِمُ : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم يقابلني بالشَّرِّ ؟ إنه بريء عن ذلك .

فقوله : يقابلني بالشَّرِّ المراد منه : النفي والتبعيد فكذا ههنا .

ثانيها : إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ } ، أي : جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما : " آتاهُما " أي أولادهما ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف 82 ] أي أهل القريةِ .

فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله " جَعَلا لَهُ " ؟

قلنا : لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله " جَعَلا " المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع ، وهو قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

وثالثها : سلَّمْنَا أن الضمير في قوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ } عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل : إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق ، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته ، وهذا العملُ ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة ، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين ، فلهذا قال اللَّهُ تعالى : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .

وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكياً عن اللَّهِ تعالى : " أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عملَ عملاً أشْركَ فيهِ غَيْرِي تركْتُه وشِرْكُه " {[17074]}

التأويل الرابع : سلَّمنا أنَّ القصَّة في آدم وحواء ، إلاَّ أنَّا نقولُ : إنَّما سموه بعيد الحارث لأنَّهُم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفَةِ والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المُسَمَّى بالحارث .

وقد يُسمى المُنْعَم عليه عبداً للمنعمِ ، كما يقالُ في المثل : أنا عبدُ من تعلَّمتُ منه حرفاً فآدم وحوَّاء إنما سمياهُ بعبد الحارث لاعتقادهم أنَّ سلامته من الآفات ببركة دعائه ، ولا يخرجه ذلك عن كونه عَبْداً لِلَّهِ من جهة أنَّهُ مملوكه ومخلوقه ، وقد ذكرنا أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين فلمَّا حصل الاشتراك في لفظ العبدِ لا جرم عُوتب آدم عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد .

قوله : " جَعَلا لَهُ " قيل : ثمَّ مضاف ، أي : جعل له أولادهما شركاء ، كما تقدَّم في التَّأويلِ السَّابق ، وإلاَّ فحاشا آدم وحواء من ذلك ، وإن جُعِل الضَّمير ليس لآدم وحواء ، فلا حاجة إلى تقديره كما مرَّ تقريره .

وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم{[17075]} شِرْكاً بكسر الشِّينِ وسكون الرَّاءِ وتنوين الكاف .

والباقون بضمِّ الشين ، وفتح الرَّاء ، ومدِّ الكاف مهموزةً ، من غير تنوين ، جمع " شَريك " .

فالشِّركُ مصدرٌ ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذوي شركٍ ، يعني : إشراك ، فهو في الحقيقةِ اسمُ مصدر ، ويكون المعنى : أحْدَثَا لَهُ إشراكاً في الولد ، وقيل : المرادْ بالشِّركِ : النصيبُ وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما ، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما ، فالضَّميرُ في لَهُ يعود على الولدِ الصَّالحِ .

وقيل : الضمير في لَهُ لإبليس ولم يَجرِ لهُ ذكر ، وهذان الوجهان لا معنى لهما .

وقال مكيٌّ وأبُو البقاءِ وغيرهما : إنَّ التقدير يجوز أن يكون : جعلا لغيره شِرْكاً .

قال شهابُ الدِّين{[17076]} : هذا الذي قدَّره هؤلاء قد قال فيه أبُو الحسن : كان ينبغي لمن قرأ شِرْكاً أن يقول المعنى : جعلا لغيره شِرْكاً ؛ لأنَّهُمَا لا يُنْكرانِ أنَّ الأصلَ للَّه فالشرك إنَّما يجعله لغيره .

قوله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } قيل : هذه جملةٌ استئنافيةٌ ، والضمير في : يُشْرِكُونَ يعودُ على الكُفَّارِ ، وأراد به إشراك أهلِ مكَّة والكلامُ قد تمَّ قبله ، وقيل : يعودُ على آدم وحواء وإبليس ، والمرادُ بالإشراكِ تَسْميتُهُمَا الولد الثالث ب " عبد الحارث " وكان أشَارَ بذلك إبليس ، فالإشراكُ في التَّسْمية فقط ، وقيل : راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم ، وهو قولُ الحسنِ ، وعكرمة ، أي : جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال :

{ ثُمَّ اتخذتم العجل } [ البقرة : 51 ] { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الفعل من آبائهم .

وقيل : لم يكن آدم عَلِمَ ، ويُؤيدُ الوجه الأول قراءة{[17077]} السّلمي : " عَمَّا تُشرِكُون " بتاء الخطاب وكذلك " أتُشْركُونَ " بالخطابِ أيضاً ، وهو التفات .


[17074]:أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح 4/2289، كتاب الزهد والرقائق باب من أشرك في عمله غير الله الحديث (36/2985).
[17075]:ينظر: السبعة 299، والحجة 4/111، وإعراب القراءات 2/216، وحجة القراءات 304، وإتحاف فضلاء البشر 2/71.
[17076]:ينظر: الدر المصون 3/383.
[17077]:ينظر: المحرر الوجيز 2/488، والبحر المحيط 4/438، والدر المصون 3/383.