اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كِرَامٗا كَٰتِبِينَ} (11)

النوع الثاني : قوله { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } : يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل «تكذِّبون » ، والحالة هذه ، ويجوز أن تكون مستأنفة أخبرهم بذلك لينزجروا والمراد بالحافظين : الرُّقباءُ من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم .

«كراماً » على الله «كاتبين » يكتبون أقوالكم وأعمالكم .

قال ابنُ الخطيب{[59539]} : والمعنى : التعجب من حالهم ، كأنَّه - تعالى - قال : إنكم تكذِّبون بيوم الدين وهو يوم الحساب والجزاء ، وملائكة الله - تعالى - موكَّلون بكم ، يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ، ونظيره : قوله تعالى : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 17 ، 18 ] وقوله تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } [ الأنعام : 61 ] .

فصل في الرد على من طعن في حضور الكرام الكاتبين

قال ابن الخطيب : من الناس من طعن في حضور الكرام الكاتبين من وجوه :

الأول : لو كان الحفظة ، وصحفهم وأقلامهم معنا ، ونحن لا نراهم لجاز أن يكون بحضرتنا جبال ، وأشخاص لا نراهم ، وذلك دخول في الجهالات .

والثاني : هذه الكتابة ، والضبط إن كان لا لفائدةٍ فهو عبثٌ ، وهو غير جائزٍ على الله تعالى ، وإن كان لفائدةٍ ، فلا بد وأن تكون للعبد ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - متعالٍ عن النفع والضر ، وعن تطرق النسيان إليه ، وغاية ذلك أنَّه حُجَّة على الناس وتشديد عليهم لإقامة الحُجَّة ، ولكن هذا ضعيف ؛ لأنَّ من علم أنَّ الله تعالى لا يجور ، ولا يظلم ، لا يحتاج في حقه إلى إثبات هذه الحجة ، والذي لا يعلم لا ينتفع بهذه الحجة ، لاحتمال أنَّه تعالى أمرهم بذلك ظلماً .

الثالث : أنَّ أفعال القلوب غير مرئية ، فهي من باب المغيبات ، والله - تعالى - مختص بعلم الغيب ، فلا تكتبوها ، والآية تقتضي ذلك .

والجواب عن الأول : أنَّ البنية عندنا ليست شرطاً في قبول الحياة ؛ ولأن عند سلامة الأعضاء ، وحصول جميع الشرائط لا يجب الإدراك ، فيجوز على الأوَّل : أن يكونوا أجراماً لطيفة ، تتمزق ، وتبقى حياتها ذلك ، وعلى الثاني : يجوز أن يكونوا أجراماً كثيفة ، ونحن لا نراهم .

وعن الثاني : أن الله - تعالى - أجرى أموره على عباده على ما يتعارفونه في الدنيا فيما بينهم ؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى عندهم في إخراج كتاب ، وشهود في إلزام الحجة ، كما يشهد العدول عند الحاكم على القضاة .

وعن الثالث : أن ذلك مخصوص بأفعال الجوارح ، فهو عام مخصوص ، وفي مدح الحفظة ، ووصفهم بهذه الصفات تعظيم لأمر الجزاء ، وأنَّه من جلائل الأمور .

فصل في عموم الخطاب

هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلاَّ أنَّ الأمَّة أجمعت على عموم هذا الحكم في حقِّ المكلَّفين .

وقوله تعالى : { لَحَافِظِينَ } : جمع يحتملُ أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم ، من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم ، ويحتمل أن يكون الموكَّل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة ، كما قيل : اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، أو كما قيل : إنهم خمسة .

فصل في أن الكفَّار ، هل عليهم حفظة ؟ .

اختلفوا في الكفَّار هل عليهم حفظة ؟ .

فقيل : لا ؛ لأن أمرهم ظاهر وعلمهم واحد ، قال تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } [ الرحمن : 41 ] .

وقيل : بل عليهم حفظة لقوله تعالى : { بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } ، وأمَّا من أوتي كتابه بشماله ، ومن أوتي كتابه وراء ظهره ، فأخبر أنَّ لهم كتاباً وعليهم حفظة .

فإن قيل : أي شيء يكتب الذي عن يمينه ، ولا حسنة له ؟ .

فالجواب : أنَّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ، ويكون صاحبه شاهداً على ذلك ، وإن لم يكتب .

فصل في معرفة الملائكة هَمَّ الإنسان

سُئِلَ سفيان : كيف تعرف الملائكة أنَّ العبد همَّ بمعصية ، أو بحسنة ؟ قال : إذا همَّ العبد بحسنة وجد منه ريح المسك ، وإن همَّ بسيئة وجد منه ريح منتن .


[59539]:ينظر الفخر الرازي 31/57.