اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ ٱلۡيَوۡمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٞ لَّكُمۡۖ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلۡفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّنكُمۡ إِنِّيٓ أَرَىٰ مَا لَا تَرَوۡنَ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَۚ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (48)

قوله تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } الآية .

وهذه من جملة النعم التي خصَّ اللَّهُ أهل بدر بها ، وفي العامل في " إذْ " وجوه : قيل : تقديره اذكر إذْ زيَّن لهم ، وقيل : عطف على ما تقدم من تذكير النعم ، وتقديره : واذكروا إذ يريكموهم وإذْ زيَّن .

وقيل : هو عطف على قوله : { خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ الناس } تقديره : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وإذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم ؛ فتكون الواو للحال ، و " قد " مضمرة بعد الواو ، عند من يشترط ذلك والله أعلم

فصل

في هذا التَّزيين وجهان :

الأول : أن الشيطان زيَّن بوسوسته من غير أن يتحوَّل في صورة إنسان ، وهو قول الحسن{[17402]} والأصم .

والثاني : أنَّه ظهر في سورة إنسان .

قالوا : إن المشركين حين أرَادُوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة ؛ لأنَّهُم كانوا قتلوا منهم واحداً ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتصوَّر لهم إبليسُ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وهو في بني بكر بن كنانة من أشرافهم في جند من الشياطين ، ومعه راية ، وقال لا غالِبَ لَكُمْ اليَوْمَ من النَّاسِ وإني جار لكم ، مجيركم ، من بني كنانة ، { فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفئتان } أي : التقى الجمعان ، رأى إبليسُ الملائكة نزلوا من السماء ، فعلم أنْ لا طاقةَ لهم بهم { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } وكانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نَكَصَ ، قال الحارثُ : أتَخْذلنا في هذه الحال ؟

فقال : إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانهزموا .

قوله { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم } لكم خبر " لا " فيتعلق بمحذوف ، و " اليَوْمَ " منصوب بما تعلَّق به الخبر ، ولا يجوزُ أن يكون " لكم " أو الظرف متعلقاً ب " غَالِبَ " ؛ لأنه يكون مُطَوَّلاً ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب نَصْباً .

قوله " مِنَ النَّاس " بيان لجنس الغالبِ .

وقيل : هو حالٌ من الضَّميرِ في " لَكُمُ " لتضمُّنه معنى الاستقرار ، ومنع أبو البقاءِ أن يكون " من النَّاس " حالاً من الضمير في " غَالِبَ " ، قال : " لأنَّ اسم " لا " إذا عمل فيما بعده أعرب " والأمر كذلك .

قوله { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكُون معطوفةً على قوله { لاَ غَالِبَ لَكُمْ } فيكون قد عطف جملة مثبتة على أخرى منفيَّة ، ويجوزُ أن تكون الواو للحال ، وألف " جارٌ " من واو ، لقولهم : " تَجاورُوا " وقد تقدَّم تحقيقه [ النساء : 36 ] . و " لكم " متعلِّقٌ بمحذوف ؛ لأنَّهُ ل " جارٌ " ، ويجُوز أن يتعلَّق ب " جار " لما فيه من معنى الفعل ، ومعنى " جار لكم " أي : مجير لكم من كنانة .

قوله { فَلَمَّا تَرَاءَتِ الفئتان } أي : التقى الجمعان ؛ { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } " نَكَصَ " : جواب " لمَّا " والنُّكُوص : قال النضر بنُ شميلٍ : الرُّجوع قَهْقَرَى هارباً ، قال بعضهم : هذا أصله ، إلاَّ أنه قد اتُّسِع فيه ، حتى استُعْمل في كلِّ رجوع ، وإن لم يكن قَهْقَرَى ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]

هُمْ يَضْربُونَ حَبيكَ البَيْض إذْ لَحِقُوا *** لا يَنْكُصُونَ إذَا مَا استُلْحِمُوا وحَمُوا{[17403]}

وقال مُؤرِّج : " النُّكُوصُ : الرجوعُ بلغة سُلَيْم " ؛ قال : [ البسيط ]

لَيْسَ النُّكُوصُ على الأعقابِ مَكْرُمَةً *** إنَّ المكارِمَ إقْدَامٌ على الأسَلِ{[17404]}

فهذا إنَّما يريدُ به مُطْلَق الرُّجوع ؛ لأنَّهُ كنايةٌ عن الفرارِ ، وفيه نظر ؛ لأنَّ غالب الفرار في القتال إنَّما هو كما ذُكِر ، رجوعُ القَهْقَرَى ، كخوف الفَار .

و " عَلَى عَقبَيْهِ " حال ، إمَّا مؤكدةٌ ، عند من يَخُصُّه بالقهقرى ، أو مُؤسِّسةٌ ، عند من يستعمله في مطلق الرُّجُوعِ .

ثم قال : { إِنِّي بريء مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } .

قيل : رأى الملائكة فخافهم .

وقيل : رأى أثر النُّصْرَة والظَّفر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بليّة .

وقيل : رأى جبريل فخافه .

وقيل : لمَّا رأى الملائكة ينزلون من السماء ظنَّ أنَّ الوقت الذي أنظر إليه قد حضر ، وأشفق على نفسه ، وقيل " أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ " من الرأي .

وقوله : { إني أَخَافُ الله } قال قتادة : " قال إبليس " إنِّي أرَى ما لا ترَوْنَ " وصدق ، وقال { إني أَخَافُ الله } وكذب ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، فأوردهم وأسلمهم " {[17405]} .

وقال عطاءٌ : إنّي أخاف اللَّهَ أن يهلكني فيمن هلك{[17406]} .

وقال الكلبيُّ : خاف أن يأخذه جبريل ويعرفهم حاله ، فلا يطيعوه{[17407]} .

وقيل : معناه إنِّي أخافُ الله ، أي : أعلم صدق وعده لأوليائه ؛ لأنه كان على ثقة من أمره ، وقيل : معناه إنِّي أخاف الله عليكم .

وقوله : { والله شَدِيدُ العقاب } .

قيل : انقطع الكلام عند قوله " أخَافُ اللَّه " ثم قال { والله شَدِيدُ العقاب } ويجُوز أن يكون من بقيِّة كلام إبليس .

روى طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

" مَا رُئيِ الشيطانُ يوماً هُو فيه أصغرُ ، ولا أدحرُ ، ولا أحقَرُ ، ولا أغْيَظُ مِنْهُ في يَوْمِ عرفةَ ، وما ذاكَ إلاَّ لِمَا رَأى من تنزُّلِ الرَّحْمَة وتجاوزُ الله عن الذُّنُوبِ العظام ، إلاَّ ما كان من يَوْمِ بدرٍ " {[17408]}

فقيل : وَمَا رأى يَوْمَ بدرٍ ؟ قال : " أما إنَّهُ رَأى جبريلَ وهُوَ يَنْزعُ المَلائِكَة " ، حديث مرسل .


[17402]:ذكره الرازي في تفسيره (15/140).
[17403]:البيت لزهير بن أبي سلمى ينظر: ديوانه (159) الطبري 14/11 الدر المصون 3/426 اللسان [لحم] والبحر المحيط 4/491.
[17404]:البيت لتأبط شرا كما في البحر المحيط 4/492 وتفسير القرطبي 8/27، والدر المصون 3/426.
[17405]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/264) عن قتادة.
[17406]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/255) عن عطاء.
[17407]:انظر المصدر السابق.
[17408]:أخرجه مالك (1/422) كتاب الحج: باب جامع الحج حديث (245) وعبد الرزاق في "المصنف" (5/17-18) رقم (8832) والبغوي في "تفسيره" (2/255) عن طلحة بن عبيد الله بن كيرز مرسلا.