اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ وَلِـِّۧيَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡكِتَٰبَۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّـٰلِحِينَ} (196)

قوله : { إِنَّ وَلِيِّيَ الله } العامة على تشديد وَلِيِّيَ مضافاً لياء المتكلم المفتوحة ، وهي قراءة واضحة أضاف الوليَّ إلى نفسه .

وقرأ أبو عمرو في{[17091]} بعض طرقه " إنَّ وليَّ " بياء واحدة مشددة مفتوحة ، وفيها تخريجان :

أحدهما : قال أبُو عليٍّ : إن ياء " فعيل " مدغمةٌ في ياء المتكلم ، وإنَّ الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ ، ومنع من العكس .

والثاني : أن يكون وليَّ اسمها ، وهو اسمُ نكرة غيرُ مضافِ لياء المتكلم ، والأصلُ : إنَّ وليّاً الله ف " وليّاً " اسمها والله خبرها ، ثم حذف التنوين ؛ لالتقاء الساكنين ؛ كقوله : [ المتقارب ]

فأَلْفَيْتُه غَيْر مُسْتَعْتبٍ *** ولا ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا{[17092]}

وكقراءة من قرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1 - 2 ] ولم يبق إلاَّ الإخبارُ عن نكرةٍ بمعرفة ، وهو واردٌ .

قال الشاعر : [ الطويل ]

وإنْ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً *** بآبَائِي الشمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ{[17093]}

وقرأ الجحدريُّ{[17094]} في رواية إنَّ وليِّ الله بكسر الياءِ مشددة ، وأصلها أنَّهُ سكن ياء المتكلم ، فالتقت مع لام التعريف فحذفت ، لالتقاء الساكنين ، وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو : إنَّ غلام الرَّجلُ .

وقرأ في رواية أخرى{[17095]} إنَّ وليَّ اللَّهِ بياء مشددة مفتوحة ، والجلالة بالجرِّ ، نقلهما عنه أبو عمرو الدَّاني أضاف الولي إلى الجلالةِ .

وذكر الأخفشُ وأبو حاتم هذه القراءة عنه ، ولمْ يذكرا نَصْبَ الياء ، وخرَّجها النَّاسُ على ثلاثة أوجه : الأولُ : قولُ الأخفش - وهو أن يكون وَليّ الله اسمُها والَّذي نزَّلَ الكتاب خبرها ، والمراد ب " الذين نزّل الكتابَ " جبريل ، لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } [ النحل : 102 ] إلاَّ أنَّ الأخفش قال في قوله { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } هو من صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل ، وفي تحتم ذلك نظرٌ .

والثاني : أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى ، والمراد بالموصول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويكون ثمَّ عائدٌ محذوفٌ لفهم المعنى والتقدير إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نزَّ الله الكتاب عليه ، فحذف عليه وإن لم يكن مشتملاً على شروط الحذف ، لكنَّه قد جاء قليلاً ، كقوله : [ الطويل ]

وإنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا *** وهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ{[17096]}

أي : صبة اللَّهُ عليه ، وقال آخر : [ الطويل ]

فأصْبَحَ مِنْ أسْمَاءَ قَيْسٌ كقَابضٍ *** عَلى المَاءِ لا يَدْرِي بِمَا هُوَ قَابِضُ{[17097]}

أي بما هو قابض عليه . وقال آخر : [ الطويل ]

لَعَلَّ الَّذي أصْعَدْتني أنْ يَرُدَّنِي *** إلى الأرْضِ إنْ لَمْ يَقْدرِ الخَيْرَ قَادِرُه{[17098]}

أي : أصعدتني به .

وقال آخر : [ الوافر ]

ومِنْ حَسَدٍ يَجُوزُ عَليَّ قَوْمِي *** وأيُّ الدَّهْر ذُو لم يَحْسُدُونِي{[17099]}

أي يحسدوني فيه .

وقال آخر : [ الطويل ]

فَقُلْتُ لهَا لاَ والَّذي حَجَّ حَاتِمٌ *** أخُونُكِ عَهْداً إنَّنِي غَيْرُ خَوَّانِ{[17100]}

أي : حج إليه ، وقال آخر : [ الرجز ]

فأبْلِغَنَّ خَالدَ بنَ نَضْلَةٍ *** والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بِلوْمِ مَنْ يَثقْ{[17101]}

أي : يثقُ به .

وإذا ثبت أنَّ الضمير يُحْذَف في مثل هذه الأماكن ، وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة الشاذة في التخريج المذكور أسوةٌ بها .

والثالث : أن يكون الخبر محذوفاً تقديره : إنَّ وليَّ الله الصَّالحُ ، أو من هو صالح وحذف ، لدلالة قوله : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } وكقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } [ فصلت : 41 ] أي : معذبون ، وكقوله { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ } [ الحج : 25 ] .

فصل

المعنى { إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب } يعني القرآن ، أي : يتولاّني وينصرني كما أيَّدني بإنزال الكتاب { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } قال ابنُ عباسٍ : " يريد الذين لا يعدلُون بالله شيئاً ، فاللَّهُ يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم {[17102]} " .


[17091]:ينظر: السبعة 300، والحجة 4/116-117، وإعراب القراءات 1/217، وإتحاف فضلاء البشر 2/72.
[17092]:تقدم.
[17093]:تقدم.
[17094]:ينظر: المحرر الوجيز 2/490، والبحر المحيط 4/442، والدر المصون 3/386.
[17095]:ينظر: البحر المحيط 4/442، والدر المصون 3/386.
[17096]:تقدم.
[17097]:ينظر: البحر المحيط 4/442، والدر المصون 3/387.
[17098]:تقدم.
[17099]:البيت لحاتم الطائي. ينظر ديوانه ص 276، وشرح التصريح 1/147، والمقاصد النحوية 1/451، وتخليص الشواهد ص 164، وأوضح المسالك 1/175، وشرح الأشموني 1/81، والبحر المحيط 4/443، والدر المصون 3/387.
[17100]:البيت لعريان الجرمي. ينظر الخزانة 6/56، ونوادر أبي زيد ص 65 والبحر المحيط 4/443، وتذكرة النحاة ص 477، وحاشية يس 1/147، ولسان العرب "خون" والدر المصون 3/387.
[17101]:ينظر: البحر المحيط 4/443، وتخليص الشواهد ص 165، وشرح الجمل 1/185، والدر المصون 3/387.
[17102]:ذكره الواحدي في "الوسيط" (2/436) والبغوي في تفسيره ( 2/223) والرازي (15/77).