اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ} (6)

قوله تعالى : { يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } أي : المتجاوز .

والعامة : على «غرَّك » ثلاثياً ، و«ما » الاستفهامية : في محل رفع على الابتداء .

وقرأ ابن جبير ، والأعمش{[59524]} : «ما أغَرَّكَ » ، فاحتمل أن تكون استفهامية ، وأن تكون تعجبية ، ومعنى «أغرّه » : أدخله في الغرَّة ، أو جعله غارًّا .

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

لما أخبر في تلك الآية أولى عن وقوع الحشر والنشر ، ذكر هاهنا ما يدل عقلاً ونقلاً على إمكانه ، أو على وقوعه ، وذلك من وجهين :

الأول : أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع مواد نعمه عن المذنبين ، كيف يجوز في كرمه ألا ينتقم من الظالم ؟ .

الثاني : أن القادر على خلق هذه البنية الإنسانية ، ثم سوَّاها ، وعدلها ، إمَّا أن يقال : إنه - تعالى - خلقها لا لحكمةٍ ، وذلك عبث ، وهو على الله تعالى محال ؛ لأنه - تعالى - منزَّهٌ عن العبث ، أو خلقها لحكمةٍ ، فتلك الحكمة أن تكون عائدة على الله تعالى ، وذلك باطل ؛ لأنه منزَّهٌ عن الاستكمال والانتفاع ، فتعين أن تكون الحكمة عائدة إلى العبد ، وتلك الحكمة أن تظهر في الدنيا ، فذلك باطل ؛ لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار انتفاع وجزاء ، فثبت أن تلك الحكمة إنما تظهر في دار الجزاء ، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق ، والتسوية ، والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه تعالى يبعث الأموات ويحشرهم .

فصل في نزول الآية

هذا [ خطاب ]{[59525]} لمنكري البعث .

روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنها نزلت في الوليد بن المغيرة .

وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في الأشرم بن شريقٍ{[59526]} ، وذلك أنَّه ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه الله تعالى ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .

وقيل : يتناول جميع العصاة ؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعنى «ما غرَّك » : ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى تركت الوجبات ، وأثنيت بالمحرمات .

والمعنى : ما الذي أمَّنك من عقابه ، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة ، فإن حملناه على الكافر ، فالمعنى : ما الذي دعاك إلى الكفر ، وإنكار الحشر والنشر .

فإن قيل : كونه كريماً يقتضي ألا يغتر الإنسان بكرمه ؛ لأنه جواد مطلق ، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع ، وعصيان المذنب ، وهذا لا يوجب الاغترار وروي عن عليّ - رضي الله عنه - أنَّه دعا غلامه مرات ، فلم يجبه ، فنظر فإذ هو بالباب ، فقال له : لم لا تجبني ؟ فقال : لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه .

وقالوا - أيضاً - من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، وإذا ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله - هاهنا - مانعاً من الاغترار ؟ .

فالجواب من وجوه :

الأول : أن المعنى لما كنت ترى حلم الله - تعالى - عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب ، ولا دار إلا هذه الدار ، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرَّأك على إنكار الحشر ، والنشر ، فإنَّ ربك كريم ، فهو من كرمه - تعالى - لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة ، وتأخيراً للجزاء ، وذلك لا يقتضي الاغترار .

الثاني : أنَّ كرمه تعالى لمَّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه ، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى ، فإذاً كان كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار ، وترك الجزاء والاغترار .

الثالث : أنَّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة ، والاستحياء من الاغترار .

الرابع : قال بعضهم : إنما قال : «بربِّكَ الكَريمِ » ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول : غرني كرمُك ، فلولا كرمك لما فعلت ؛ لأنك لو رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت .

وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى : { يا أيها الإنسان } ليس هو «الكافر » .

فصل في غرور ابن آدم

قال قتادةُ - رضي الله عنه - : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان{[59527]} وقال مقاتل : غرَّه عفو الله حين لم يعاقبه أوَّل مرة{[59528]} .

وقال السديُّ : غرَّه عفو الله{[59529]} .

وقال ابن مسعودٍ : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول تعالى : ما غرَّك يا ابن آدم ، ماذا غرَّك يا ابن آدم ، ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين{[59530]} ؟ .


[59524]:ينظر : الكشاف 4/715، والمحرر الوجيز 5/447، والبحر المحيط 8/427، والدر المصون 6/488.
[59525]:في ب: جواب.
[59526]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/161).
[59527]:ينظر المصدر السابق وذكره البغوي في "تفسيره" (4/455).
[59528]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/455).
[59529]:ينظر المصدر السابق.
[59530]:ينظر المصدر السابق.