اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرٗا وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (47)

قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } .

نزلت في المشركين حين أقْبَلُوا إلى بدر ، ولهم بغي وفخرٌ . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " اللهم هذه قريشٌ قد أقبلت بخيلائها ، وفخرها تُجادل وتُكذِّب رسولك ، اللَّهُمَّ فنصرك الذي وعدتني " .

ولمَّا رأى أبُو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش إنكم إنَّما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجَّاها اللَّهُ ، فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتَّى نردَ بَدْراً – وكان في بدر موسم من مواسم العرب ، يجتمع لهم بها سوق كل عام- فنقيم بها ثلاثا ، فننحر الجزور ، ونطعم الطَّعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيانُ ، وتسمع بنا العربُ ، فلا يزالُونَ يهابوننا أبَداً . فوافوها فَسُقُوا كئوس المنايا مكان الخمر ، وناحَتْ عليهم النَّوائحُ مكان القيان ، فنهى اللَّهُ تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم ، وأمرهم بإخلاص النِّية ، والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه .

واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء :

أحدها : البطر .

قال الزَّجَّاجُ : البَطَرُ : الطغيان في النعمة وترك شكرها .

وثانيها : الرِّئاءُ ، وهو أظهار الجميل ليرى ، مع أنَّ باطنهُ يكون قبيحاً .

والفرق بينه وبين النفاق : أنَّ النفاق : إظهار الإيمان مع إبطان الكفر ، والرئاء : إظهار الطَّاعة مع إبطان المعصية .

وثالثها : صدهم عن سبيل اللَّهِ ، وهو كونهم مانعين عن دين محمد - عليه الصلاَّة والسَّلام - .

قوله : " بَطَراً ورِئاءَ " منصوبان على المفعول له ، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع نصبٍ على الحال ، من فاعل : " خَرَجُوا " ، أي : خَرُجوا بطرينَ ومُرائين ، و " رئَاءَ " مصدرٌ مضاف لمفعوله .

قوله " ويَصُدُّونَ " : يجوزُ أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون عطفاً على : " بَطَراً ورِئَاءَ " وحفَ المفعولُ للدَّلالةِ عليه .

فإن قيل : " يَصُدُّون " فعل مضارع ، وعطف الفعل على الاسم غير حسن . فذكر الواحديُّ في الجواب ثلاثة أوجه :

الأول : أن " يَصُدُّون " بمعنى : صادين ، أي : بطرين ومرائين وصادين .

والثاني : أن يكون قوله " بَطَراً ورِئَاءَ " حالان على تأويل : مبطرين ومرائين ، ويكون قوله " ويصدون " أي : وصادين .

الثالث : أن يكون قوله " بَطَراً ورِئَاءَ " بمنزلة : يبطرون ويراؤون .

قال ابنُ الخطيبِ : " إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل ؛ لأنَّهُ تارةً يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها .

وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبَّر عن الأولين بالمصدر ، وعن الثالث بالفعل . قال : إنَّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، ذكر أنَّ الاسم يدلُّ على التَّمكين والاستمرار ، والفعل على التجدد والحدوث ، مثاله في الاسم قوله تعالى { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ، ومثال الفعل قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السماء والأرض }

[ يونس : 31 ] وذلك يُدلُّ على أنه تعالى يوصل الرِّزق إليهم ساعة فساعة .

وإذا عرفت ذلك فنقول : إنَّ أبا جهلٍ ورهطهُ كانوا مجبولين على البطرِ ، والمفاخرة والعجب وأما صدهم عن سبيل اللَّهِ فإنما حصل في الزَّمانِ الذي ادَّعى محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيه النبوة ، فلهذا ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم ، وذكر الصد بصيغة الفعل " .

واعلم أنَّ الذي قاله ابن الخطيب لا يخدش فيما أجاب به الواحديُّ ؛ لأنَّ الواحدي إنَّما أراد من حيث الصِّناعة ، لا من حيث المعنى .

ثم قال : { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : أنه عالم بما في دواخل القلوب ، وذلك كالتَّهديدِ والزَّجر عن الرئاء .