قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } الآية .
لمَّا أمر بقتال الكفار بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ } وعند المقاتلة قد تحصل الغنيمة ، ذكر تعالى حكم الغنيمة ، والظَّاهرُ أنَّ " ما " هذه موصولةٌ بمعنى " الَّذي " ، وكان من حقِّها أن تكتب منفصلةً من " أنَّ " كما كُتبت : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] منفصلةً ، ولكن كذا رُسِمَت . و " غَنِمْتُم " صلتها ، وعائدها محذوف لاستكمال الشُّروطِ ، أي : غَنِمْتُمُوه .
وقوله " فأنَّ لِلَّهِ " الفاءُ مزيدةٌ في الخبر ؛ لأنَّ المبتدأ ضُمِّن معنى الشَّرطِ ، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه ؛ لأنه لَمْ يُغَيِّر معناه ، وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } ثم قال : " فَلَهُم " والأخفش مع تجويزه زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً ، يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشَّرط إذا دخلت عليه " إنَّ " المكسورة ، وآية البروج [ 10 ] حُجَّةٌ عليه .
وإذا تقرَّر هذا ف " أنَّ " وما علمتْ فيه في محلِّ رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : فواجبٌ أنَّ لله خمسهُ ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر خبر ل " أنَّ " .
وظاهر كلام أبي حيان أنه جعل الفاء داخلةً على : " أنَّ للَّهِ خُمُسَهُ " من غير أن يكون مبتدأ وخبرها محذوف ، بل جعلها بنفسها خبراً ، وليس مرادهُ ذلك ، إذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ ، بل على جملةٍ ، والذي يُقَوِّي إرادته ما ذكرنا أنه حكى قول الزمخشريِّ ، أعني كونه قدَّر أنَّ " أنَّ " ، وما في حيِّزها مبتدأٌ ، محذوفُ الخبر ، فجعلهُ قولاً زائداً على ما قدَّمه .
ويجوز في " ما " أن تكون شرطيةً ، وعاملُها " غَنِمْتُم " بعدها ، واسمُ " أنَّ " حينئذٍ ضميرُ الأمرِ والشَّأنِ وهو مذهبُ الفرَّاءِ ، إلاَّ أنَّ هذا لا يجوزُ عند البصريين إلاَّ ضرورةً ، بشرط ألاَّ يليها فعل ؛ كقوله : [ الخفيف ]
إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكَنِيسَة يَوْماً *** يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وظِبَاءَ{[17340]}
إنَّ مَنْ لامَ بَنِي بنتِ حَسَّا *** نَ ألُمْهُ وأعُصِهِ في الخُطُوبِ{[17341]}
وقيل : الفاءُ زائدةٌ ، و " أنَّ " الثانيةُ بدلٌ من الأولى .
وقال مكي : " وقد قيل " إنَّ الثانية مؤكدةٌ للأولى ، وهذا لا يجوز لأنَّ الأولى تبقى بغير خبر ؛ ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد وزيادتها لا تَحْسُن في مثل هذا " .
وقيل : " ما " مصدريَّةٌ ، والمصدر بمعنى المفعول أي : أنَّ مغنومكم هو المفعول به ، أي : واعلموا أنَّ غُنمكم ، أي : مغنومكم .
والغنيمةُ : أصلها من الغُنْمِ ، وهو الفوزُ ، يقال : غنم يغنم فهو غانم ، وأصلُ ذلك من الغنم هذا الحيوان المعروف ، فإنَّ الظفر به يُسَمَّى غُنْماً ، ثم اتُّسِع في ذلك ، فَسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغَنيمة ؛ قال علقمةُ بنُ عبدةَ : [ البسيط ]
ومُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الغُنْمِ مُطعمُهُ *** أنَّى توَجَّهَ والمَحْرُومُ مَحْرُومُ{[17342]}
لَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى *** رَضيتُ من الغنيمة بالإياب{[17343]}
قوله " مِنْ شيءٍ " في محلِّ نصبٍ على الحال من عائد الموصول المقدَّر ، والمعنى : ما غنمتموه كائناً من شيء ، أي : قليلاً أو كثيراً . وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم . وحكى غيره عن الجعفيِّ عن هارون عن أبي عمرو : " فإنَّ لِلَّهِ " بكسر الهمزةِ ، ويُؤيدُ هذه القراءة قراءة النخعي{[17344]} " فللَّه خُمُسهُ " فإنها استئناف ، وخرجها أبُو البقاءِ على أنَّها وما في حيَّزها في محلِّ رفع ، خبراً ل " أنَّ " الأولى .
وقرأ الحسنُ{[17345]} وعبدُ الوارث عن أبي عمرو : " خُمْسَهُ " بسكون الميم ، وهو تخفيفٌ حسن .
وقرأ الجعفيُّ " خِمْسه " بكسر الخاء . قالوا : وتخريجها على أنَّهُ أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها ، وهي هاء الجلالة من كلمة أخرى مستقلة ، قالوا : وهي كقراءة من قرأ { والسماء ذَاتِ الحبك } [ الذاريات : 7 ] بكسر الحاء إتباعاً لكسرة التاء من " ذاتِ " ولمْ يعتدُّوا بالساكن ، وهو لامُ التعريف ، لأنه حاجزٌ غير حصين .
قال شهاب الدين{[17346]} " ليت شعري ، وكيف يقرأ الجعفيُّ والحالةُ هذه ؟ فإنه إن قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقل ، لخروجه من كسرٍ إلى ضمٍّ ، وإن قرأ بسكونها وهو الظَّاهرُ فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو ، أو عن عاصم ، ولكن الذي قرأ : " ذاتِ الحِبُكِ " يبقى ضمَّه الباء ، فيؤدي إلى " فِعُل " بكسر الفاء وضمِّ العين ، وهو بناءٌ مرفوض " .
وإنما قلت : إنه يقرأ كذلك ؛ لأنه لو قرأ بكسر التاء لما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإتباع ؛ لأن في " الحُبُك " لغتين : ضمُّ الحاءِ والباءِ ، وكسرهما ، حتَّى زعم بعضهم أنَّ قراءة الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ من التَّداخل .
والغنيمةُ في الشريعةِ ، والفيء ، اسمان لما يُصيبه المسلمون من أموال{[17347]} الكفار .
فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قومُ إلى أنَّ الغنيمة ، ما أصابه المسلمُونَ منهم عَنْوَةً بقتال ، والفيء : ما كان من صلح بغير قتال .
قوله " مِن شيءٍ " يعني : من أي شيء كان حتَّى الخيط : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } ذهب أكثر المفسِّرين والفقهاء إلى أنَّ قوله : " لِلَّه " افتتاح على سبيل التبرُّك ، وأضاف هذا المال لنفسه لشرفه . وليس المراد أن سهماً من الغنيمة " لِلَّهِ " مفرداً ، فإن الدنيا والآخرة لله عز وجل وهو قول قتادة والحسن وعطاء وإبراهيم والشعبي قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لِمنْ قاتل عليها ، والخُمْسُ لخمسة أصناف كما ذكر الله تعالى { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل }{[17348]} .
وقال أبو العالية ، وغيره : يقسم الخُمْس على ستة أسهم : سهم لله تعالى ، ثم القائلون بهذا القول منهم من قال : يُصرف سهم الله إلى الرسول ، ومنهم من قال : يصرفُ لعمارة الكعبة{[17349]} .
وقال بعضهم : إنه عليه الصلاة والسلام كان يضربُ بيده في هذا الخُمْس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، وهو الذي سُمِّي " لِلَّهِ " .
قال القرطبي : " هذه الآية ناسخة لأول السُّورة عند الجمهور ، وقد ادَّعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] وأنَّ أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، وأن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر ، على ما تقدم .
وقيل : إنها مُحكمة غير منسوخة ، وأنَّ الغنيمة لرسُولِ الله ، وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة ، حكاه الماورديُّ عن كثير من أصحاب مالكٍ ، واحتجوا بفتح مكَّة وقصَّة حنين ، وكان أبو عبيد يقول : افْتَتَحَ رسولُ الله مكَّة عنوةً ومنَّ على أهلها ، فردها عليهم ، ولم يَقْسِمها ، ولم يجعلها فَيْئاً " .
أجمع العلماءُ على أن قولهُ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } ليس على عمومه ، وأنَّهُ مخصوصٌ باتفاقهم على أنَّ سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمامُ ، وكذلك الأسارى الإمام فيهم مخيَّرٌ ، وكذلك الأراضي المغنومة .
قال الإمامُ أحمدُ : لا يكون السَّلب{[17350]} {[17351]} للقاتل إلاَّ في المبارزة خاصَّة ، ولا يخمس وهو قول الشافعيِّ - رضي الله عنه- ؛ ولا يعطى القاتل السَّلب ، إلاَّ أن يقيم البيَّنة على قتله .
قال أكثرُ العلماء : يجوزُ شاهد واحد ؛ لحديث أبي قتادة ، وقيل : شاهدان .
وقيل : شاهد ويمين ، وقيل : يقضى بمجرد دعواه .
قوله : " ولِذِي القُرْبَى " أي : أنَّ سَهْماً من خمس الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم .
فقال قومٌ : هم جميع قريش ، وقال قومٌ : هم الذين لا تحل لهم الصَّدقة .
وقال مجاهدٌ وعلي بنُ الحسينِ : هم بنُو هاشمٍ وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ، ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، لما روي عن جُبير بن مطعم قال " قسَّم رسولُ الله - عليه الصَّلاة والسَّلام - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط أحداً من بني عبد شمس ، ولا لبني نوفل ؛ ولما روى محمدُ بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : لمَّا قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشمٍ وبني المطلب أتيته أنا ، وعثمان بنُ عفان ، فقلنا يا رسُول الله : هؤلاء إخواننا من بني المُطلَّبِ أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنَّما قرابتنا وقرابتهم واحدةً ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّما بنُو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ هكذا " وشبَّك بين أصابعه " {[17352]}
واختلف العلماءُ في سهم ذوي القربى ، هل هو ثابتٌ اليوم ؟ فذهب أكثرهم إلى أنَّهُ ثابت وهو قول مالك والشافعي ، وذهب أصحابُ الرَّأي إلى أنَّهُ غير ثابت ، وقالوا سهم رسول الله وسهم ذوي القرى مَرْدُودان في الخُمس ، فيقسم خمس الغنيمة لثلاثةِ أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل .
وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، أي : يعطى لفقره لا لقرابته ، والكتاب والسنة يدلاَّن على ثبوته وكذا الخلفاء بعد رسُول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يُفَضل فقير على غني ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد .
وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين ، والأنثى سهماً .
قال القرطبي{[17353]} : " ليست اللاَّم في " لِذِي القُرْبَى " لبيان الاستحقاق والملك ، وإنّما هي للمصرف والمحل " .
قوله : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } اليتامى : جمع " يَتيمٍ " وهو الصغير المسلم الذي لا أب له إذا كان فقيراً ، و " المَسَاكِين " هم أهْلُ الفاقة والحاجة من المسلمين ، و " ابْنِ السَّبيلِ " هو المسافر البعيد عن مالهِ ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدُوا الوقعة ، للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه ، وللرَّاجل سهم ، لما روى ابنُ عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسْهَمَ لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم سَهْماً له وسهمين لفرسه " {[17354]}
وهذا قولُ أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوريُّ ، والأوزاعيُّ وابن المبارك والشافعيُّ واحمد وإسحاق .
وقال أبو حنيفة : للفارس سهمان وللرَّاجلِ سهم ، ويرضخ للعبيد ، والنسوان ، والصبيان إذا حضروا القتال .
قال القرطبيُّ : " إذا خرج العبدُ ، وأهلُ الذِّمة وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس " لأنه لم يوجب عليهم خيل ولا ركاب .
ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقولِ ، وعند أبي حنيفة يتخيَّرُ الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقْفاً على المصالح .
وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول ، ومن قتل مُشركاً استحقَّ سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قَتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سلبه " {[17355]}
والسَّلبُ : كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح وفرسه الذي يركبه .
ويجوز للإمام أن ينفل{[17356]} بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناءٍ وبلاء يكون منهم في الحرب يخُصُّهم به من بين سائر الجيش ، ويجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة ، لما روى ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يُنفِّلُ بعض من يبعث من السَّرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش " {[17357]}
وروى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم " نَفَّلَ الرُّبعَ في البَدْأة والثُّلثَ في الرَّجْعَةِ " {[17358]}
واختلف في النفل من أين يعطى ؟ .
فقال قوم : يعطى من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا لي مِمَّا أفاء الله عليكم إلا الخمس والخُمسُ مردودٌ فيكم " {[17359]}
وقال قومٌ : هو من الأربعة أخماس بعد إفراد الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق .
وذهب بعضهم إلى أنَّ النَّفْلَ من رأس الغنيمةِ قبل التخميس كالسّلب للقاتل{[17360]} .
دلَّت هذه الآية على جوازِ قسمة الغنيمة في دار الحربِ ، لقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية . فاقتضى ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة وإذا ثبت لهم الملك وجب جواز القسمة .
وروى الزمخشريُّ عن الكلبيِّ : " أنَّ هذه الآية نزلت ببدرٍ " {[17361]} .
وقال الواقديُّ " كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة " {[17362]} .
قال القرطبيُّ{[17363]} : " لمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى حكم الخمس وسكت عن الأربعة أخماس دل على أنها ملك للغانمين . وملك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، إلاَّ أن الإمام مخير في الأسرى بين المن بالأمان كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بثمامة بن أثال ، وبين القتل كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي مُعيط من بين الأسرى صبراً ، وقتل ابن الحرث صبراً ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين حضر أو غاب ، وسهم الصفيّ يصطفي سيفاً أو خادماً أو دابة ، وكانت صَفية بنت حُيَيّ من الصَّفيِّ من غنائم خيبر ، وكذلك ذو الفقار كان منه ، وقد انقطع إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقياً للإمام يجعله حيث شاء [ وكان أهل الجاهلية ] يرون للرئيس ربع الغنيمة قال شاعرهم : [ الوافر ]
لكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفايَا *** وحُكْمُكَ والنَّشيطةُ والفُضُول{[17364]}
يقال ربع الجيش يربعه : إذا أخذ ربع الغنيمة . قال الأصمعي : ربع في الجاهلية وخمّس في الإسلام ، فكان يأخذ منها ثم يتحكم بعد الصَّفيِّ في أي شيء أراد ، وكان ما فضل منها من خرثيّ ومتاع له ، فأحكم الله تعالى الدين بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } فأبقى سهم الصَّفيِّ لنبيّه وأسقط حكم الجاهلية .
قوله : " إن كُنتُم " شرطٌ ، جوابه مقدرٌ عند الجمهور ، لا متقدم ، أي : إن كنتم آمنتم فاعلموا أنَّ حكم الخمس ما تقدَّم ، أو : فاقبلوا ما أمرتم به .
والمعنى : واعلمُوا أنَّما غَنِمْتُم من شيءٍ فانَّ للَّهِ خُمُسَه وللرَّسُولِ يأمر فيه ما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم باللَّهِ ، وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، وهو قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] لمَّا نزلت في يوم بدر ، وهو يوم الفرقان فرق اللَّهِ فيه بين الحقِّ والباطل ، وهو يوم التقى الجمعان ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة سبع عشر مضت من رمضان .
وقوله " ومَا أنزلْنَا " عطفٌ على الجلالة ، فهي مجرورةُ المحلِّ ، وعائدُها محذوف ، وزعم بعضهم أنَّ جواب الشَّرطِ متقدم عليه ، وهو قوله ف { نِعْمَ المولى } [ الأنفال : 40 ] . وهذا لا يجوز على قواعد البصريين .
قوله : " يَوْمَ الفُرقِانِ " يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكُون منصوباً ب " أنزَلْنَا " أي : أنزلْنَاهُ في يوم بدر ، الذي فُرِقَ فيه بين الحق والباطل .
الثاني : أن ينتصبَ بقوله " آمنتُم " أي : إن كنتم آمنتم في يوم الفرقانِ ، ذكره أبُو البقاءِ .
الثالث : يجوزُ أن يكون منصوباً ب " غَنِمْتُم " .
قال الزَّجَّاجُ : أي : ما غنمتم في يومِ الفرقان فحكمه كذا وكذا .
قال ابن عطية{[17365]} : " وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى ، ويعترضه أنَّ فيه الفصل بين الظرف وما يعمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ " ، وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصّ من هذه . وذلك أنَّ " ما " إمَّا شرطية ، كما هو رأي الفرَّاءِ ، وإمَّا موصولة ، فعلى الأوَّل يُؤدِّي إلى الفصل بين فعل الشَّرط ، ومعموله بجملة الجزاء ، ومتعلَّقاتها ، وعلى الثَّاني يُؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر " أنَّ " .
قوله { يَوْمَ التقى الجمعان } فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ بدل من الظرف قبله .
والثاني : أنه منصوب ب " الفرقان " ؛ لأنَّه مصدرٌ ، فكأنه قيل : يوم فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي : الفرق في يوم التقاء الجمعين .
وقرأ زيد{[17366]} بن علي : " عَلَى عُبُدنَا " بضمتين ، وهو جمع " عَبْد " وهذا كما قد قرئ { وَعَبَدَ الطاغوت } [ المائدة : 60 ] ، والمراد بالعُبُد في هذه القراءة هنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ، والمراد ب " مَا أنزلْنَا " أي : الآيات والملائكة ، والفتح في ذلك اليوم . { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : يقدر على نصركم وأنتم قليلون .
قوله " إذْ أنتُم " في هذا الظَّرف أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ ب " اذكُرُوا " مُقدراً ، وهو قول الزَّجَّاجِ .
الثاني : أنَّهُ بدلٌ من " يَوْمَ الفرقانِ " أيضاً .
الثالث : أنه منصوب ب " قديرٌ " وهذا ليس بواضحٍ ؛ إذ لا يتقيَّد اتِّصافه بالقدرة بظرفٍ من الظُّروف .
الرابع : أنه منصوبٌ ب " الفُرْقَانِ " أي : فرق بين الحقِّ والباطل إذْ أنتم بالعُدَّوَةِ .